قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } . أي : ما ذكر على ذبحه اسم غير الله تعالى .
قوله تعالى : { والمنخنقة } . وهي التي تختنق فتموت ، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة ، حتى إذا ماتت أكلوها .
قوله تعالى : { والموقوذة } . هي المقتولة بالخشب ، قال قتادة : كانوا يضربونها بالعصا ، فإذا ماتت أكلوها .
قوله تعالى : { والمتردية } . هي التي تتردى من مكان عال ، أو في بئر ، فتموت . قوله تعالى : { والنطيحة } . هي التي تنطحها أخرى فتموت ، وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل ، فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث ، نحو عين كحيل ، وكف خضيب ، فإذا حذفت الاسم ، وأفردت الصفة ، أدخلوا الهاء ، فقالوا : كحيلة ، وخضيبة . وهنا أدخل الهاء ، لأنه لم يتقدمها الاسم ، فلو أسقط الهاء لم يدر أنها صفة مؤنث أم مذكر ، ومثله الذبيحة ، والنسيكة ، وأكيلة السبع .
قوله تعالى : { وما أكل السبع } . يريد ما بقي مما أكل السبع ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه .
قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } . يعني : إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء ، وأصل التذكية الإتمام ، يقال : ذكيت النار ، إذا أتممت اشتعالها ، والمراد هنا : إتمام فري الأوداج ، وإنهار الدم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه ، فكل . غير السن ، والظفر . وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع المريء ، والحلقوم . وكماله أن يقطع الودجين معهما ، ويجوز بكل محدد يقطع ، من حديد ، أو قصب ، أو زجاج ، أو حجر . إلا السن ، والظفر . فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما ، وإنما يحل ما ذكيته بعدما جرحه السبع ، وأكل شيئا منه إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته ، فأما ما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح فهو في حكم الميتة ، فلا يكون حلالاً وإن ذبحته ، وكذلك المتردية ، والنطيحة ، إذا أدركتها حيةً قبل أن تصير إلى حالة المذبوح ، فذبحتها ، تكون حلالاً . ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه ، فسقط على الأرض ومات ، كان حلالا لأن الوقوع على الأرض من ضرورته فإن سقط على جبل ، أو شجر ، ثم تردى منه فمات ، فلا يحل ، وهو من المتردية ، إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء ، فيحل كيفما وقع ، لأن الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح .
قوله تعالى : { وما ذبح على النصب } . قيل : النصب جمع واحده نصاب ، وقيل : هو واحد ، وجمعه أنصاب ، مثل : عنق وأعناق ، وهو الشيء المنصوب ، واختلفوا فيه فقال مجاهد وقتادة : كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجراً منصوبة ، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ، ويذبحون لها ، وليست هي بأصنام ، إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة ، وقال الآخرون : هي الأصنام المنصوبة ، ومعناه : وما ذبح على اسم النصب ، قال ابن زيد : ( وما ذبح على النصب ) ( وما أهل لغير الله به ) : هما واحد ، قال قطرب : على بمعنى اللام ، أي : وما ذبح لأجل النصب .
قوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } . أي : ويحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام والأزلام هي : القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها زلم ، زلم بفتح الزاي ، وضمها ، كانت أزلامهم سبعة قداح مستوية ، من شوحط ، يكون عند سادن الكعبة ، مكتوب على واحد نعم ، وعلى واحد لا ، وعلى واحد منكم ، وعلى واحد من غيركم ، وعلى واحد ملصق ، وعلى واحد العقل ، وواحد غفل ليس عليه شيء ، فكانوا إذا أرادوا أمراً من سفر ، أو نكاح ، أو ختان أو غيره ، أو تداوروا في نسب ، أو اختلفوا في تحمل عقل ، جاءوا إلى هبل ، وكان أعظم أصنام قريش بمكة ، وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح ، حتى يجيل القداح ، ويقولون : يا إلهنا ، إنا أردنا كذا وكذا ، فإن خرج نعم ، فعلوا ، وإن خرج لا ، لم يفعلوا ذلك حولاً ، ثم عادوا إلى القداح ثانيةً ، فإذا أجالوا على نسب فإن خرج منكم ، كان وسطاً منهم ، وإذا خرج من غيركم ، كان حليفاً ، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ، ولا حلف ، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله ، وإن خرج الغفل أجالوا ثانياً حتى يخرج المكتوب ، فنهى الله عز وجل عن ذلك وحرمه . قوله تعالى : { ذلكم فسق } . قال سعيد بن جبير : الأزلام حصا بيض ، كانوا يضربون بها ، وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقال الشعبي وغيره : الأزلام للعرب ، والكعاب للعجم . وقال سفيان بن وكيع : هي الشطرنج . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العيافة ، والطيرة ، من الجبت " ، والمراد من الطرق : الضرب بالحصى .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا ابن فنجويه ، أنا فضل السندي ، أخبرنا الحسن بن داود الخشاب ، أنا سويد بن سعيد ، أنا أبو المختار ، عن عبد الملك بن عمير ، عن رجاء بن حيوة ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تكهن ، أو استقسم ، أو تطير طيرة ترده عن سفره ، لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة ) .
قوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } . يعني : أن ترجعوا إلى دينهم كفارا ، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم ، فلما قوي الإسلام أيسوا ، ويئس وأيس بمعنى واحد .
قوله تعالى : { فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } . نزلت هذه الآية يوم الجمعة ، يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء ، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، حدثني الحسن بن الصباح . سمع جعفر بن عون ، أنا أبو العميس ، أنا قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : أية آية ؟ قال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة . أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيداً لنا . قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة ، وعرفة ، وعيد اليهود ، والنصارى ، والمجوس . ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده .
وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا عمر ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، قال : صدقت " . وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم ، وعاش بعدها إحدى وثمانين يوماً ، ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ، سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، وكانت هجرته في الثاني عشر من شهر ربيع الأول . أما تفسير الآية قوله عز وجل : { اليوم أكملت لكم دينكم } يعني : يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم ، يعني الفرائض ، والسنن ، والحدود ، والأحكام . والحلال ، والحرام . فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ، ولا شيء من الفرائض والسنن ، والحدود ، والأحكام . هذا معنى قول ابن عباس رضي عنهما . ويروى عنه أن آية الربا نزلت بعدها . وقال سعيد بن جبير وقتادة : { أكملت لكم دينكم } فلم يحج معكم مشرك وقيل : أظهرت دينكم وأمنتكم من العدو ، وقوله عز وجل : { وأتممت عليكم نعمتي } يعني : وأنجزت وعدي في قولي { ولأتم نعمتي عليكم } فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين ، وعليها ظاهرين ، وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين ، { ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، سمعت عبد الواحد قال : سمعت أبا محمد بن حاتم قال : سمعت أبا بكر النيسابوري ، سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي ، سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، سمعت عبد الملك بن مسلمة ، أنا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال جبريل ، عليه السلام قال الله تعالى : " هذا دين ارتضيته لنفسي ، ولن يصلحه إلا السخاء ، وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه " .
قوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة } . أي : جهد في مجاعة ، والمخمصة خلو البطن من الغذاء ، يقال : رجل خميص البطن ، إذا كان طاوياً خاوياً .
قوله تعالى : { غير متجانف لإثم } . أي : مائل إلى إثم ، وهو أن يأكل فوق الشبع ، وقال قتادة : غير متعرض لمعصية في مقصده .
قوله تعالى : { فإن الله غفور رحيم } . وفيه إضمار . أي : فأكله فإن الله غفور رحيم . أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حسن المزوري ، أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان ، أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان ، أنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكي ، أنا أبو عبيدة القاسم بن سلام ، أنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن أبي واقد الليثي ، قال رجل : يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا الميتة ؟ فقال : ما لم تصطحبوا ، أو تغتبقوا ، أو تخنقوا بها بقلاً ، فشأنكم بها .
ثم يأخذ السياق في تفصيل ما استثناه في الآية الأولى من السورة من حل بهيمة الأنعام :
( حرمت عليكم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع - إلا ما ذكيتم - وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام . . ذلكم فسق . . اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا . . فمن اضطر في مخمصة - غير متجانف لإثم - فإن الله غفور رحيم ) .
والميتة والدم ولحم الخنزير ، سبق بيان حكمها ، وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل إليه العلم البشري بحكمة التشريع الإلهي ، عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات [ ص 156 - ص157 من الجزء الثاني من الظلال ] وسواء وصل العلم البشري إلى حكمة هذا التحريم أم لم يصل ، فقد قرر العلم الإلهي أن هذه المطاعم ليست طيبة ؛ وهذا وحده يكفي . فالله لا يحرم إلا الخبائث . وإلا ما يؤذي الحياة البشرية في جانب من جوانبها . سواء علم الناس بهذا الأذى أو جهلوه . . وهل علم الناس كل ما يؤذي وكل ما يفيد ؟ !
وأما ما أهل لغير الله به ، فهو محرم لمناقضته ابتداء للإيمان . فالإيمان يوحد الله ، ويفرده - سبحانه - بالألوهية ويرتب على هذا التوحيد مقتضياته . وأول هذه المقتضيات أن يكون التوجه إلى الله وحده بكل نية وكل عمل ؛ وأن يهل باسمه - وحده - في كل عمل وكل حركة ؛ وأن تصدر باسمه - وحده - كل حركة وكل عمل . فما يهل لغير الله به ؛ وما يسمى عليه بغير اسم الله [ وكذلك ما لا يذكر اسم الله عليه ولا اسم أحد ] حرام ؛ لأنه ينقض الإيمان من أساسه ؛ ولا يصدر ابتداء عن إيمان . . فهو خبيث من هذه الناحية ؛ يلحق بالخبائث الحسية من الميتة والدم ولحم الخنزير .
وأما المنخنقة [ وهي التي تموت خنقا ] والموقوذة [ وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت ] والمتردية [ وهي التي تتردى من سطح أو جبل أو تتردى في بئر فتموت ] والنطيحة [ وهي التي تنطحها بهيمة فتموت ] وما أكل السبع [ وهي الفريسة لأي من الوحش ] . . فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح : [ إلا ما ذكيتم ] فحكمها هو حكم الميتة . . إنما فصل هنا لنفي الشبهة في أن يكون لها حكم مستقل . . على أن هناك تفصيلا في الأقوال الفقهية واختلافا في حكم " التذكية " ، ومتى تعتبر البهيمة مذكاة ؛ فبعض الأقوال يخرج من المذكاة ، البهيمة التي يكون ما حل بها من شأنه أن يقتلها سريعا - أو يقتلها حتما - فهذه حتى لو أدركت بالذبح لا تكون مذكاة . بينما بعض الأقوال يعتبرها مذكاة متى أدركت وفيها الروح ، أيا كان نوع الإصابة . . والتفصيل يطلب في كتب الفقة المختصة . .
واما ما ذبح على النصب - وهي أصنام كانت في الكعبة وكان المشركون يذبحون عندها وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية ، ومثلها غيرها في أي مكان - فهو محرم بسبب ذبحه على الأصنام - حتى لو ذكر اسم الله عليه ، لما فيه من معنى الشرك بالله .
ويبقى الاستقسام بالأزلام . والأزلام : قداح كانوا يستشيرونها في الإقدام على العمل أو تركه . وهي ثلاثة في قول ، وسبعة في قول . وكانت كذلك تستخدم في الميسر المعروف عند العرب ؛ فتقسم بواسطتها الجزور - أي الناقة التي يتقامرون عليها - إذ يكون لكل من المتقامرين قدح ، ثم تدار ، فإذا خرج قدح أحدهم كان له من الجزور بقدر ما خصص لهذا القدح . . فحرم الله الاستقسام بالأزلام - لأنه نوع من الميسر المحرم - وحرم اللحوم التي تقسم عن هذا الطريق . .
( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) .
فالمضطر من الجوع - وهو المخمصة - الذي يخشى على حياته التلف ، له أن يأكل من هذه المحرمات ؛ ما دام أنه لا يتعمد الإثم ، ولا يقصد مقارفة الحرام . وتختلف آراء الفقهاء في حد هذا الأكل : هل هو مجرد ما يحفظ الحياة . أو هو ما يحقق الكفاية والشبع . أو هو ما يدخر كذلك لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . فلا ندخل نحن في هذه التفصيلات . . وحسبنا أن ندرك ما في هذا الدين من يسر ، وهو يعطى للضرورات أحكامها بلا عنت ولا حرج . مع تعليق الأمر كله بالنية المستكنة ؛ والتقوى الموكولة إلى الله . . . فمن أقدم مضطرا ، لا نية له في مقارفة الحرام ولا قصد ، فلا إثم عليه إذن ولا عقاب :
وننتهي من بيان المحرم من المطاعم لنقف وقفة خاصة أمام ما تخلل آية التحريم من قوله تعالى :
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم ، ليعلن كمال الرسالة ، وتمام النعمة ، فيحس عمر - رضي الله عنه - ببصيرته النافذة وبقلبه الواصل - أن أيام الرسول [ ص ] على الأرض معدودة . فقد أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ؛ ولم يعد إلا لقاء الله . فيبكي - رضوان الله عليه - وقد أحس قلبه دنو يوم الفراق .
هذه الكلمات الهائلة ترد ضمن آية موضوعها التحريم والتحليل لبعض الذبائح ؛ وفي سياق السورة التي تضم تلك الأغراض التي أسلفنا بيانها . . ما دلالة هذا ؟ إن بعض دلالته أن شريعة الله كل لا يتجزأ . كل متكامل . سواء فيه ما يختص بالتصور والاعتقاد ؛ وما يختص بالشعائر والعبادات ؛ وما يختص بالحلال والحرام ؛ ومايختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . وأن هذا في مجموعة هو " الدين " الذي يقول الله عنه في هذه الآية : إنه أكمله . وهو " النعمة " التي يقول الله للذين آمنوا : إنه أتمها عليهم . وأنه لا فرق في هذا الدين بين ما يختص بالتصور والاعتقاد ؛ وما يختص بالشعائر والعبادات ؛ وما يختص بالحلال والحرام ؛ وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . . فكلها في مجموعها تكون المنهج الرباني الذي ارتضاه الله للذين آمنوا ؛ والخروج عن هذا المنهج في جزئية منه ، كالخروج عليه كله ، خروج على هذا " الدين " وخروج من هذا الدين بالتبعية . .
والأمر في هذا يرجع إلى ما سبق لنا تقريره ؛ من أن رفض شيء من هذا المنهج ، الذي رضيه الله للمؤمنين ، واستبدال غيره به من صنع البشر ؛ معناه الصريح هو رفض ألوهية الله - سبحانه - وإعطاء خصائص الألوهية لبعض البشر ؛ واعتداء على سلطان الله في الأرض ، وادعاء للألوهية بادعاء خصيصتها الكبرى . . الحاكمية . . وهذا معناه الصريح الخروج على هذا الدين ؛ والخروج من هذا الدين بالتبعية . .
( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) . .
يئسوا أن يبطلوه ، أو ينقصوه ، أو يحرفوه . وقد كتب الله له الكمال ؛ وسجل له البقاء . . ولقد يغلبونعلى المسلمين في موقعة ، أو في فترة ، ولكنهم لا يغلبون على هذا الدين . فهو وحده الدين الذي بقي محفوظا لا يناله الدثور ، ولا يناله التحريف أيضا ، على كثرة ما أراد أعداؤه أن يحرفوه ؛ وعلى شدة ما كادوا له ، وعلى عمق جهالة أهله به في بعض العصور . . غير أن الله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة ؛ تعرف هذا الدين ؛ وتناضل عنه ، ويبقى فيها كاملا مفهوما محفوظا ؛ حتى تسلمه الى من يليها . وصدق وعد الله في يأس الذين كفروا من هذا الدين !
فما كان للذين كفروا أن ينالوا من هذا الدين في ذاته أبدا . وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه ؛ فلا يكونوا هم الترجمة الحية له ؛ ولا ينهضوا بتكاليفه ومقتضياته ؛ ولا يحققوا في حياتهم نصوصه وأهدافه . .
وهذا التوجيه من الله للجماعة المسلمة في المدينة ، لا يقتصر على ذلك الجيل ؛ إنما هو خطاب عام للذين آمنوا في كل زمان وفي كل مكان . . نقول : للذين آمنوا . . الذين يرتضون ما رضيه الله لهم من هذا الدين ، بمعناه الكامل الشامل ؛ الذين يتخذون هذا الدين كله منهجا للحياة كلها . . وهؤلاء - وحدهم - هم المؤمنون . .
( اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . .
اليوم . . الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع . . أكمل الله هذا الدين . فما عادت فيه زيادة لمستزيد . وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل . ورضي لهم " الإسلام " دينا ؛ فمن لا يرتضيه منهجا لحياته - إذن - فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين .
ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة ؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة ، وتوجيهات عميقة ، ومقتضيات وتكاليف . .
إن المؤمن يقف أولا : أمام إكمال هذا الدين ؛ يستعرض موكب الإيمان ، وموكب الرسالات ، وموكب الرسل ، منذ فجر البشرية ، ومنذ أول رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة . رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين . . فماذا يرى ؟ . . يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل . موكب الهدى والنور . ويرى معالم الطريق ، على طول الطريق . ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل لقومه . ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان . . رسالة خاصة ، لمجموعة خاصة ، في بيئة خاصة . . ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه ؛ متكيفة بهذه الظروف . . كلها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد - وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الدين - وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام - ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف . .
حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر ؛ أرسل إلى الناس كافة ، رسولا خاتم النبيين برسالة " للإنسان " لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة ، في زمان خاص ، في ظروف خاصة . . رسالة تخاطب " الإنسان " من وراء الظروف والبيئات والأزمنة ؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) . . وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة " الإنسان " من جميع أطرافها ، وفي كل جوانب نشاطها ؛ وتضع لها المبادى الكلية والقواعد الأساسيةفيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان ؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان . . وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة " الإنسان " منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان ؛ من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات ، لكي تستمر ، وتنمو ، وتتطور ، وتتجدد ؛ حول هذا المحور وداخل هذا الإطار . . وقال الله - سبحانه - للذين آمنوا :
( اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . .
فأعلن لهم إكمال العقيدة ، وإكمال الشريعة معا . . فهذا هو الدين . . ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصا يستدعي الإكمال . ولا قصورا يستدعي الإضافة . ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير . . وإلا فما هو بمؤمن ؛ وما هو بمقر بصدق الله ؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين !
إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن ، هي شريعة كل زمان ، لأنها - بشهادة الله - شريعة الدين الذي جاء " للإنسان " في كل زمان وفي كل مكان ؛ لا لجماعة من بني الإنسان ، في جيل من الأجيال ، في مكان من الأمكنة ، كما كانت تجيء الرسل والرسالات .
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي . والمبادى ء الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان ؛ دون أن تخرج عليه ، إلا أن تخرج من إطار الإيمان !
والله الذي خلق " الإنسان " ويعلم من خلق ؛ هو الذي رضي له هذا الدين ؛ المحتوى على هذه الشريعة . فلا يقول : إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم ، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان ؛ وبأطوار الإنسان !
ويقف المؤمن ثانيا : أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين ، بإكمال هذا الدين ؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة . النعمة التي تمثل مولد " الإنسان " في الحقيقة ، كما تمثل نشأته واكتماله . " فالإنسان " لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له . وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين . وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه ، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه . و " الإنسان " لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده ؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه .
إن معرفة " الإنسان " بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد " الإنسان " . . إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى ؛ يمكن أن يكون " حيوانًا أو أن يكون " مشروع إنسان " في طريقه إلى التكوين ! ولكنه لا يكون " الإنسان " في أكمل صورة للإنسان ، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن . . والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة ، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان !
وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية ، لهو الذي يحقق " للإنسان " " إنسانيته " كاملة . . يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي ، في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات ، إلى دائرة " التصور " الإنساني ، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات .
عالم الشهادة وعالم الغيب . . عالم المادة وعالم ما وراء المادة . . وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود !
ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد الله ، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده ، والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه . فإلى الله وحده يتجه بالعبادة ، ومن الله وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام ، وعلى الله وحده يتوكل ومنه وحده يخاف . . ويحققها له ، بالمنهج الرباني ، حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه ، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء ، والاستعلاء على نوازع الحيوان ، ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام !
ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين ، ولا يقدرها قدرها ، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها - والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله - فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها . . ويلاتها في التصور والاعتقاد ، وويلاتها في واقع الحياة . . هو الذي يحس ويشعر ، ويرى ويعلم ، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين . .
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى ، وويلات الحيرة والتمزق ، وويلات الضياع والخواء ، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان . . هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان ؛
والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى ، وويلات التخبط والاضطراب ، وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية ، هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام .
ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات . لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم ، في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن . .
كانوا قد ذاقوا الجاهلية . . ذاقوا تصوراتها الاعتقادية . وذاقوا أوضاعها الاجتماعية . وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية . وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين ؛ وحقيقة فضل الله عليهم ومنته بالإسلام .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية ؛ وسار بهم في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة - كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء - فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم ؛ نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام ، والملائكة ، والجن ، والكواكب ، والأسلاف ؛ وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة ؛ لينقلهم إلى أفق التوحيد . إلى أفق الإيمان بإله واحد ، قادر قاهر ، رحيم ودود ، سميع بصير ، عليم خبير . عادل كامل . قريب مجيب . لا واسطة بينه وبين أحد ؛ والكل له عباد ، والكل له عبيد . . ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة ، ومن سلطان الرياسة ، يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة . .
وكان الإسلام قد التقطهم من سقح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية . من الفوارق الطبقية ؛ ومن العادات الزرية ؛ ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان [ لا كما هو سائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية ! ] .
" فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال . وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحا مبالغا في القدح حين استضعف مهجوه ، لأن :
قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
" وما كان حجر بن الحارث إلا ملكا عربيا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا ، وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول :
أنت المملك فيهم وهم العبيد إلى القيامه *** ذلوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذو الخزامه
" وكان عمر بن هند ملكا عربيا حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار ؛ وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره " .
" وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوما للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء ؛ ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء " .
" وقد قيل عن عزة كليب وائل : إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد ، فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه . وقيل : " لا حر بوادي عوف " لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره . فكلهم أحرار في حكم العبيد . . " .
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية . . كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة ، والمرأة المنكودة ، والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية ، والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها ، والثارات والغارات والنهب والسلب ، مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي ، كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة ، وتخاذل وخذلان القبائل كلها ، هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديدا !
وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة ؛ تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح ، في كل جانب من جوانب الحياة . في جيل واحد . عرف السفح وعرف القمة . عرف الجاهلية وعرف الإسلام . ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول الله لهم :
( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . . )
ويقف المؤمن ثالثا : أمام ارتضاء الله الإسلام دينا للذين آمنوا . . يقف أمام رعاية الله - سبحانه - وعنايته بهذه الأمة ، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه . . وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها ، حتى ليختار لها منهج حياتها .
وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئا ثقيلا ، يكافى ء هذه الرعاية الجليلة . . أستغفر الله . . فما يكافى ء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه . . وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة ، ومعرفة المنعم . . وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه ، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه .
إن ارتضاء الله الإسلام دينا لهذه الأمة ، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار . ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار . . وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل - بله أن يرفض - ما رضيه الله له ، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله ! . . وإنها - إذن - لجريمة نكدة ؛ لا تذهب بغير جزاء ، ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا وقد رفض ما ارتضاه له الله . . ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام دينا لهم ، يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين . . فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه . . واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله . . فلن يتركهم الله أبدا ولن يمهلهم أبدا ، حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون !
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في هذه الوقفات أمام تلك الكلمات الهائلة . فالأمر يطول . فنقنع بهذه اللمحات ، في هذه الظلال ، ويمضي مع سياق السورة إلى مقطع جديد :
يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة وهي : ما مات من الحيوان حَتْف أنفه ، من غير ذكاة ولا اصطياد ، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة ، لما فيها من الدم المحتقن ، فهي ضارة للدين وللبدن فلهذا حرمها الله ، عز وجل ، ويستثني من الميتة السمك ، فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها ، لما رواه مالك في موطئه ، والشافعي وأحمد في مسنديهما ، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر ، فقال : " هو الطَّهُور ماؤه الحِلُّ ميتته{[8927]} " .
وهكذا الجراد ، لما سيأتي من الحديث ، وقوله : { وَالدَّمُ } يعني [ به ]{[8928]} المسفوح ؛ لقوله : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } [ الأنعام : 145 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جُبَيْر .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب المذْحِجي ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو - يعني ابن قيس - عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : أنه سئل عن الطحال فقال : كلوه فقالوا : إنه دم . فقال : إنما حُرم عليكم الدم المسفوح .
وكذا رواه حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة ، قالت : إنما نهى عن الدم السافح .
وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[8929]} " أحِلَّ لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت{[8930]} والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال " .
وكذا رواه أحمد بن حنبل ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي ، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم{[8931]} وهو ضعيف . قال الحافظ البيهقي : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس{[8932]} عن أسامة ، وعبد الله ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا .
قلت : وثلاثتهم ضعفاء ، ولكن بعضهم أصلح من بعض . وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه . قال الحافظ أبو زرعة الرازي : وهو أصح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا بَشير بن سُرَيج ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة - وهو صُدَيّ بن عجلان - قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله ، وأعرض عليهم شرائع الإسلام ، فأتيتهم ، فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا بقَصْعَة من دم ، فاجتمعوا{[8933]} عليها يأكلونها ، قالوا : هلم يا صُديّ ، فكل . قال : قلت : ويحكم ! إنما أتيتكم من عند مُحرِّم{[8934]} هذا عليكم ، وأنزل الله عليه ، قالوا : وما ذاك ؟ قال : فتلوت عليهم هذه الآية : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ ] }{[8935]} الآية .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناد مثله ، وزاد بعد هذا السياق : قال : فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ، ويأبون علي ، فقلت لهم : ويحكم ، اسقوني شربة من ماء ، فإني شديد العطش - قال : وعليّ عباءتي - فقالوا : لا ولكن ندعك حتى تموت عطشا . قال : فاغتممت وضربت{[8936]} برأسي في العباء ، ونمت على الرمضاء في حر شديد ، قال : فأتاني آت في منامي بقَدَح من زجاج لم ير الناس أحسن منه ، وفيه شراب لم ير الناس [ شرابا ]{[8937]} ألذ منه ، فأمكنني منها فشربتها ، فحيث فرغت من شرابي استيقظت ، فلا والله ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة . {[8938]}
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن علي بن حُمْشاذ{[8939]} عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري ، حدثنا صدقة بن هرمز ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة ، قد ذكر نحوه{[8940]} وزاد بعد قوله : " بعد تيك الشربة " : فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم ، فلم تَمْجعَوه بمذقة ، فأتوني بمذقة فقلت : لا حاجة لي فيها ، إن الله{[8941]} أطعمني وسقاني ، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم .
وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق :{[8942]}
وإياكَ والميتات لا تقربنَّها *** ولا تأخذن عظمًا حديدًا فتفصدا
أي : لا تفعل كما يفعل{[8943]} الجاهلية ، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع أخذ شيئًا محددًا من عظم ونحوه ، فَيفْصِد به بعيره أو حيوانا من أي صنف كان ، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه ؛ ولهذا حرَّم الله الدم على هذه الأمة ، ثم قال الأعشى :
وذا النّصُب المنصوبَ لا تَأتينّه *** ولا تعبد الأصنام والله فاعبدا
وقوله : { وَلَحْمُ الْخِنزيرِ } يعني : إنسيه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا } يعنون قوله تعالى : { إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [ الأنعام : 145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير ، حتى يعم جميع أجزائه ، وهذا بعيد من حيث اللغة ، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه ، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب ، ومن العرف المطرد ، وفي صحيح مسلم ، عن بُرَيدة بن الخصيب الأسلمي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنردَشير فكأنما صَبَغَ يده في لحم الخنزير ودمه " {[8944]} فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس{[8945]} فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به ، وفيه دلالة على شُمُول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " . فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنها تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود ، ويَسْتَصبِحُ بها الناس ؟ فقال : " لا هو حرام " . {[8946]}
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان : أنه قال لهرقل ملك الروم : " نهانا عن الميتة والدم " . {[8947]}
وقوله : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } أي : ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام ؛ لأن الله أوجب أن تذبح{[8948]} مخلوقاته على اسمه العظيم ، فمتى عُدِل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك ، من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع . وإنما اختلف العلماء في المتروك التسمية عليه ، إما عمدًا أو نسيانا ، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجَاني ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن جُمَيْع ، عن أبي الطُّفَيْل قال : نزل آدم بتحريم أربع : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، وإن هذه الأربعة الأشياء{[8949]} لم تحل قط ، ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض ، فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم ، فلما بعث الله عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم [ عليه السلام ]{[8950]} وأحل لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه . وهذا أثر غريب .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا ربعي بن عبد الله قال : سمعت الجارود بن أبي سَبْرَة - قال : هو جدي - قال : كان رجل من بني رَيَاح{[8951]} يقال له : ابن وَثَيِل ، وكان شاعرا ، نافر - غالبا - أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة ، على أن يعقر هذا مائة من إبله ، وهذا مائة من إبله ، إذا وردت الماء ، فلما وردت الماء قاما إليها بالسيوف ، فجعلا يَكْسفان عَرَاقيبها . قال : فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم - قال : وعَليٌّ بالكوفة - قال : فخرج عليّ على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي : يا أيها الناس ، لا تأكلوا من لحومها فإنما{[8952]} أهل بها لغير الله .
هذا أثر غريب ، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا{[8953]} حماد بن مَسْعَدة ، عن عوف ، عن أبي رَيْحانة ، عن ابن عباس قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مُعاقرة الأعراب .
ثم قال أبو داود : محمد بن جعفر - هو غُنْدَر - أوقفه على ابن عباس . تفرد به أبو داود{[8954]}
وقال أبو داود أيضا : حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء ، حدثنا أبي ، حدثنا جرير بن حازم ، عن الزبير بن خريت قال : سمعت عِكْرِمة يقول :{[8955]} إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين{[8956]} أن يؤكل .
ثم قال أبو داود : أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس . تفرد به أيضا . {[8957]}
وقوله : { وَالْمُنْخَنِقَةُ } وهي التي تموت بالخنق إما قصدًا أو اتفاقا ، بأن تَتَخبل في وثاقتها{[8958]} فتموت به ، فهي حرام .
وأما { الْمَوْقُوذَةُ } فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت ، كما قال ابن عباس وغير واحد : هي التي تضرب بالخَشَب حتى تُوقَذَ بها{[8959]} فتموت .
وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها .
وفي الصحيح : أن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرمي بالمِعراض الصيد فأصيب . قال : " إذا رميت بالمعراض فخَزَق فَكُلْه ، وإن أصابه بعَرْضِه فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله " . {[8960]}
ففرق بين ما أصابه بالسهم ، أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله ، وما أصابه بعرضه فجعله وقيذا فلم يحله ، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا ، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحةُ الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه ، على قولين ، هما قولان للشافعي ، رحمه الله :
أحدهما : [ أنه ]{[8961]} لا يحل ، كما في السهم ، والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ .
والثاني : أنه يحل ؛ لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ، ولم يستفصل ، فدل على إباحة ما ذكرناه ؛ لأنه قد دخل في العموم . وقد قررت لهذه المسألة فصلا فليكتب هاهنا . .
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى ، فيما إذا أرسل كلبا على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه ، أو صدمه ، هل يحل أم لا ؟ على قولين :
أحدهما : أن ذلك حلال ؛ لعموم قوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] وكذا عمومات حديث عَدي{[8962]} بن حاتم . وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي ، رحمه الله ، وصححه بعض المتأخرين [ منهم ]{[8963]} كالنووي والرافعي .
قلت : وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر ، فإنه قال في كلا الموضعين : " يحتمل معنيين " . ثم وجه كلا منهما ، فحمل ذلك الأصحاب منه فأطلقوا في المسألة قولين عنه ، اللهم إلا أنه في بحثه حكايته للقول بالحل رشحه قليلا ولم يصرح بواحد منهما ولا جزم به . والقول بذلك ، أعني الحل ، نقله ابن الصباغ عن أبي حنيفة ، من رواية الحسن بن زياد ، عنه ، ولم يذكر غير ذلك وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي ، وأبي هريرة ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن عمر . وهذا غريب جدًا ، وليس يوجد ذلك مصرحا به عنهم ، إلا أنه من تصرفه ، رحمه الله ورضي عنه .
والقول الثاني : أن ذلك لا يحل ، وهو أحد القولين عن الشافعي ، رحمه الله ، واختاره المُزَني ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضا ، والله أعلم . ورواه أبو يوسف ومحمد عن{[8964]} أبي حنيفة ، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل ، رضي الله عنه{[8965]} وهذا القول أشبه بالصواب ، والله أعلم ، لأنه أجرى عن{[8966]} القواعد الأصولية ، وأمس بالأصول{[8967]} الشرعية . واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خَدِيج ، قلت : يا رسول الله ، إنا لاقو العدو غدًا وليس معنا مُدًى ، أفنذبح بالقَصَب ؟ قال :{[8968]} " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " . الحديث بتمامه وهو في الصحيحين .
وهذا وإن كان واردًا على سبب خاص ، فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع ، كما سئل عليه السلام{[8969]} عن البتع - وهو نبيذ العسل - فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " {[8970]} أفيقول فقيه : إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل ؟ وهكذا هذا كما سألوه عن شيء من الذكاة فقال لهم كلاما عاما يشمل ذاك المسئول عنه وغيره ؛ لأنه عليه السلام{[8971]} قد أوتي جوامع الكلم .
إذا تقرر هذا فما صدمه الكلب أو غَمَّه بثقله ، ليس مما أنهر دمه ، فلا يحل لمفهوم هذا الحديث . فإن قيل : هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء ؛ لأنهم إنما سألوا عن الآلة التي يُذكّى بها ، ولم يسألوا عن الشيء الذي يُذَكَّى ؛ ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر ، حيث قال : " ليس السن والظفر ، وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم ، وأما الظفر فَمُدي الحبشة " . والمستثنى يدل على جنس المستثنى منه ، وإلا لم يكن متصلا فدل على أن المسئول عنه هو الآلة ، فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم .
فالجواب عن هذا : بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضا ، حيث يقول : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " . ولم يقل : " فاذبحوا به " فهذا يؤخذ منه الحكمان معا ، يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها ، وحكم المذكى ، وأنه لا بد من إنهار دمه بآلة ليست سنا ولا ظفرًا . هذا مسلك .
والمسلك الثاني : طريقة المُزَني ، وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن قتل بعَرْضِه فلا تأكل ، وإن خَزَق فَكُل . والكلب جاء مطلقا فيحمل على ما قيد هناك من الخَزْق ؛ لأنهما اشتركا في الموجب ، وهو الصيد ، فيجب الحمل هنا وإن اختلف السبب ، كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان في القتل ، بل هذا أولى . وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي ، وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة ، فلا بد لهم من جواب عن هذا . وله أن يقول : هذا قتله الكلب بثقله ، فلم يحل قياسا على ما قتله السهم بعَرْضه{[8972]} والجامع أن كلا منهما آلة للصيد ، وقد مات بثقله فيهما . ولا يعارض ذلك بعموم الآية ؛ لأن القياس مقدم على العموم ، كما هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور ، وهذا مسلك حسن أيضا .
مسلك آخر ، وهو : أن قوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] عام فيما قتلن بجرح أو غيره ، لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو :{[8973]} إما أن يكون نطيحا أو في حكمه ، أو منخنقا أو في حكمه ، وأيا ما كان فيجب تقديم [ حكم ]{[8974]} هذه الآية على تلك لوجوه :
أحدها : أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد ، حيث يقول لعديّ بن حاتم : " وإن أصابه بعرضه{[8975]} فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله " . ولم نعلم أحدًا من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الآية ، فقال : إن الوقيذ معتبر حالة الصيد ، والنطيح ليس معتبرا ، فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للإجماع لا قائل به ، وهو محظور عند كثير من العلماء .
الثاني : أن تلك الآية : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] ليست على عمومها بالإجماع ، بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول ، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق ، والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ . .
المسلك الآخر : أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء ؛ لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات ، فلا تحل قياسا على الميتة .
المسلك الآخر : أن آية التحريم ، أعني قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } إلى آخرها ، محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص ، وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة ، أعني قوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ[ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ] } [ المائدة : 4 ]{[8976]} فينبغي ألا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك ، وشاهد ذلك قصة السهم ، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية ، وهو ما إذا خَزَقه المِعْرَاض فيكون حلالا ؛ لأنه من الطيبات ، وما دخل في حكم تلك الآية ، آية التحريم ، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل ؛ لأنه وقيذ ، فيكون أحد أفراد آية التحريم ، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء ، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل في حكم آية التحليل . وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في حكمه فلا يكون حلالا .
فإن قيل : فلم لا فَصَّل في حكم الكلب ، فقال ما ذكرتم : إن جرحه فهو حلال ، وإن لم يجرحه فهو حرام ؟
فالجواب : أن ذلك نادر ؛ لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معا ، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر ، وكذا قتله إياه بثقله ، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره ، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة . وأما السهم والمعراض فتارة يخطئ لسوء رمي راميه أو للهواء أو نحو ذلك ، بل خطؤه أكثر من إصابته ؛ فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلا والله أعلم ؛ ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ، ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال : " إن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين{[8977]} فقالوا : لا يحل ما أكل منه الكلب ، حكي ذلك عن أبي هريرة ، وابن عباس . وبه قال الحسن ، والشعبي ، والنخَعي . وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه ، وأحمد بن حنبل ، والشافعي في المشهور عنه . وروى ابن جرير في تفسيره عن علي ، وسعد ، وسلمان ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس : أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب ، حتى قال سعد ، وسلمان ، وأبو هريرة وابن عمر ، وغيرهم : يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة . وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم ، وأومأ في الجديد إلى قولين ، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه .
وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي ، عن أبي ثعلبة الخُشَنِي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك " . {[8978]}
ورواه أيضا النسائي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن أعرابيا يقال له : أبو ثعلبة قال : يا رسول الله ، فذكر نحوه .
وقال محمد بن جرير في تفسيره : حدثنا عمران بن بَكَّار الكَلاعِيّ ، حدثنا عبد العزيز بن موسى - هو اللاحوني - حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي - عن أبي إياس - وهو معاوية بن قرة - عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه ، فليأكل ما بقي .
ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان موقوفا{[8979]} وأما الجمهور فقدموا حديث " عَديّ " على ذلك ، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره . وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه وطال عليه الفصل ولم يجئ ، فأكل منه لجوعه ونحوه ، فإنه لا بأس بذلك ؛ لأنه - والحالة هذه ؛ لا يخشى أنه أمسك على نفسه ، بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة ، فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه ، والله أعلم .
فأما الجوارح من الطير{[8980]} فنص الشافعي على أنها كالكلاب ، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور ، ولا يحرم عند الآخرين . واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ، قالوا : لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه ، وأيضا فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد ، فيعفى عن ذلك ، وأيضا فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير . وقال الشيخ أبو علي في " الإفصاح " : إذا قلنا : يحرم ما أكل منه الكلب ، ففي تحريم ما أكل منه الطير وجهان ، وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب ، لنص الشافعي ، رحمه الله على التسوية بينهما ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما { الْمُتَرَدِّيَةُ } فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك ، فلا تحل .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { الْمُتَرَدِّيَةُ } التي تسقط من جبل . وقال قتادة : هي التي تتردى في بئر .
وقال السدي : هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر .
وأما { النَّطِيحَةُ } فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها ، فهي حرام ، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها .
والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة ، أي : منطوحة . وأكثر ما ترد هذه البِنْيَة في كلام العرب بدون تاء التأنيث ، فيقولون : كَفٌّ خضيب ، وعينٌ كحيل ، ولا يقولون : كف خضيبة ، ولا عين كحيلة : وأما هذه فقال بعض النحاة : إنما استعمل فيها تاء التأنيث ؛ لأنها أجريت مجرى الأسماء ، كما في قولهم : طريقة طويلة . وقال بعضهم : إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة ، بخلاف : عين كحيل ، وكف خضيب ؛ لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام .
وقوله : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } أي : ما عدا عليها أسد ، أو فهد ، أو نمر ، أو ذئب ، أو كلب ، فأكل بعضها فماتت بذلك ، فهي حرام وإن كان قد سال منها الدماء ولو من مذبحها ، فلا تحل بالإجماع . وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرم الله ذلك على المؤمنين .
وقوله : { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } عائد على ما يمكن عوده عليه ، مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة ، وفيه حياة مستقرة ، وذلك إنما يعود على قوله : { وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } يقول : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح ، فكلوه ، فهو ذكي . وكذا رُوي عن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، والسدي .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا حَفْص بن غياث{[8981]} حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } قال : إن مَصَعَتْ بذنبها أو رَكَضَتْ برجلها ، أو طَرَفَتْ بعينها فكُلْ .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا هشيم وعباد قالا حدثنا حجاج ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة ، وهي تحرك يدًا أو رجلا فكلها .
وهكذا رُوي عن طاوس ، والحسن ، وقتادة وعُبَيد بن عُمير ، والضحاك وغير واحد : أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح ، فهي حلال . وهذا مذهب جمهور الفقهاء ، وبه قال{[8982]} أبو حنيفة والشافعي ، وأحمد بن حنبل . وقال ابن وهب : سُئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفَها السَّبُعُ حتى تخرج أمعاؤها ؟ فقال مالك : لا أرى أن تذكى أيّ شيء يُذَكَّى منها .
وقال أشهب : سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش ، فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت ، فيؤكل ؟ قال{[8983]} إن كان قد بلغ السُّحْرة ، فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه ، فلا أرى بذلك بأسًا . قيل له : وثب عليه فدق ظهره ؟ فقال :{[8984]} لا يعجبني ، هذا لا يعيش منه . قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء ؟ فقال : إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل .
هذا مذهب مالك ، رحمه الله ، وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك ، رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها ، فيحتاج إلى دليل مخصص{[8985]} للآية ، والله أعلم .
وفي الصحيحين : عن رافع بن خَدِيج أنه قال : قلت : يا رسول الله ، إنا لاقو العدو غدًا ، وليس معنا مُدَى ، أفنذبح بالقَصَب ؟ فقال : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ، ليس السنُّ والظَّفُر ، وسأحدثكم عن ذلك ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة " . {[8986]}
وفي الحديث الذي رواه الدارقطني [ عن أبي هريرة ]{[8987]} مرفوعا ، وفيه نظر ، وروي عن عمر موقوفا ، وهو أصح{[8988]} " ألا إن الذكاة في الحلق واللبّة ، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق " . {[8989]}
وفي{[8990]} الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من رواية حماد بن سلمة ، عن أبي العشراء الدارمي ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق ؟ فقال : " لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك .
وهو حديث صحيح{[8991]} ولكنه محمول على ما [ لم ]{[8992]} يقدر على ذبحه في الحلق واللبة .
وقوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } قال مجاهد وابن جُرَيْج{[8993]} كانت النصب حجارة حول الكعبة ، قال{[8994]} ابن جريج : وهي ثلاثمائة وستون نصبا ، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها ، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح ، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب .
وكذا ذكره غير واحد ، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع ، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر{[8995]} عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك{[8996]} الذي حرمه الله ورسوله . وينبغي أن يحمل هذا على هذا ؛ لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله .
وقوله تعالى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } أي : حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام : واحدها : زُلَم ، وقد تفتح الزاي ، فيقال : زَلم ، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك ، وهي عبارة عن قداح ثلاثة ، على أحدها مكتوب : " افعل " وعلى الآخر : " لا تفعل " والثالث " غُفْل ليس عليه شيء . ومن الناس من قال : مكتوب على الواحد : " أمرني ربي " وعلى الآخر : " نهاني ربي " . والثالث غفل{[8997]} ليس عليه شيء ، فإذا أجالها فطلع السهم الآمر فعله ، أو الناهي تركه ، وإن طلع الفارغ أعاد [ الاستقسام . ]{[8998]} والاستقسام : مأخوذ من طلب القَسم من هذه الأزلام . هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا الحجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } قال : والأزلام : قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور .
وكذا روي عن مجاهد ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والحسن البصري ، ومُقَاتِل بن حَيَّان .
وقال ابن عباس : هي القداح ، كانوا يستقسمون بها الأمور . وذكر محمد بن إسحاق وغيره : أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له : هُبَل ، وكان داخل الكعبة ، منصوب على بئر فيها ، توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه ، كان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه ، مما أشكل عليهم ، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه .
وثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها ، وفي أيديهما الأزلام ، فقال : " قاتلهم الله ، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا . " {[8999]}
وفي الصحيح : أن سراقة بن مالك بن جُعْشُم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين ، قال : فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم{[9000]} قال : فعصيت الأزلام وأتبعتهم ، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة ، كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم{[9001]} وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ، ثم أسلم بعد ذلك . {[9002]}
وروى ابن مَرْدُويه من طريق إبراهيم بن يزيد ، عن رَقَبةَ ، عن عبد الملك بن عُمَيْر ، عن رَجاء بن حَيْوَة ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يَلِج الدرجات من تَكَهَّن أو استقسم أو رجع من سفر طائرًا " . {[9003]} وقال مجاهد في قوله : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } قال : هي سهام العرب ، وكعاب فارس والروم ، كانوا يتقامرون بها .
وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار ، فيه نظر ، اللهم إلا أن يقال : إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة ، وفي القمار أخرى ، والله أعلم . فإن الله سبحانه [ وتعالى ]{[9004]} قد فرَّق بين هذه وبين القمار وهو الميسر ، فقال في آخر السورة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ ] منتهون }{[9005]} [ الآيتان : 90 ، 91 ] وهكذا قال هاهنا : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ } أي : تعاطيه فسق وغي وضلال وجهالة وشرك ، وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ، ثم يسألوه الخيَرَة في الأمر الذي يريدونه ، كما رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن ، من طرق عن عبد الرحمن بن أبي الموالي ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا{[9006]} الاستخارة{[9007]} كما يعلمنا السورة من القرآن ، ويقول : " إذا هَمَّ أحدُكُم بالأمْرِ فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أسْتَخِيركَ بعلمكَ ، وأسْتَقْدِرُك بقدرتكَ ، وأسألُكَ من فَضْلك العظيم ؛ فإنك تَقْدِر ولا أقْدِر ، وتَعْلَمُ ولا أَعْلَم ، وأنت عَلام الغيوب ، اللهم إن كنتَ تعلم{[9008]} هذا الأمر - ويسميه باسمه - خيرًا لي في دِينِي ومَعاشي وعاقِبة أمري ، فاقدُرْهُ لي ويَسِّره لي{[9009]} وبارك لي فيه ، اللهم إن كنتَ تَعْلَمْهُ شرا لي{[9010]} في ديني ومَعاشي وعاقبة أمري ، فاصْرِفْنِي عنه ، واصرفه عنِّي ، واقْدُرْ لي الخير حيث كان ، ثم رَضِّني به " . لفظ أحمد . {[9011]}
وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي .
قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : يئسوا أن يراجعوا دينهم . .
وكذا رُوي عن عطاء بن أبي رباح ، والسّدِّي ومُقاتِل بن حَيَّان . وعلى هذا المعنى يرد{[9012]} الحديث الثابت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المُصَلُّون في جزيرة العرب ، ولكن بالتَّحْرِيش{[9013]} بينهم " .
ويحتمل أن يكون المراد : أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين ، بما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله ؛ ولهذا قال تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ، ولا يخافوا أحدا إلا الله ، فقال : { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } أي : لا تخافوا منهم في مخالفتكم إياهم واخشوني ، أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم ، وأشف صدوركم منهم ، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة .
وقوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } هذه أكبر نعم الله ، عز وجل ، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم ، صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه ، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف ، كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ{[9014]} رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115 ] أي : صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأوامر والنواهي ، فلما أكمل{[9015]} الدين لهم تمت النعمة عليهم{[9016]} ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[9017]} { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } أي : فارضوه أنتم لأنفسكم ، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه{[9018]} وبعث به أفضل رسله الكرام ، وأنزل به أشرف كتبه .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وهو الإسلام ، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا ، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطُه أبدا .
وقال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عَرَفَة ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات . قالت أسماء بنت عُمَيس : حَجَجْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة ، فبينما نحن نسير إذ تَجلَّى له جبريل ، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة ، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن ، فبركت فأتيته فَسَجَّيْتُ عليه بُرْدا{[9019]} كان علي .
قال ابن جُرَيْج{[9020]} وغير واحد : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما .
رواهما{[9021]} ابن جرير ، ثم قال : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا ابن فُضَيْل ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : لما نزلت { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وذلك يوم الحج الأكبر ، بكى عمر ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك ؟ " قال : أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذْ أكمل{[9022]} فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال : " صدقت " . {[9023]}
ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت : " إن الإسلام بدأ غَرِيبًا ، وسيعود غريبا ، فَطُوبَى للغُرَبَاء " . {[9024]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا جعفر بن عَوْن ، حدثنا أبو العُمَيْس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[9025]} فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : وأي آية ؟ قال قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } فقال{[9026]} عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نزلت عَشية عَرَفَة في يوم جمعة .
ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون ، به . ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي ، من طرق عن قيس بن مسلم ، به{[9027]} ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري ، عن قيس ، عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية ، لو نزلت فينا لاتخذناها{[9028]} عيدا . فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت{[9029]} وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت : يوم عرفة ، وأنا والله بعرفة - قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية . {[9030]}
وشك سفيان ، رحمه الله ، إن كان في الرواية فهو تَوَرُّعٌ ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ؟ وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة ، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري ، رحمه الله ، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به ، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها ، والله أعلم ، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، أخبرنا رَجاء بن أبي سلمة ، أخبرنا عبادة بن نُسَيّ ، أخبرنا أميرنا إسحاق - قال أبو جعفر بن جرير : هو إسحاق بن خَرَشة - عن قَبِيصة - يعني ابن ذُؤيب - قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية ، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه . فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه ، والمكان الذي أنزلت{[9031]} فيه ، نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا قَبيصة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار - هو مولى بني هاشم - أن ابن عباس قرأ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا . فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ويوم جمعة . {[9032]}
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا يحيى بن الحُمَّاني ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن إسماعيل بن سَلْمان ، عن أبي عمر البَزّار ، عن ابن الحنفية ، عن علي [ رضي الله عنه ]{[9033]} قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قائم عَشِيَّةَ عرفة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }
وقال ابن جرير : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكُوني ، حدثنا هشام{[9034]} بن عمار ، حدثنا بن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس السكوني : أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } حتى ختمها ، فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة .
وروى ابن مَرْدُويه ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عمر بن موسى بن وجيه ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سَمُرَة قال : نزلت هذه الآية : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على الموقف . {[9035]}
فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه ، والطبراني من طريق ابن لَهيعَة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حَنَش بن عبد الله الصنعاني ، عن ابن عباس قال : ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، [ ونبئ يوم الاثنين ]{[9036]} وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ورفع الذكر يوم الاثنين ، فإنه أثر غريب{[9037]} وإسناده ضعيف .
وقد رواه الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حَنَش الصنعاني ، عن ابن عباس قال : ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، واستنبئ يوم الاثنين ، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ، وقدم المدينة يوم الاثنين ، وتوفي يوم الاثنين ، ووضع{[9038]} الحجر الأسود يوم الاثنين .
هذا لفظ أحمد ، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين{[9039]} فالله أعلم . ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدم ، فاشتبه على الراوي ، والله أعلم .
[ و ]{[9040]} قال ابن جرير : وقد قيل : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ، ثم روي من طريق العَوْفِيِّ عن ابن عباس في قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يقول : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس قال : وقد قيل : إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسِيره إلى حجة الوداع . ثم رواه من طريق أبى جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس .
قلت : وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق أبي هارون العَيْدي ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غَدِير خُم{[9041]} حين قال لعلي : " من كنتُ مولاه فَعَليٌّ مولاه " . ثم رواه عن أبي هريرة{[9042]} وفيه : أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، يعني مرجعه عليه السلام{[9043]} من حجة الوداع .
ولا يصح هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية : أنها أنزلت يوم عرفة ، وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسَمُرَة بن جندب ، رضي الله عنهم ، وأرسله [ عامر ]{[9044]} الشعبي ، وقتادة بن دعامة ، وشَهْر بن حَوْشَب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري ، رحمه{[9045]} الله .
وقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها تعالى{[9046]} لضرورة ألجأته إلى ذلك ، فله تناول ذلك ، والله غفور رحيم له ؛ لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر ، وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ويغفر له . وفي المسند وصحيح ابن حبَّان ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن تؤتى رُخْصته{[9047]} كما يكره أن تؤتى مَعْصِيته " {[9048]} لفظ ابن حبان . وفي لفظ لأحمد{[9049]} من لم يقبل رُخْصَة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة " . {[9050]} ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان ، وهو ما إذا خاف على مهجته{[9051]} التلف ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، و[ قد ]{[9052]} يكون مباحا بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرَّمَق ، أو له أن يشبع ، أو يشبع ويتزود ؟ على أقوال ، كما هو مقرر في كتاب الأحكام . وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير ، أو صيدًا{[9053]} وهو محرم : هل يتناول الميتة ، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء ، أو ذلك الطعام ويضمن بدله ؟ على قولين ، هما قولان للشافعي ، رحمه الله . وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما ، كما قد يتوهمه كثير من العوام{[9054]} وغيرهم ، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له ، وقد قال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا حسان بن عطية ، عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا{[9055]} بها المخمصة ، فمتى تحل{[9056]} لنا بها الميتة ؟ فقال : " إذا لم تَصْطَبِحوا ، ولم تَغْتَبِقُوا ، ولم تَجتفئوا{[9057]} بقْلا فشأنكم بها " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين . وكذا رواه ابن جرير ، عن عبد الأعلى بن واصل ، عن محمد بن القاسم الأسدي ، عن الأوزاعي به{[9058]} لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن مسلم بن يزيد ، عن أبي واقد ، به{[9059]} ومنهم من رواه عن الأوزاعي ، عن حسان ، عن مرثد - أو أبي مرثد - عن أبي واقد ، به{[9060]} ورواه ابن جرير عن هناد بن السري ، عن عيسي بن يونس ، عن حسان ، عن رجل قد سمي له ، فذكره . ورواه أيضا عن هناد ، عن ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان ، مرسلا{[9061]}
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن عَوْن قال : وجدت عند الحسن كتاب سَمُرة ، فقرأته عليه ، فكان فيه : " ويُجزى من الأضرار غَبُوق أو صبوح " .
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا هُشَيْم ، عن الخَصيب بن زيد التميمي{[9062]} حدثنا الحسن ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : [ إلى ]{[9063]} متى يحل [ لي ]{[9064]} الحرام ؟ قال : فقال : " إلى متى يَرْوى أهلك من اللبن ، أو تجيء مِيرَتُهم " .
حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، حدثنا عمر بن عبد الله بن عروة ، عن جده عروة بن الزبير ، عن جدته{[9065]} ؛ أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه ، والذي أحل له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تَحِلُّ لك الطيبات ، وتَحْرُم عليك الخبائث{[9066]} إلا أن تَفْتَقِر إلى طعام لا يحل لك ، فتأكل منه حتى تَسْتَغْنِيَ عنه " . فقال الرجل : وما فَقْرِي الذي يحل لي ؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا كنت ترجو نِتَاجًا ، فتبلغ بلُحُوم ماشيتك إلى نتاجك ، أو كنت ترجو غِنًى ، تطلبه ، فتبلغ من ذلك شيئا ، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه " . فقال الأعرابي : ما غناي الذي أدعه إذا وجدته ؟ فقال [ النبي ]{[9067]} صلى الله عليه وسلم : " إذا أرويت أهلك غَبُوقا من الليل ، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام ، وأما مالك فإنه ميسور كله ، ليس فيه حرام " . {[9068]}
ومعنى قوله : " ما لم تصطبحوا " : يعني به : الغداء ، " وما لم{[9069]} تغتبقوا " : يعني به : العشاء ، " أو تختفئوا{[9070]} بقلا{[9071]} فشأنكم بها " [ أي ]{[9072]} فكلوا منها . وقال ابن جرير : يروى هذا الحرف - يعني قوله : " أو تختفئوا{[9073]} [ بقلا ]{[9074]} على أربعة أوجه : " تختفئوا " بالهمزة ، " وتحتفيوا " بتخفيف الياء والحاء ، " وتحتفوا " بتشديد [ الفاء ]{[9075]} وتحتفوا " بالحاء وبالتخفيف ، ويحتمل الهمز ، كذا ذكره في التفسير .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا عُقْبَة بن وَهْب بن عقبة العامري{[9076]} سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري ؛ أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
ما يحل لنا من الميتة ؟ قال : " ما طعامكم ؟ " قلنا : نغتبق ونصطبح . قال أبو نعيم : فَسَّرَه لي عقبة : قدح غُدوة ، وقدح عَشيَّة{[9077]} قال : " ذَاكَ وأبي الجُوعُ " . وأحل لهم الميتة على هذه{[9078]} الحال .
تفرد به أبو داود{[9079]} وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئًا لا يكفيهم ، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم ، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرَّمَق ، والله أعلم .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا سماك ، عن جابر بن سَمُرَة ، أن رجلا نزل الحَرَّةَ ، ومعه أهله وولده ، فقال له رجل : إن ناقة لي ضَلَّت ، فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها ولم يجد صاحبها ، فمرضت فقالت امرأته : انحرها ، فأبى ، فَنَفَقَتْ ، فقالت له امرأته : اسلخها حتى نُقدد شَحْمَها ولحمها فنأكله . فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فسأله ، فقال : " هل عندك غنًى يُغْنِيك ؟ " قال : لا . قال : " فكلوها " . قال : فجاء صاحبها فأخبره{[9080]} الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك .
تفرد به{[9081]} وقد يحتج به من يُجوز الأكل والشبع ، والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم .
وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ } أي : [ غير ]{[9082]} مُتَعَاطٍ لمعصية الله ، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر ، كما قال في سورة البقرة : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الآية : 173 ] .
وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ؛ لأن الرخص لا تنال{[9083]} بالمعاصي ، والله أعلم .
{ حرمت عليكم الميتة } بيان ما يتلى عليكم ، والميتة ما فارقه الروح من غير تذكية . { والدم } أي الدم المسفوح لقوله تعالى : { أو دما مسفوحا } وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها . { ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } أي رفع الصوت لغير الله به كقولهم : باسم اللات والعزى عند ذبحه . { والمنخنقة } أي التي ماتت بالخنق . { والموقوذة } المضروبة بنحو خشب ، أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته . { والمتردية } التي تردت من علو أو في بئر فماتت . { والنطيحة } التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء فيها للنقل . { وما أكل السبع } وما أكل منه السبع فمات ، وهو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل . { إلا ما ذكيتم } إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك . وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع . والذكاة في الشرع لقطع الحلقوم والمريء بمحدد . { وما ذبح على النصب } النصب واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة . وقيل هي الأصنام وعلى بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام . وقيل هو جمع والواحد نصاب . { وأن تستقسموا بالأزلام } أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح . مكتوب على أحدها ، أمرني ربي . وعلى الآخر : نهاني ربي . والثالث غفل ، فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أجلوها ثانيا ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام . وقيل : هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة وواحد الأزلام زلم كجمل وزلم كصرد . { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام ، وكونه فسقا لأنه دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه ، وافتراء على الله سبحانه وتعالى إن أريد بربي الله ، وجهالة وشرك إن أريد به الصنم أو الميسر المحرم أو إلى تناول ما حرم عليهم . { اليوم } لم يرد به يوما بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية . وقيل أراد يوم نزولها وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة في عرفة حجة الوداع . { يئس الذين كفروا من دينكم } أي من إبطاله ورجوعكم عنه بتحيل هذه الخبائث وغيرها أو من أن يغلبوكم عليه . { فلا تخشوهم } أن يظهروا عليكم . { واخشون } وأخلصوا الخشية لي . { اليوم أكملت لكم دينكم } بالنصر والإظهار على الأديان كلها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد . { وأتممت عليكم نعمتي } بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية . { ورضيت لكم الإسلام دينا } اخترته لكم دينا من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير . { فمن اضطر } متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض لما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي والمعنى : فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات . { في مخمصة } مجاعة { غير متجانف لإثم } غير مائل له ومنحرف إليه بأن يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة كقوله : { غير باغ ولا عاد } . { فإن الله غفور رحيم } لا يؤاخذه بأكله .
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } .
استئناف بيانيّ ناشىء عن قوله : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم } [ المائدة : 1 ] ، فهو بيان لما ليس بحلال من الأنعام .
ومعنى تحريم هذه المذكورات تحريم أكلها ، لأنَّه المقصود من مجموع هذه المذكورات هنا . وهي أحوال من أحوال الأنعام تقتضي تحريم أكلها . وأدمج فيها نوع من الحيوان ليس من أنواع الأنعام وهو الخنزير ، لاستيعاب محرّمات الحيوان . وهذا الاستيعاب دليل لإباحة ما سوى ذلك ، إلاّ ما ورد في السنّة من تحريم الحُمُر الأهلية ، على اختلاف بين العلماء في معنى تحريمها ، والظاهر أنَّه تحريم منظور فيه إلى حالة لا إلى الصنف . وألحَق مالك بها الخيلَ والبغال قياساً ، وهو من قياس الأدْون ، ولقول الله تعالى إذ ذكرها في معرض الامتنان { الخيلَ والبغالَ والحمير لتركبوها وزينة } [ النحل : 8 ] . وهو قول أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه ، وهو استدلال لا يعرف له نظير في الأدلّة الفقهية . وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : يَجوز أكل الخيل . وثبت في الصحيح ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ذبحنا فرساً على عهد رسول الله فأكلناه . ولم يُذكر أنّ ذلك منسوخ . وعن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر ورخَّص في لحوم الخيل .
وأمّا الحُمُر الأهلية فقد ورد في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكلها في غزوة خيبر . فقيل : لأنّ الحُمر كانت حَمولتهم في تلك الغَزاة . وقيل : نهى عنها أبداً . وقال ابن عباس بإباحتها . فليس لتحريم هذه الثلاثة على الإطلاق وجه بيّن من الفقه ولا من السنّة .
والميْتة الحيوان الذي زالت منه الحياة ، والموتُ حالة معروفة تنشأ عن وقوف حركة الدم باختلال عمل أحد الأعضاء الرئيسية أو كلّها . وعلَّة تحريمها أنّ الموت ينشأ عن علل يكون معظمها مضرّاً بسبب العدوى ، وتمييز ما يُعدي عن غيره عسير ، ولأنّ الحيوان الميّت لا يُدرى غالباً مقدار ما مضى عليه في حالة الموت ، فربَّما مضت مدّة تستحيل معها منافع لحمه ودمه مضارّ ، فنيط الحكم بغالب الأحوال وأضبطها .
والدم هنا هو الدم المُهراق ، أي المسفوح ، وهو الذي يمكن سيلانه كما صرّح به في آية الأنعام ( 145 ) ، حَملاً لمطلقِ هذه الآية على مقيّد آية الأنعام ، وهو الذي يخرج من عروق جسد الحيوان بسبب قطع العِرق وما عليه من الجِلد ، وهو سائل لزج أحمر اللون متفاوت الحمرة باختلاف السنّ واختلاف أصناف العروق .
والظاهر أنّ علّة تحريمه القذارة : لأنّه يكتسب رائحة كريهة عند لقائه الهواءَ ، ولذلك قال كثير من الفقهاء بنجاسة عينه ، ولا تعرّض في الآية لذلك ، أو لأنَّه يحمل ما في جسد الحيوان من الأجزاء المضرّة التي لا يحاط بمعرفتها ، أو لما يحدثه تعوّد شرب الدم من الضراوة التي تعود على الخُلق الإنساني بالفساد .
وقد كانت العرب تأكل الدم ، فكانوا في المجاعات يفصدون من إبلهم ويخلطون الدم بالوَبَر ويأكلونه ، ويسمّونه العِلْهِز بكسر العين والهاء . وكانوا يملأون المَصير بالدم ويشوونها ويأكلونها ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { إنَّما حرّم عليكم الميتة والدم } في سورة البقرة ( 173 ) .
وإنَّما قال : ولحمَ الخنزير } ولم يقل والخنزير كما قال : { وما أهلّ لغير الله به } إلى آخر المعطوفات . ولم يذكر تحريم الخنزير في جميع آيات القرآن إلاّ بإضافة لفظ لحم إلى الخنزير . ولم يأت المفسّرون في توجيه ذلك بوجه ينثلج له الصدر . وقد بيّنا ذلك في نظير هذه الجملة من سورة البقرة ( 173 ) . ويبدو لي أنّ إضافة لفظ لحم إلى الخنزير للإيماء إلى أنّ المحرّم أكل لحمه لأنّ اللحم إذا ذكر له حكم فإنَّما يراد به أكله . وهذا إيماء إلى أنّ ما عدا أكل لحمه من أحوال استعمال أجزائه هو فيها كسائر الحيوان في طهارة شعره ، إذا انتزع منه في حياته بالجزّ ، وطهارة عرقه وطهارة جلده بالدبغ ، إذا اعتبرنا الدبغ مطهّراً جلد الميتة ، اعتباراً بأنّ الدبغ كالذكاة . وقد روي القول بطهارة جلد الخنزير بالدبغ عن داود الظاهري وأبي يوسف أخذاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم « أيما إهاب دبغ فقد طهر » رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس . وعلّة تحريم الخنزير أنّ لحمه يشتمل على جراثيم مضرّة لا تقتلها حرارة النار عند الطبخ ، فإذا وصلت إلى دم آكله عاشت في الدم فأحدثت أضراراً عظيمة ، منها مرض الديدان التي في المعدة .
{ وما أهلّ لغير الله به } هو ما سُمّي عليه عند الذبح اسمُ غير الله . والإهلالُ : الجهر بالصوتِ ومنه الإهلال بالحجّ ، وهو التلبية الدالّة على الدخول في الحجّ ، ومنه استهلّ الصبي صارخاً . قيل : ذلك مشتقّ من اسم الهلال ، لأنّ العرب كانوا إذا رأوا هلال أوّل ليلة من الشهر رفعوا أصواتهم بذلك ليَعلم الناس ابتداءَ الشهر ، ويحتمل عندي أن يكون اسم الهلال قد اشتقّ من جَهر الناس بالصوت عند رؤيته . وكانوا إذا ذبحوا القرابين للأصنام نادَوا عليها باسم الصنم ، فقالوا : باسم اللاّت ، باسم العُزّى .
{ والمنخنقة } هي التي عرض لها ما يخنقها . والخَنْق : سَدّ مجاري النفَس بالضغط على الحلق ، أو بسدّه ، وقد كانوا يربطون الدابّة عند خشبة فربما تخبّطت فانخنقت ولم يشعروا بها ، ولم يكونوا يخنقونها عند إرادة قتلها . ولذلك قيل هنا : المنخنقة ، ولم يقل المخنوقة بخلاف قوله { والموقوذة } ، فهذا مراد ابن عباس بقوله : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها .
وحكمة تحريم المنخنقة أنّ الموت بانحباس النفس يفسد الدم باحتباس الحوامض الفحمية الكائنة فيه فتصير أجزاء اللحم المشتمل على الدم مضرّة لآكله .
{ والموقوذة } : المضروبة بحجر أو عصا ضرباً تموت به دون إهراق الدم ، وهو اسم مفعول من وقَذ إذا ضرب ضرباً مثخِناً . وتأنيث هذا الوصف لتأويله بأنَّه وصف بهيمة . وحكمة تحريمها تُماثل حكمة تحريم المنخنقة .
{ والمتردّية } : هي التي سقطت من جَبَل أو سقطت في بئر تردّياً تموت به ، والحكمة واحدة .
{ والنطيحة } فعيلة بمعنى مَفعولة . والنطح ضربُ الحيوان ذي القرنين بقَرنيه حيواناً آخر . والمراد التي نطحتها بهيمة أخرى فماتت . وتأنيث النطيحة مثل تأنيث المنخنقة ، وظهرت علامة التأنيث في هذه الأوصاف وهي من باب فَعيل بمعنى مفعول لأنَّها لم تجر على موصوف مذكور فصارت بمنزلة الأسماء .
{ وما أكل السبع } : أي بهيمة أكَلَها السبع ، والسبع كلّ حيوان يفترس الحيوان كالأسد والنمر والضبع والذئب والثعلب ، فحرّم على الناس كلّ ما قتله السبع ، لأنّ أكيلة السبع تموت بغير سفح الدم غالباً بل بالضرب على المقاتل .
وقوله : { إلاّ ما ذكّيتم } استثناء من جميع المذكور قبله من قوله : { حرّمت عليكم الميتة } ؛ لأنّ الاستثناء الواقع بعد أشياء يصلح لأن يكون هو بعضها ، يرجع إلى جميعها عند الجمهور ، ولا يرجع إلى الأخيرة إلاّ عند أبي حنيفة والإمام الرازي ، والمذكورات قبلُ بعضها محرّمات لذاتها وبعضها محرّمات لصفاتها . وحيث كان المستثنى حالاً لا ذاتاً ، لأنّ الذكاة حالة ، تعيَّن رجوع الاستثناء لِما عدا لحمَ الخنزير ، إذ لا معنى لتحريم لحمه إذا لم يُذكّ وتحليلِه إذا ذكِّي ، لأنّ هذا حكم جميع الحيوان عند قصد أكله . ثم إنّ الذكاة حالة تقصد لقتل الحيوان فلا تتعلّق بالحيوان الميّت ، فعُلِم عدم رجوع الاستثناء إلى الميْتة لأنَّه عبث ، وكذلك إنَّما تتعلّق الذكاة بما فيه حياة فلا معنى لتعلّقها بالدم ، وكذا ما أهِلّ لغير الله به ، لأنهم يهلّون به عند الذكاة ، فلا معنى لتعلّق الذكاة بتحليله ، فتعيّن أنّ المقصود بالاستثناء : المنخنقة ، والموقوذة ، والتمردّية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، فإنّ هذه المذكورات تعلّقت بها أحوال تفضي بها إلى الهلاك ، فإذا هلكت بتلك الأحوال لم يُبح أكلها لأنّها حينئذٍ ميْتة ، وإذا تداركوها بالذكاة قبل الفوات أبيح أكلها . والمقصود أنّها إذا ألحقت الذكاة بها في حالة هي فيها حيّة . وهذا البيان ينبّه إلى وجه الحصر في قوله تعالى : { قل لا أجدُ فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنَّه رجْس أو فسقاً أهلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] . فذكر أربعة لا تعمل الذكاة فيها شيئاً ولم يذكرالمنخنقة والموقوذة وما عطف عليها هنا ، لأنّها تحرُم في حال اتّصال الموت بالسبب لا مطلقاً . فعَضّوا على هذا بالنواجذ .
وللفقهاء في ضبط الحالة التي تعمل فيها الذكاة في هاته الخمس عبارات مختلفة : فالجمهور ذهبوا إلى تحديدها بأن يبقى في الحيوان رمق وعلامةُ حياة ، قبل الذبح أو النحر ، من تحريك عضو أو عين أو فم تحريكاً يدلّ على الحياة عرفاً ، وليس هو تحريك انطلاق الموت .
وهذا قول مالك في « الموطّأ » ، ورواية جمهور أصحابه عنه . وعن مالك : أنّ المذكورات إذا بلغت مبلغاً أنْفِذَتْ معه مقاتلها ، بحيث لا ترجى حياتها لو تركت بلا ذكاة ، لا تصحّ ذكاتها ، فإن لم تنفذ مقاتلها عملت فيها الذكاة . وهذه رواية ابن القاسم عن مالك ، وهو أحد قولي الشافعي . ومن الفقهاء من قالوا : إنَّما ينظر عند الذبح أحيَّة هي أم ميّتة ، ولا ينظر إلى حالة هل يعيش مثلها لو تركت دون ذبح . وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك ، واختاره ابن حبيب ، وأحد قولين للشافعي . ونفس الاستثناء الواقع في الآية يدلّ على أنّ الله رخّص في حالة هي محلّ توقّف في إعمال الذكاة ، أمَّا إذا لم تُنْفَذ المقاتل فلا يخفى على أحد أنّه يباح الأكل ، إذ هو حينئذٍ حيوان مرضوض أو مجروح ، فلا يحتاج إلى الإعلام بإباحة أكله بذكاة ، إلاّ أنّ يقال : إنّ الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن ، أي لكن كلوا ما ذكّيتم دون المذكورات ، وهو بعيد . ومن العلماء من جعل الاستثناء من قوله : { وما أكل السبع } على رأي من يجعل الاستثناء للأخيرة ، ولا وجه له إلاّ أن يكون ناظراً إلى غلبة هذا الصنف بين العرب ، فقد كانت السباع والذئاب تنتابهم كثيراً ، ويكثر أن يلحقوها فتترك أكيلتها فيدْركوها بالذكاة .
{ وما ذُبح على النُصب } هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنُشُرات فوق الأنصاب . والنُصُب بضمّتين الحجر المنصوب ، فهو مفرد مراد به الجنس ، وقيل : هو جمع وواحده نِصاب ، ويقال : نَصْب بفتح فسكون { كأنّهم إلى نَصْب يوفضون } [ المعارج : 43 ] . وهو قد يطلق بما يرادف الصنم ، وقد يخصّ الصنم بما كانت له صورة ، والنصُب بما كان صخرة غير مصوّرة ، مثل ذي الخَلصة ومثل سَعْد . والأصحّ أنّ النصب هو حجارة غير مقصود منها أنَّها تمثال للآلهة ، بل هي موضوعة لأنّ تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرّب بها للآلهة وللجنّ ، فإنّ الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معيّنة تقصد للتقرّب . وأمّا الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء وإنَّما كانوا يتّخذها كلّ حَيّ يتقرّبون عندها ، فقد روى أيمَّة أخبار العرب : أنّ العرب كانوا يعظّمون الكعبة ، وهم ولد إسماعيل ، فلمّا تفرّق بعضهم وخرجوا من مكة عظم عليهم فراق الكعبة فقالوا : الكعبةُ حجر ، فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة ، فنصبوا هذه الأنصاب ، وربما طافوا حولها ، ولذلك يسمّونها الدّوار بضمّ الدال المشدّدة وبتشديد الواو ويذبحون عليها الدماء المتقرّب بها في دينهم . وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة .
وعن أبي رجاء العطاردي في « صحيح البخاري » : كنّا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً خيراً منه ألقينا الأوّل وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً ( أي في بلاد الرمل ) جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ليصير نظير الحجر ثمّ طفنا به .
فالنصب : حجارة أعدّت للذبح وللطواف على اختلاف عقائد القبائل : مِثل حجر الغَبْغَبِ الذي كان حول العُزّى . وكانوا يذبحون على الأنصاب ويشرّحون اللحم ويشوونه ، فيأكلون بعضه ويتركون بعضاً للسدنة ، قال الأعشى ، يذكر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدته التي صنعها في مدحه :
وذا النُصُبَ المَنْصُوب لا تَنْسُكَنَّه
وقال زيد بن عَمْرو بن نفيل للنبيء صلى الله عليه وسلم قبلَ البعثة ، وقد عرض عليه الرسولُ سُفرة ليَأكل معه في عكاظ : { إنّي لا آكل ممّا تذبَحُون على أنصابكم } . وفي حديث فتح مكَّة : كان حول البيت ثلاثمائة ونيّف وستّون نصباً ، وكانوا إذا ذبحوا عليها رشّوها بالدم ورشّوا الكعبة بدمائهم . وقد كان في الشرائع القديمة تخصيص صخور لذبح القرابين عليها ، تمييزاً بين ما ذُبِح تديّناً وبين ما ذبح للأكل ، فمن ذلك صخرة بيت المقدس ، قيل : إنَّها من عهد إبراهيم وتحتها جبّ يعبّر عنها ببئر الأرواح ، لأنَّها تسقط فيها الدماء ، والدمُ يسمّى رُوحاً . ومن ذلك فيما قيل : الحجر الأسود كان على الأرض ثم بناه إبراهيم في جدر الكعبة . ومنها حجر المقام ، في قول بعضهم . فلما اختلطت العقائد في الجاهلية جعلوا هذه المذابح لذبح القرابين المتقرّب بها للآلهة وللجنّ . وفي « البخاري » عن ابن عباس : النصُب : أنصاب يذبحون عليها . قلت : ولهذا قال الله تعالى : { وما ذبح على النصب } بحرف ( على ) ، ولم يقل وما ذبح للنُصب لأنّ الذبيحة تقصد للأصنام والجنّ ، وتذبح على الأنصاب ، فصارت الأنصاب من شعائر الشرك .
ووجه عطف { وما ذُبح على النصب } على المحرّمات المذكورة هنا ، مع أنّ هذه السورة نزلت بعد أن مضت سنين كثيرة على الإسلام وقد هجر المسلمون عبادة الأصنام ، أنّ في المسلمين كثيرين كانوا قريبي عهد بالدخول في الإسلام ، وهم وإن كانوا يعلمون بطلان عبادة الأصنام ، أوّل ما يعلمونه من عقيدة الإسلام ، فقد كانوا مع ذلك مدّةَ الجاهلية لا يختصّ الذبحُ على النصُب عندهم بذبائح الأصنام خاصّة ، بل يكون في ذبائح الجنّ ونحوها من النُشُرات وذبائح دفع الأمراض ودفع التابعة عن ولدانهم ، فقالوا : كانوا يستدفعون بذلك عن أنفسهم البرص والجذام ومسّ الجن ، وبخاصّة الصبيان ، ألا ترى إلى ما ورد في كتب السيرة : أنّ الطفيل بن عَمرو الدوْسي لمّا أسلم قبل الهجرة ورجع إلى قومه ودعَا امرأته إلى الإسلام قالت له : أتخشى على الصبية من ذي الشَّرَى ( صَنَممِ دوس ) . فقال : لا ، أنا ضامن ، فأسلمتْ ، ونحو ذلك ، فقد يكون منهم من استمرّ على ذبح بعض الذبائح على الأنصاب التي في قبائلهم على نيّة التداوي والانتشار ، فأراد الله تنبيههم وتأكيد تحريم ذلك وإشاعته .
ولذلك ذِكر في صدر هذه السورة وفي آخرها عند قوله : { يأيها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجس من عمل الشيطان } [ المائدة : 90 ] الآيات .
{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } .
الشأن في العطف التناسب بين المتعاطفات ، فلا جرم أنّ هذا المعطوف من نوع المتعاطفات التي قبله ، وهي المحرّم أكلها . فالمراد هنا النهي عن أكل اللحم الذي يستقسمون عليه بالأزلام ، وهو لحم جزور الميسر لأنّه حاصل بالمقامرة ، فتكون السين والتاء في { تستقسموا } مزيدتين كما هما في قولهم : استجاب واستراب . والمعنى : وأن تقسموا اللحم بالأزلام .
ومن الاستقسام بالأزلام ضرب آخر كانوا يفعلونه في الجاهلية يتطلّبون به معرفة عاقبة فعل يريدون فعله : هل هي النجاح والنفع أو هي خيبة وضرّ ؟ . وإذ قد كان لفظ الاستقسام يشمله فالوجه أن يكون مراداً من النهي أيضاً ، على قاعدة استعمال المشترك في معنييه ، فتكون إرادته إدماجاً وتكون السين والتاء للطلب ، أي طلب القِسم . وطلب القِسم بالكسر أي الحظّ من خير أو ضدّه ، أي طلب معرفته . كان العرب ، كغيرهم من المعاصرين ، مولَعين بمعرفة الاطِّلاع على ما سيقع من أحوالهم أو على ما خفي من الأمور المكتومة ، وكانوا يتوهّمون بأنّ الأصنام والجنّ يعلمون تلك المغيّبات فسوّلت سدنة الأصنام لهم طريقة يُموّهون عليهم بها فجعلوا أزلاماً . والأزلام جمع زَلَم بفتحتين ويقال له : قدح بكسر القاف وسكون الدال وهو عود سهم لا حديدة فيه .
وكيفية استقسام الميسر : المقامرة على أجزاء جزور ينحرونه ويتقامرون على أجزائه ، وتلك عشرة سهام تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية في سورة البقرة ( 219 ) . وكان مقتضى الظاهر أن يقال : وما استقسمتم عليه بالأزلام ، فغيّر الأسلوب وعُدل إلى { وأن تستقسموا بالأزلام } ، ليكون أشمل للنهي عن طريقتي الاستقسام كلتيهما ، وذلك إدماج بديع .
وأشهر صور الاستقسام ثلاثة قداح : أحدها مكتوب عليه « أمرني ربّي » ، وربما كتبوا عليه « افْعَلْ » ويسمّونه الآمر . والآخرُ : مكتوب عليه « نَهاني ربّي » ، أو « لا تَفْعَلْ » ويسمّونه الناهي . والثالث : غُفْل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء أخت القاف أي متروك بدون كتابة . فإذا أراد أحدهم سَفراً أو عملاً لا يدري أيكون نافعاً أم ضارّاً ، ذهب إلى سادن صنمهم فأجال الأزلامَ ، فإذا خرج الذي عليه كتابة ، فعلوا ما رَسَم لهم ، وإذا خرج الغُفْل أعادوا الإجالة . ولمّا أراد امرؤُ القيس أن يقوم لأخذ ثار أبيه حُجْر ، استقسم بالأزلام عند ذي الخَلَصة ، صنم خَثْعَم ، فخرج له الناهي فكسر القِداح وقال :
لو كنتَ ياذا الخَلَص الموتورا *** مِثْلي وكان شيخُك المقبورا
لم تَنْهَ عن قَتْلِ العُداة زُورا
وقد ورد ، في حديث فتح مكة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فقال : " كذَبوا والله إنِ استقسمَ بها قطّ " وهم قد اختلقوا تلك الصورة ، أو توهّموها لذلك ، تنويهاً بشأن الاستقسام بالأزلام ، وتضليلاً للناس الذين يجهلون . وكانت لهم أزلام أخرى عند كلّ كاهن من كهانهم ، ومن حكّامهم ، وكان مِنها عند ( هُبَل ) في الكعبة سبعة قد كتبوا على كلّ واحد شيئاً من أهمّ ما يَعْرِض لهم في شؤونهم ، كتبوا على أحدها العقل في الديَة ، إذا اختلفوا في تعيين من يحمل الدية منهم ؛ وأزلام لإثبات النسب ، مكتوب على واحد « منكم » ، وعلى واحد « من غَيْركم » ، وفي آخر « مُلْصَق » . وكانت لهم أزلام لإعطاء الحقّ في المياه إذا تنازعوا فيها . وبهذه استقسم عبد المطلب حين استشار الآلهة في فداء ابنه عبد الله من النَّذْر الذي نذره أن يَذبحه إلى الكعبة بعشرة من الإبل ، فخرج الزلم على عبد الله فقالوا له : أرض الآلهة فزاد عشرة حتّى بلغ مائة من الإبل فخرج الزّلم على الإبل فنحرها . وكان الرجل قد يتّخذ أزلاماً لنفسه ، كما ورد في حديث الهجرة « أنّ سُراقة ابنَ مالك لمّا لحق النبي صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبره إلى أهل مكة استقسم بالأزلام فخرج له ما يكره » .
والإشارة في قوله : { ذلكم فسق } راجعة إلى المصدر وهو { أن تستقسموا } . وجيء بالإشارة للتنبيه عليه حتّى يقع الحكم على متميّز معيّن .
والفسق : الخروج عن الدين ، وعن الخير ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وما يضلّ به إلاّ الفاسقين } في سورة البقرة ( 26 ) .
وجعل الله الاستقسام فسقاً لأنّ منه ما هو مقامرة ، وفيه ما هو من شرائع الشرك ، لتطلّب المسبّبات من غير أسبابها ، إذ ليس الاستقسام سبباً عاديّاً مضبوطاً ، ولا سبباً شرعيّاً ، فتمحّض لأن يكون افتراء ، مع أنّ ما فيه من توهّم الناس إيّاه كاشفاً عن مراد الله بهم ، من الكذب على الله ، لأنّ الله نصب لمعرفة المسبّبات أسباباً عقليّة : هي العلوم والمعارف المنتزعة من العقل ، أو من أدلّته ، كالتجربة ، وجعل أسباباً لا تعرف سببيتها إلاّ بتوقيف منه على لسان الرّسل : كجعل الزوال سبباً للصّلاة . وما عدا ذلك كذب وبهتان ، فمن أجل ذلك كان فسقاً ، ولذلك قال فقهاؤنا بجرحة من ينتحل ادّعاء معرفة الغيوب .
وليس من ذلك تعرّف المسبّبات من أسبابها كتعرّف نزول المطر من السحاب ، وترقّب خروج الفرخ من البيضة بانقضاء مدّة الحضانة ، وفي الحديث إذا نشأت بَحْرِيَّة ثم تشاءَمَتْ فتلكَ عين غُدَيْقَة أي سحابة من جهة بحرهم ، ومعنى عين أنها كثيرة المطر . وأمَّا أزلام الميسر ، فهي فسْق ، لأنَّها من أكل المال بالباطل .
{ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } .
جملة وقعت معترضة بين آية المحرّمات المتقدّمة ، وبين آية الرخصة الآتِيَة : وهي قوله : { فمن اضطرّ في مخمصة } لأنّ اقتران الآية بفاء الفريع يقضي باتّصالها بما تقدّمها . ولا يصلح للاتّصال بها إلاّ قوله : { حرّمت عليكم الميتة } الآية .
والمناسبة في هذا الاعتراض : هي أنّ الله لمّا حرّم أموراً كان فعلها من جملة دين الشرك ، وهي ما أهِلّ لغير الله به ، وما ذبح على النصب ، وتحريم الاستقسام بالأزلام ، وكان في كثير منها تضييق عليهم بمفارقة معتادهم ، والتقليل من أقواتهم ، أعقب هذه الشدّة بإيناسهم بتذكير أنّ هذا كلّه إكمال لدينهم ، وإخراج لهم من أحوال ضلال الجاهلية ، وأنَّهم كما أُيِّدوا بدين عظيم سَمْح فيه صلاحهم ، فعليهم أن يقبلوا ما فيه من الشدّة الراجعة إلى إصلاحهم : فالبعض مصلحته راجعة إلى المنافع البدنية ، والبعض مصلحتهُ راجعة إلى الترفّع عن حَضِيض الكفر : وهو ما أهلّ به لِغير الله ، وما ذُبح على النُصُب . والاستقسامُ بالأزلام أذكرهم بفوزهم على من يناويهم ، وبمحاسن دينهم وإكماله ، فإنّ من إكمال الإصلاح إجرَاء الشدّة عند الاقتضاء . وذُكّروا بالنعمة ، على عادة القرآن في تعقيب الشدّة باللين . وكان المشركون ، زماناً ، إذا سمعوا أحكام الإسلام رجَوا أن تثقل على المسلمين فيرتدّوا عن الدّين ، ويرجعوا إلى الشرك ، كما قال المنافقون { لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتّى يَنْفَضّوا } [ المنافقون : 7 ] . فلمّا نزلت هذه الأحكام أنزل الله هذه الآية : بشارة للمؤمنين ، ونكاية بالمشركين . وقد روي : أنَّها نزلت يوم فتح مكة ، كما رواه الطبري عن مجاهد ، والقرطبي عن الضحّاك . وقيل : نزلت يوم عرفة في حجّة الوداع مع الآية التي ستأتي عقبها . وهْو ما رواه الطبري عن ابن زيد وجمع ، ونسبه ابن عطِيّة إلى عمر بن الخطاب وهو الأصحّ .
ف { اليوم } يجوز أن يُراد به اليوم الحاضر ، وهو يوم نزول الآية ، وهو إن أريد به يوم فتح مكة ، فلا جرم أنّ ذلك اليوم كان أبهج أيّام الإسلام ، وظهر فيه من قوّة الدين ، بين ظهراني من بقي على الشرك ، ما أيْأسَهم من تقهقر أمر الإسلام ، ولا شكّ أنّ قلوب جميع العرب كانت متعلّقة بمكة وموسم الحجّ ومناسكه : التي كانت فيها حياتهم الاجتماعية والتجارية والدينية والأدبية ، وقوام شؤونهم ، وتعارفهم ، وفصل نزاعهم ، فلا جرم أن يكون انفراد المسلمين بتلك المواطن قاطعاً لبقية آمالهم : من بقاء دين الشرك ، ومن محاولة الفتّ في عضد الإسلام . فذلك اليوم على الحقيقة : يوم تمام اليأس وانقطاع الرجاء ، وقد كانوا قبل ذلك يعاودهم الرجاء تارة . فقد قال أبو سفيان يوم أحد « أعْلُ هُبَل وقال لنا العُزّى ولا عُزّى لكم » . وقال صفوان بن أمية أو أخوه ، يوم هوازن ، حين انكشف المسلمون وظنّها هزيمة للمسلمين : « ألا بطل السحر اليوم » .
وكان نزول هذه الآية يوم حجّة الوداع مع الآية التي بعدها ، كما يؤيّده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يومئذٍ في قول كثير من أصحاب السير " أيها الناس إنّ الشيطان قد يَئِس أن يُعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك فيما تَحْقرون من أعمالكم فاحذروه على أنفسكم "
و { اليوم } يجوز أن يراد به يوم معين ، جدير بالامتنان بزمانه ، ويجوز أن يجعل ( اليومَ ) بمعنى الآن ، أي زمان الحال ، الصادق بطائفة من الزمان ، رَسخ اليأس ، في خلالها ، في قلوب أهل الشرك بعد أن خامر نفوسهم التردّد في ذلك ، فإنّ العرب يطلقون ( اليوم ) على زمن الحال ، ( والأمس ) على الماضي ، و ( الغَد ) على المستقبل . قال زهير :
وأعْلَمُ عِلم اليومِ والأمسِ قبلَه *** ولكِنَّنِي عن عِلمِ مَا في غد عَمِي
يريد باليوم زمان الحال ، وبالأمس ما مضى ، وَبالغد ما يستقبل ، ومنه قول زياد الأعجم :
رأيتُك أمسِ خيرَ بني مَعَدّ *** وأنتَ اليوم خيرُ منكَ أمسِ
وأنت غَدا تزيد الخير خيراً *** كذاكَ تزيد سادةُ عبدِ شمس
وفعل { يئس } يتعدّى ب ( مِن ) إلى الشيء الذي كان مرجوّاً من قبلُ ، وذلك هو القرينة على أنّ دخول ( من ) التي هي لتعدية { يئس } على قوله { دينِكم } ، إنّما هو بتقدير مضاف ، أي يئسوا من أمر دينكم ، يعني الإسلام ، ومعلوم أنّ الأمر الذي كانوا يطمعون في حصوله : هو فتور انتشار الدين وارتداد متّبعيه عنه .
وتفريع النهي عن خشية المشركين في قوله : { فلا تَخشَوْهم } على الإخبار عن يأسهم من أذى الدين : لأنّ يأس العدوّ من نوال عدوّه يزيل بأسه ، ويذهب حماسه ، ويقعده عن طلب عدوّه . وفي الحديث : « ونُصِرْتُ بالرّعْب » . فلمَّا أخبر عن يأسهم طمّن المسلمين من بأس عدوّهم ، فقال : { فلا تخشوهم واخشون } أو لأنّ اليأس لمَّا كان حاصلاً من آثار انتصارات المسلمين ، يوماً فيوماً ، وذلك من تأييد الله لهم ، ذكَّر الله المسلمين بذلك بقوله : { اليومَ يئس الذين كفروا من دينكم } ، وإنّ فريقاً لم يغن عنهم بأسهم من الله شيئاً لأحرياء بأن لا يُخشى بأسهم ، وأن يُخشى مَن خَذَلهم ومكّن أولياءه منهم .
وقد أفاد قوله : { فلا تخشوهم واخشون } مفاد صيغة الحصر ، ولو قيل : فإيّاي فاخشون لجرى على الأكثر في مقام الحصر ، ولكن عُدل إلى جملتي نفي وإثبات : لأنّ مفاد كلتا الجملتين مقصود ، فلا يحسن طيّ إحداهما . وهذا من الدواعي الصارفة عن صيغة الحصر إلى الإتيان بصيغتي إثبات ونفي ، كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثيّ :
تَسيل على حدّ الظّبَاتِ نفوسنا *** ولَيْسَتْ على غير الظُبات تسيل
ونظيره قوله الآتي { فلا تَخْشُوْا الناسَ واخشَون } [ المائدة : 44 ] .
{ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } .
إن كانت آية { اليوم أكملت لكم دينكم } نزَلت يوم حجّة الوداع بعد آية { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } بنحو العامين ، كما قال الضحّاك ، كانت جملة مستقلّة ، ابتدائية ، وكان وقوعها في القرآن ، عقب التي قبلها ، بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها مع نظيرها في إكمال أمر الدّين ، اعتقاداً وتشريعاً ، وكان اليوم المعهود في هذه غير اليوم المعهود في التي قبلها وإن كانتا نزلتا معاً يومَ الحجّ الأكبر ، عام حجّة الوداع ، وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وآخرين .
وفي كلام ابن عطيّة أنَّه منسوب إلى عمر بن الخطّاب ، وذلك هو الراجح الذي عَوّل عليه أهل العلم وهو الأصل في موافقة التلاوة للنزول ، كان اليومُ المذكور في هذه وفي التي قبلها يوماً واحداً ، وكانت هذه الجملة تعداداً لمنّة أخرى ، وكان فصلُها عن التي قبلها جارياً على سنن الجمل التي تساق للتعداد في منَّة أو توبيخ ، ولأجل ذلك : أعيد لفظ { اليوم } ليتعلّق بقوله { أكملت } ، ولم يستغن بالظرف الذي تعلّق بقوله : { يَئِسَ } فلم يقل : وأكملت لكم دينكم .
والدّين : ما كلف الله به الأمّة من مجموع العقائد ، والأعمال ، والشرائع ، والنظم . وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : { إنّ الدين عند الله الإسلام } في سورة آل عمران ( 19 ) . فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه ، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد ، التي لا يسع المسلمين جهلها ، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحجّ بالقول والفعل ، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي ، كان بعد ذلك كلّه قد تمّ البيان المراد لله تعالى في قوله : { ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء } [ النحل : 89 ] وقوله : { لتبيّن للناس ما نزّل إليهم } [ النحل : 44 ] بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنّة ، كافياً في هدي الأمّة في عبادتها ، ومعاملتها ، وسياستها ، في سائر عصورها ، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها ، فقد كان الدين وافياً في كلّ وقت بما يحتاجه المسلمون . ولكن ابتدأتْ أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثمّ اتّسعت جامعتهم ، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتّساعها ، إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكّن رسوخُه ، حتّى استكملت جامعة المسلمين كلّ شؤون الجوامع الكبرى ، وصاروا أمّة كأكمل ما تكون أمّة ، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلّها ، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذٍ . وليس في ذلك ما يشعر بأنّ الدين كان ناقصاً ، ولكن أحوال الأمّة في الأمَمِيَّة غير مستوفاة ، فلمّا توفّرتْ كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية . وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعلّه ليس فيه تشريع شيء جديد ، ولكنَّه تأكيد لما تقرّر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنّة .
فما نجده في هذه السورة من الآيات ، بعد هذه الآية ، ممّا فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم ، نجزم بأنَّها نزلت قبل هذه الآية وأنّ هذه الآية لمّا نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع . وعن ابن عباس : لم ينزل على النبي بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض . فلو أنّ المسلمين أضاعوا كلّ أثارة من علم والعياذ بالله ولم يبق بينهم إلاّ القرآن لاستطاعوا الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم . قال الشاطبي : « القرآن ، مع اختصاره ، جامع ولا يكون جامعاً إلاّ والمجموع فيه أمور كلّية ، لأنّ الشريعة تمّت بتمام نزوله لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } ، وأنت تعلم : أنّ الصلاة ، والزكاة ، والجهاد ، وأشباه ذلك ، لم تبيّن جميع أحكامها في القرآن ، إنَّما بيّنتها السُنَّة ، وكذلك العاديّات من العقود والحدود وغيرها ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كليّاتها المعنويَّة ، وجدناها قد تضمّنها القرآن على الكمال ، وهي : الضروريّات ، والحاجيات ، والتحسينات وَمُكمل كلّ واحد منها ، فالخارج عن الكتاب من الأدلّة : وهو السنّة ، والإجماع ، والقياس ، إنَّما نشأ عن القرآن وفي الصحيح عن ابن مسعود أنَّه قال : « لَعَن الله الوَاشمَات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمنتمصات للحسن المغيِّرات خلقَ الله » فبلغ كلامه امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، وكانت تقرأ القرآن ، فأتته فقالت : « لعنتَ كذا وكذا » فذكرَتْه ، فقال عبد الله : « وما لِي لا ألعن مَن لعنَ رسولُ الله وهو في كتاب الله » ، فقالت المرأة : « لقد قرأت ما بين لَوْحَي المصحف ، فما وجدتُه » ، فقال : « لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه » : قال الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] » اهـ .
فكلام ابن مسعود يشير إلى أنّ القرآن هو جامع أصول الأحكام ، وأنّه الحجّة على جميع المسلمين ، إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه ، فلو أنّ المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين ، لأنّ كلّيّاته وأوامره المفصّلة ظاهرة الدلالة ، ومجملاته تبعث المسلمين على تعرّف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمّة ، المتلقّين عنه ، ولذلك لمّا اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبي لهم كتاباً في مرضه قال عمر : حسبنا كتاب الله ، فلو أنّ أحداً قصر نفسه على علم القرآن فوجد { أقيموا الصلاة } [ البقرة : 43 ] و { آتوا حقّه يوم حصاده } [ الأنعام : 141 ] و { كُتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] و { أتِمّوا الحجّ والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ، لتطلّب بيان ذلك ممّا تقرّر من عمل سلف الأمّة ، وأيضاً ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله : { لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] .
فلا شكّ أنّ أمر الإسلام بدىء ضعيفاً ثم أخذ يظهر ظهورَ سنا الفجر ، وهو في ذلك كلّه دين ، يبيّن لأتباعه الخير والحرام والحلال ، فما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وقد أسلم كثير من أهل مكَّة ، ومعظم أهل المدينة ، فلمّا هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمّة ، وآدابها ، وقوانين تعاملها ، ثم لمّا فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين ، وغلب الإسلام على بلاد العرب ، تمكّن الدين وخدمتْه القوةُ ، فأصبح مرهوباً بأسُه ، ومَنع المشركين من الحجّ بعد عام ، فحجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عشرة وليس معه غير المسلمين ، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين : بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه ، وذلك تَبيَّن واضحاً يومَ الحجّ الذي نزلت فيه هذه الآية .
لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه : لأنّ الدين في كلّ يوم ، من وقت البعْثة ، هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوماً فيوماً ، فمن كان من المسلمين آخذاً بكلّ ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسّك بالإسلام ، فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يُراد به ، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين .
وفي هذه الآية دليل على وقوع تأخير البيان إلى وقت الحاجة . وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح مكة ، كما يُروى عن مجاهد ، فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام ، إذ الإسلام قد فسّر في الحديث بما يشمل الحجّ ، إذ قد مكّنهم يومئذٍ من أداء حجّهم دون معارض ، وقد كمل أيضاً سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه ، ومكّنه من قلب بلاد العرب . فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك .
ولا يصحّ أن يكون المراد من الدين القرآن : لأنّ آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية ، وحسبك من ذلك بقيّة سورة المائدة وآية الكلالة ، التي في آخر النساء ، على القول بأنَّها آخر آية نزلت ، وسورة { إذا جاء نصر الله } [ النصر : 1 ] كذلك ، وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية { اليوم أكملت لكم دينكم } نحواً من تسعين يوماً ، يوحى إليه . ومعنى ( اليوم ) في قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } نظير معناه في قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } .
وقوله : وأتممت عليكم نعمتي } إتمام النعمة : هو خلوصها ممّا يخالطها : من الحرج ، والتعب . وظاهره أنّ الجملة معطوفة على جملة { أكملت لكم دينكم } فيكون متعلَّقاً للظرف وهو اليوم ، فيكون تمام النعمة حاصلاً يوم نزول هذه الآية . وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكّنهم من الحج آمين ، مؤمنين ، خالصين ، وطوّع إليهم أعداءهم يوم حجّة الوداع ، وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمّها عليهم ، فلذلك قيّد إتمام النعمة بذلك اليوم ، لأنّه زمان ظهور هذا الإتمام : إذ الآية نازلة يوم حجّة الوداع على أصحّ الأقوال ، فإن كانت نزلت يوم فتح مكة ، وإن كان القول بذلك ضعيفاً ، فتمام النعمة فيه على المسلمين : أنْ مكّنهم من أشدّ أعدائهم ، وأحرصهم على استئصالهم ، لكن يناكده قوله : { أكملت لكم دينكم } إلاّ على تأويلات بعيدة .
وظاهر العطف يقتضي : أنّ تمام النعمة منَّة أخرى غير إكمال الدين ، وهي نعمة النصر ، والأخوّة ، وما نالوه من المغانم ، ومن جملتها إكمال الدين ، فهو عطف عامّ على خاصّ . وجوّزوا أن يكون المراد من النعمة الدّين ، وإتمامها هو إكمال الدين ، فيكون مفاد الجملتين واحداً ، ويكون العطف لمجرّد المغايرة في صفات الذات ، ليفيد أنّ الدين نعمة وأنّ إكماله إتمام للنعمة ؛ فهذا العطف كالذي في قول الشاعر أنشده الفرّاء في « معاني القرآن » :
إلى الملك القرم وابنِ الهما *** م وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وقوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } الرضى بالشيء الرّكون إليه وعدم النفرة منه ، ويقابله السخط : فقد يرضى أحد شيئاً لنفسه فيقول : رضيتُ بكذا ، وقد يرضى شيئاً لغيره ، فهو بمعنى اختياره له ، واعتقاده مناسبته له ، فيعدّى باللام : للدلالة على أنّ رضاه لأجل غيره ، كما تقول : اعتذرت له . وفي الحديث " إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً " ، وكذلك هنا ، فلذلك ذكر قوله : { لكم } وعُدّي { رَضيت } إلى الإسلام بدون الباء . وظاهر تناسق المعطوفات : أنّ جملة { رضيت } معطوفة على الجملتين اللتين قبلها ، وأنّ تعلّق الظرف بالمعطوف عليه الأول سار إلى المعطوفين ، فيكون المعنى : ورضيت لكم الإسلام ديناً اليومَ . وإذ قد كان رضي الإسلام ديناً للمسلمين ثابتاً في علممِ الله ذلك اليومَ وقبلَه ، تعيّن التأويل في تعليق ذلك الظرف ب { رضيت } ؛ فتأوّله صاحب « الكشاف » بأنّ المعنى : آذنتكم بذلك في هذا اليوم ، أي أعلمتكم : يعني أي هذا التأويل مستفاد من قوله { اليوم } ، لأنّ الذي حصل في ذلك اليوم هو إعلان ذلك ، والإيذان به ، لا حصول رضى الله به ديناً لهم يومئذٍ ، لأنّ الرضى به حاصل من قبل ، كما دلّت عليه آيات كثيرة سابقة لهذه الآية . فليس المراد أنّ « رضيت » مجاز في معنى « أذنت » لعدم استقامة ذلك : لأنّه يزول منه معنَى اختيار الإسلام لهم ، وهو المقصود ، ولأنَّه لا يصلح للتعدّي إلى قوله : { الإسلام } . وإذا كان كذلك فدلالة الخبر على معنى الإيذان من دلالته على لازم من لوازم معناه بالقرينة المعيّنة ، فيكون من الكناية في التركيب . ولو شاء أحد أن يجعل هذا من استعمال الخبر في لازم الفائدة ، فكما استعمل الخبر كثيراً في الدلالة على كون المخبِر عالماً به ، استعمل هنا في الدلالة على الإعلام وإعلانه .
وقد يدلّ قوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } على أنّ هذا الدين دين أبَدي : لأنّ الشيء المختار المدّخر لا يكون إلاّ أنفس ما أُظهر من الأديان ، والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية ، فتكون الآية مشيرة إلى أنّ نسخ الأحكام قد انتهى .
{ فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وجود الفاء في صدر هذه الجملة ، مع عدم مناسبة ما بعد الفاء لما وَليتْه ، يعيِّن أن تكون متّصلة ببعض الآي التي سبقت ، وقد جعلها المفسّرون مرتبطة بآية تحريم الميتة وما عطف عليها من المأكولات ، من غير تعرّض في كلامهم إلى انتظام نظم هذه الآية مع التي قبلها . وقد انفرد صاحب « الكشاف » ببيان ذلك فجعل ما بين ذلك اعتراضاً .
ولا شكّ أنّه يَعنِي باتّصال هذه الجملة بما قبلها : اتّصال الكلام الناشىء عن كلام قبله ، فتكون الفاء عنده للفصيحة ، لأنَّه لمّا تضمَّنت الآيات تحريم كثير ممَّا كانوا يقتاتونه ، وقد كانت بلاد العرب قليلة الأقوات ، معرّضة للمخمصة : عند انحباس الأمطار ، أو في شدّة كَلَب الشتاء ، فلم يكن عندهم من صنوف الأطعمة ما يعتاضون ببعضه عن بعض ، كما طفحت به أقوال شعرائهم .
فلا جرم أن يكون تحريم كثير من معتاد طعامهم مؤذناً بتوقّعٍ منهم أن يفضي ذلك إلى امتداد يد الهلاك إليهم عند المخمصة ، فناسب أن يفصح عن هذا الشرط المعرب عن أحوالهم بتقدير : فإن خشيتم الهلاك في مخمصة فمن اضطرّ في مخمصة الخ . ولا تصلح الفاء على هذا الوجه للعطف : إذ ليس في الجمل السابقة من جمل التحريم ما يصلح لعطف « من اضطرّ في مخمصة » عليه .
والأحسن عندي أن يكون موقع { فمن اضطرّ في مخمصة } متّصلاً بقوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، اتّصال المعطوف بالمعطوف عليه ، والفاء للتفريع : تفريع منّة جزئيّة على منّة كلّيّة ، وذلك أنّ الله امتَنّ في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرّات : مرّة بوصفه في قوله { دينكم } ، ومرّة بالعموم الشامل له في قوله : { نعمتي } ، ومرّة باسمه في قوله : { الإسلام } ؛ فقد تقرّر بينهم : أنّ الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق ، من آيات كثيرة قبل هذه الآية ، فلمّا علمَهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرّم عليهم من المطعومات ، وأعقب ذلك بالمنّة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله : { فمن اضطر } الخ ؛ فناسب أن تعطف هاته التوسعة ، وتفرّع على قوله : { ورضيتُ لكم الإسلام ديناً } وتُعَقَّب المنّة العامّة بالمنّة الخاصّة .
والاضطرار : الوقوع في الضرورة ، وفعله غلب عليه البناء للمجهول ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { ثم اضطرّه إلى عذاب النار } في سورة البقرة ( 126 ) .
والمخمصة : المجاعة ، اشتقّت من الخَمَص وهو ضمور البطن ، لأنّ الجوع يضمر البطون ، وفي الحديث تغدو خِماصاً فتروح بِطَاناً .
والتجانف : التمايل ، والجَنَف : الميل ، قال تعالى : { فمن خَاف من موص جَنَفَا } [ البقرة : 182 ] الآية . والمعنى أنّه اضطرّ غير مائل إلى الحرام من أخذ أموال الناس ، أو من مخالفة الدين . وهذه حال قصد بها ضبط حالة الاضطرار في الإقدام والإحجام ، فلا يقدم على أكل المحرّمات إذا كان رائماً بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج ، ولا يحجم عن تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصْب والسرقة ، وهذا بمنزلة قوله : { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد } [ البقرة : 173 ] ، أي غير باغ ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين .
ووقع قوله : « فإنّ الله غفور رحيم » مغنياً عن جواب الشرط لأنّه كالعلّة له ، وهي دليل عليه ، والاستغناء بمثله كثير في كلام العرب وفي القرآن . والتقديرُ : فمن اضطُرّ في مخمصة غير متجَانف لإثم فلهُ تناول ذلك إنّ الله غفور ، كما قال في الآية نظيرتها { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فَلا إثم عليه إنّ الله غفور رحيم } [ البقرة : 173 ] .