معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

قوله عز وجل : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } الآية . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا مسدد ، حدثنا معمر قال سمعت أبي يقول : إن أنسا قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون معه ، وهي أرض سبخة ، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إليك عني ، والله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار منهم : والله لحمار النبي صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنها نزلت : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } . ويروى أنها لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم ( فاصطلحوا ) وكف بعضهم عن بعض . وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مماراة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذن حقي منك عنوة ، لكثرة عشيرته ، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ، ولم يكن بينهما قتال بالسيوف . وقال سفيان عن السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل ، وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى علية وحبسها ، فبلغ ذلك قومها فجاؤوا ، وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال ، فأنزل الله عز وجل : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما ، { فإن بغت إحداهما } تعدت إحداهما ، { على الأخرى } وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله ، { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء } ترجع { إلى أمر الله } في كتابه وحكمه ، { فإن فاءت } رجعت إلى الحق ، { فأصلحوا بينهما بالعدل } بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله ، { وأقسطوا } اعدلوا . { إن الله يحب المقسطين* }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما . فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا . إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) . .

وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك ، تحت النزوات والاندفاعات . تأتي تعقيبا على تبين خبر الفاسق ، وعدم العجلة والاندفاع وراء الحمية والحماسة ، قبل التثبت والاستيقان .

وسواء كان نزول هذه الآية بسبب حادث معين كما ذكرت الروايات ، أم كان تشريعا لتلافي مثل هذه الحالة ، فهو يمثل قاعدة عامة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية من التفكك والتفرق . ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح . والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح .

والقرآن قد واجه - أو هو يفترض - إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين . ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما ، ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى ، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب .

وهو يكلف الذين آمنوا - من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعا - أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين . فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق - ومثله أن تبغيا معا برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها - فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن ، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله . وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين ، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه ، وأدى إلى الخصام والقتال . فإذا تم قبول البغاة لحكم الله ، قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعة لله وطلبا لرضاه . . ( إن الله يحب المقسطين ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

يقول تعالى آمرًا بالإصلاح بين المسلمين{[27082]} الباغين بعضهم على بعض : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال . وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت ، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم . وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن ، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي ، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول : " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " {[27083]} . فكان كما قال ، صلوات الله وسلامه عليه ، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق ، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة .

وقوله : { فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } أي : حتى ترجع إلى أمر الله{[27084]} وتسمع للحق وتطيعه ، كما ثبت في الصحيح عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . قلت : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما ؟ قال : " تمنعه من الظلم ، فذاك نصرك إياه " {[27085]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر قال : سمعت أبي يحدث : أن أنسًا قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ، لو أتيت عبد الله بن أبي ؟ فانطلق إليه نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب حمارًا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما انطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إليك عني ، فوالله لقد آذاني ريح حمارك " فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك . قال : فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزلت فيهم : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا }

ورواه البخاري في " الصلح " عن مُسَدَّد ، ومسلم في " المغازي " عن محمد بن عبد الأعلى ، كلاهما عن المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، به نحوه{[27086]} .

وذكر سعيد بن جبير : أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر بالصلح بينهما .

وقال السدي : كان رجلا من الأنصار يقال له : " عمران " ، كانت له امرأة تدعى أم زيد{[27087]} ، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في عُلَيَّة له لا يدخل عليها أحد من أهلها . وإن المرأة بعثت إلى أهلها ، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها ، وإن الرجل قد كان خرج ، فاستعان أهل الرجل ، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها ، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال ، فنزلت فيهم هذه الآية . فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم ، وفاءوا إلى أمر الله .

وقوله : { فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض ، بالقسط ، وهو العدل ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا عبد الأعلى ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب{[27088]} ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن ، بما أقسطوا في الدنيا " .

ورواه النسائي{[27089]} عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، به{[27090]} . وهذا إسناده جيد قوي ، رجاله على شرط الصحيح .

وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما وَلُوا " .

ورواه مسلم والنسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ، به{[27091]} .


[27082]:- (1) في أ: "المقتتلين".
[27083]:- (2) صحيح البخاري برقم (2704).
[27084]:- (3) في ت، م: "إلى أمر الله ورسوله".
[27085]:- (4) صحيح البخاري برقم (2443).
[27086]:- (5) المسند (3/157) وصحيح البخاري برقم (2691) وصحيح مسلم برقم (1799).
[27087]:- (6) في أ: "يزيد".
[27088]:- (1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
[27089]:- (2) في ت: "مسلم".
[27090]:- (3) النسائي في السنن الكبرى برقم (5917).
[27091]:- (4) صحيح مسلم برقم (1827) وسنن النسائي (8/321).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع . { فأصلحوا بينهما } بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى . { فإن بغت إحداهما على الأخرى } تعدت عليها . { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ترجع إلى حكمه أو ما أمر به ، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس ، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين . { فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل } بفصل ما بينهما على ما حكم الله ، وتقييد الإصلاح بالعدل ها هنا لأنة مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة . { وأقسطوا } واعدلوا في كل الأمور . { إن الله يحب المقسطين } يحمد فعلهم بحسن الجزاء . والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسعف والنعال ، وهي تدل على أن الباغي مؤمن وأنه إذا قبض عن الحرب ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر الله تعالى ، وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

تفسير الشافعي 204 هـ :

قال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ اَلْمُومِنِينَ اَقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتِ اِحْدياهُمَا عَلَى اَلاُخْرى فَقَاتِلُوا اَلتِي تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ اِلَى أَمْرِ اِللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ}...

فذكر الله عز وجل اقتتال الطائفتين، والطائفتان الممتنعتان: الجماعتان كل واحدة تمتنع أشد الامتناع أو أضعف إذا لزمها اسم الامتناع، وسماهم الله تعالى المؤمنين، وأمر بالإصلاح بينهم، فحق على كل واحد دعاء المؤمنين إذا افترقوا وأرادوا القتال أن لا يقاتلوا حتى يدعوا إلى الصلح. وبذلك قلتُ: لا يبيت أهل البغي قبل دعائهم، لأن على الإمام الدعاء كما أمر الله عز وجل قبل القتال، وأمر الله عز وجل بقتال الفئة الباغية وهي مسماة الإيمان حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت لم يكن لأحد قتالها، لأن الله عز وجل إنما أذن في قتالها في مدة الامتناع بالبغي إلى أن تفيء...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.

"فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما عَلى الأُخْرَى" يقول: فإن أبَت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له، وعليه وتعدّت ما جعل الله عدلاً بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما "فَقاتِلُوا الّتِي تَبْغِي" يقول: فقاتلوا التي تعتدي، وتأبى الإجابة إلى حكم الله "حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ" يقول: حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه، "فإنْ فاءَتْ فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالعَدْلِ" يقول: فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها بالعدل: يعني بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه... وذُكر أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه...

حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس، قال: قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أُبيّ، قال: فانطلق إليه وركب حمارا، وانطلق المسلمون، وهي أرض سبخة فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لنتن حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، قال: فغضب لعبد الله بن أُبيّ رجل من قومه قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه نزلت فيهم "وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما..."...

وقوله: "وأَقْسِطُوا" يقول تعالى ذكره: واعدلوا أيها المؤمنون في حكمكم بين من حكمتم بينهم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله.

"إنّ اللّهَ يُحِبّ المُقْسِطِينَ" يقول: إن الله يحبّ العادلين في أحكامهم، القاضين بين خلقه بالقسط.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... وقوله تعالى: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} أي فإن ظلمت إحدى الطائفتين، وطلبت غير الحق {فقاتلوا التي تبغي} أي تظلم، وتجور {حتى تفيء إلى أمر الله} حتى ترجع إلى أمر الله وإلى الحق. أمر بمعونة الطائفة التي لم تبغ والانتصار لها من الباغية، وهو ما ذكر في آية أخرى {ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنّه الله} [الحج: 60] وعد عز وجل النصر لهم. فيحتمل أن يكون ذلك النّصر الموعود في الدنيا، ويحتمل في الآخرة. وفي الآية الأمر بقتال أهل البغي من غير قيدٍ بالسيف وغيره بقوله: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي}. لكن متى أمكن رفع البغي وكسر مَنَعتهم بغير سلاح فهو الحق، وهو الواجب. لكن إذا لم ينقلعوا عن البغي إلا بالقتال مع السيف فلا بأس به.

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

{فقاتلوا}، دليل على أن الباغي إذا انهزم عن القتال، أو ضعف عنه بما لحقه من الآفات المانعة للقتال، حرم دمه، لأنه غير مقاتل، ولم نؤمر بقتاله إلا إذا قاتل، لأن الله تعالى قال: {فقاتلوا}، ولم يقل: فاقتلوا، والمقاتلة إنما تكون لمن قاتل- والله أعلم- لأنها تقوم من اثنين...

الفيء: الرجوع والمراجعة...

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

فيه دلالة على جواز قتال البغاة، وأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأوّل؟ قلت: لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معاً أو راكبتي شبهة، وأيتهما كانت؛ فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما: إصلاح ذات البين، وتسكين الدهماء بإرادة الحق والمواعظ الشافية، ونفي الشبهة؛ إلا إذا أصرتا، فحينئذٍ تجب المقاتلة. وأما الضمان فلا يتجه، وليس كذلك إذا بغت إحداهما؛ فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين {وَأَقْسِطُواْ} أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين، والقول فيه مثله في الأمر باتقاء الله على عقب النهي عن التقديم بين يديه، والقسط بالفتح: الجور من القسط: وهو اعوجاج في الرجلين... وأمّا القسط بمعنى العدل، فالفعل منه: أقسط، وهمزته للسلب، أي: أزال القسط وهو الجور.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{وإن} إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين، فإن قيل فنحن نرى أكثر الاقتتال بين طوائفهم؟ نقول قوله تعالى: {وإن} إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يقع إلا نادرا، غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي،... {وإن طائفتان} ولم يقل وإن فرقتان تحقيقا للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل، لأن الطائفة دون الفرقة،... {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} ولم يقل: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين، مع أن كلمة {إن} اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال، فيتأكد معنى النكرة المدلول عليها بكلمة {إن} وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي أن لا يقع القتال منهما...

{اقتتلوا} ولم يقل: يقتتلون، لأن صيغة الاستقبال تنبئ عن الدوام والاستمرار، فيفهم منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبئ عن ذلك، يقال فلان يتهجد ويصوم...

{حتى تفيء} إشارة إلى أن القتال ليس جزاء للباغي كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب، بل القتال إلى حد الفيئة، فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم (الثالث) هذا القتال لدفع الصائل، فيندرج فيه وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما، فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حل القتال...

{إلى أمر الله} يحتمل وجوها؛

(أحدها) إلى طاعة الرسول وأولي الأمر لقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.

(وثانيها) إلى أمر الله، أي إلى الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم}.

(ثالثها) إلى أمر الله بالتقوى، فإن من خاف الله حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان.

...

...

...

...

...

...

...

(السابع) قال هاهنا: {فأصلحوا بينهما بالعدل} ولم يذكر العدل في قوله {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا} نقول لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه، وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب، والإصلاح هاهنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال: {بالعدل} فكأنه قال: واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما، لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى.

(الثامن) إذا قال: {فأصلحوا بينهما بالعدل} فأية فائدة في قوله {وأقسطوا} نقول قوله فأصلحوا بينهما بالعدل كان فيه تخصيص بحال دون حال فعمم الأمر بقوله {وأقسطوا} أي في كل أمر مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

فسماهم مؤمنين مع الاقتتال. وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وإن طائفتان} أي جماعتان بالفعل أو القوة جدير كل جماعة منهما بأن يجتمع على ما- دهمها من الأمير بحيث تصير من شدة مراعاته كالطائفة حوله والمتحلقة به، بحيث لا يدرى من شدة اجتماعها على ذلك أولها من آخرها {من المؤمنين} أي ممن هو معدود في عداد العريقين في الإيمان سواء كان هو عريقاً أو فاعلاً ما يطلق عليه به الاسم فقط. ولما كانت الشناعة والفساد في قتال الجماعة أكثر، عبر بضمير الجمع دون التثنية تصويراً لذلك بأقبح صورة فقال: {اقتتلوا} أي- فاختلطوا بسبب القتال حتى كانوا كالفرقة الواحدة {فأصلحوا} أي فأوقعوا الإصلاح ليحصل الصلح... {بينهما} أي بالوعظ والإرشاد الدنيوي والأخروي، ولا تظنوا أن الباغي غير مؤمن فتتجاوزوا فيه أمر الله. ولما كان البغي من أشنع الأمور فكان ينبغي أن لا يلم به أحد، عبر بأداة الشك إرشاداً إلى ذلك فقال: {فإن بغت} أي أوقعت الإرادة السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير {إحداهما} أي الطائفتين {على الأخرى} فلم ترجع إلى حكم الله الذي خرجت عنه ولم تقبل الحق...

{فقاتلوا} أي أوجدوا واطلبوا مقاتلة {التي}...

{تبغي} أي توقع الإرادة وتصر عليها، وأديموا القتال لها {حتى تفيء} أي ترجع مما صارت إليه من جر القطيعة...

. {إلى أمر الله} أي التزام ما أمر به الملك الذي لا يهمل الظالم، بل لا بد أن يقاصصه وأمره ما كانت عليه من العدل قبل البغي...

{فإن فاءت} أي رجعت إلى ما كانت عليه من التمسك بأمر الله الذي هو العدل {فأصلحوا} أي أوقعوا الإصلاح {بينهما}. ولما كان الخصام يجر في الغالب من القول والفعل ما يورث للمصلحين إحنة على بعض المتخاصمين، فيحمل ذلك على الميل مع بعض على بعض، قال: {بالعدل} ولا يحملكم القتال على الحقد على المتقاتلين فتحيفوا. ولما كان العدل في مثل ذلك شديداً على النفوس لما تحملت من الضغائن قال تعالى: {وأقسطوا} أي وأزيلوا القسط -بالفتح وهو الجور- بأن تفعلوا القسط بالكسر وهو العدل العظيم الذي لا جور فيه، في ذلك وفي جميع أموركم، ثم علله ترغيباً فيه بقوله مؤكداً تنبيهاً على أنه من أعظم ما يتمادح به، وردّاً على من لعله يقول: إنه لا يلزم نفسه الوقوف عنده إلا ضعيف: {إن الله} أي الذي بيده النصر والخذلان {يحب المقسطين} أي يفعل مع أهل العدل من الإكرام فعل المحب.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بالعدل} بفصلِ ما بينَهما على حُكمِ الله تَعالى ولا تكتفُوا بمجردِ متاركتهِما عَسى يكونُ بينَهما قتالٌ في وقتٍ آخرَ، وتقييدُ الإصلاحِ بالعدلِ لأنَّه مظِنةُ الحيفِ لوقوعِه بعدَ المقاتلةِ وقدْ أكَّد ذلكَ حيثُ قيلَ: {وَأَقْسِطُوا} أيْ واعدلُوا في كُلِّ ما تأتونَ وما تذرونَ {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} فيجازيهُم أحسنَ الجزاءِ...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

هذا متضمن لنهي المؤمنين عن أن يبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم بعضًا، وأنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير، بالإصلاح بينهم، والتوسط بذلك على أكمل وجه يقع به الصلح، ويسلكوا الطريق الموصلة إلى ذلك، فإن صلحتا، فبها ونعمت، وإن {بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي: ترجع إلى ما حد الله ورسوله، من فعل الخير وترك الشر، الذي من أعظمه، الاقتتال.

وقوله: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} هذا أمر بالصلح، وبالعدل في الصلح، فإن الصلح، قد يوجد، ولكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما، لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض، التي توجب العدول عن العدل، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات، التي تولوها، حتى إنه، قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله، وعياله، في أدائه حقوقهم، وفي الحديث الصحيح: "المقسطون عند الله، على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم، وما ولوا"...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك، تحت النزوات والاندفاعات. تأتي تعقيبا على تبين خبر الفاسق، وعدم العجلة والاندفاع وراء الحمية والحماسة، قبل التثبت والاستيقان.

وسواء كان نزول هذه الآية بسبب حادث معين كما ذكرت الروايات، أم كان تشريعا لتلافي مثل هذه الحالة، فهو يمثل قاعدة عامة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية من التفكك والتفرق. ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح. والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح.

والقرآن قد واجه -أو هو يفترض- إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين. ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما، ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب.

وهو يكلف الذين آمنوا -من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعا- أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين. فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق -ومثله أن تبغيا معا برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها- فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله. وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه، وأدى إلى الخصام والقتال. فإذا تم قبول البغاة لحكم الله، قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعة لله وطلبا لرضاه.. (إن الله يحب المقسطين)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لما جرى قوله: {أن تصيبوا قوماً بجهالة} [الحجرات: 6] الآية كان مما يصدق عليه إصابة قوم أن تقع الإصابة بين طائفتين من المؤمنين لأن من الأخبار الكاذبة أخبار النميمة بين القبائل وخطرها أكبر مما يجري بين الأفراد والتبين فيها أعسر، وقد لا يحصل التبيّن إلا بعد أن تستعر نار الفتنة ولا تجدي الندامة. وفي « الصحيحين» عن أنس بن مالك: أن الآية نزلت في قصة مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه عبد الله بنُ أبيّ بنُ سلول ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبال الحمار، فقال عبد الله بن أُبَيّ: خلّ سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال له عبد الله بن رواحة: والله إن بول حماره لأطيَبُ من مسكك فاستَبَّا وتجالدا وجاء قوماهما الأوس والخزرج، فتجالدوا بالنعال والسعف فرجع إليهم رسول الله فأصلح بينهم... فنزلت هذه الآية. وفي « الصحيحين» عن أسامة بن زيد: وليس فيه أن الآية نزلت في تلك الحادثة.

ويناكد هذا أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة وأن أنس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله: فبلغنا أن نزلت فيهم {وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}. اللهم أن تكون هذه الآية ألحقت بهذه السورة بعد نزول الآية بمدة طويلة. وعن قتاده والسدي: أنها نزلت في فتنة بين الأوس والخزرج بسبب خصومة بين رجل وامرأته أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج انتصر لكل منهما قومه حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال والعصيّ فنزلت الآية فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهما وهذا أظهر من الرواية الأولى فكانت حكماً عاماً نزل في سبب خاص.

و {إنْ} حرف شرط يُخلّص الماضي للاستقبال فيكون في قوة المضارع وارتفع {طائفتان} بفعل مقدر يفسره قوله: {اقتتلوا} للاهتمام بالفاعل. وإنما عدل عن المضارع بعد كونه الأليق بالشرط لأنه لما أريد تقديم الفاعل على فعله للاهتمام بالمسند إليه جعل الفعل ماضياً على طريقة الكلام الفصيح في مثله مما أولِيَت فيه {إنْ} الشرطية الاسم نحو {وإن أحد من المشركين استجارك} [التوبة: 6]، {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً} [النساء: 128]. قال الرضي « وحق الفعل الذي يكون بعد الاسم الذي يلي (إنْ) أن يكون ماضياً وقد يكون مضارعاً على الشذوذ وإنما ضعف مجيء المضارع لحصول الفصل بين الجازم وبين معموله». ويعود ضمير {اقتتلوا} على {طائفتان} باعتبار المعنى لأن طائفة ذات جمع، والطائفة الجماعة. وتقدم عند قوله تعالى: {فلتقم طائفة منهم معك} في سورة النساء (102).

والوجه أن يكون فعل اقتتلوا} مستعملاً في إرادة الوقوع مثل {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] ومثل {والذين يظّاهرون من نسائهم ثم يَعُودون لما قالوا} [المجادلة: 3]، أي يريدون العود لأن الأمر بالإصلاح بينهما واجب قبل الشروع في الاقتتال وذلك عند ظهور بوادره وهو أولى من انتظار وقوع الاقتتال ليمكن تدارك الخطب قبل وقوعه على معنى قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصَّلحا بينهما صلحاً} [النساء: 128].

وبذلك يظهر وجه تفريع قوله: {فإن بغت إحداهما على الأخرى} على جملة {اقتتلوا}، أي فإن ابتدأتْ إحدى الطائفتين قتال الأخرى ولم تنصع إلى الإصلاح فقاتلوا الباغية.

والبغي: الظلم والاعتداء على حق الغير، وهو هنا مستعمل في معناه اللغوي وهو غير معناه الفقهي ف {التي تبغي} هي الطائفة الظالمة الخارجة عن الحق وإن لم تقاتل لأن بغيها يحمل الطائفة المبغِي عليها أن تدافع عن حقها. وإنما جعل حكم قتال الباغية أن تكون طائفة لأن الجماعة يعسر الأخذ على أيدي ظلمهم بأفراد من الناس وأعوان الشرطة فتعين أن يكون كفهم عن البغي بالجيش والسلاح.

وهذا في التقاتل بين الجماعات والقبائل، فأما خروج فئة عن جماعة المسلمين فهو أشد وليس هو مورد هذه الآية ولكنها أصل له في التشريع. وقد بغى أهل الردة على جماعة المسلمين بغياً بغير قتال فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، وبغى بغاة أهل مصر على عثمان رضي الله عنه فكانوا بغاةً على جماعة المؤمنين، فأبى عثمان قتالهم وكره أن يكون سبباً في إراقة دماء المسلمين اجتهاداً منه فوجب على المسلمين طاعته لأنه وليُّ الأمر ولم يَنفُوا عن الثوار حكم البغي.

ويتحقق وصف البغي بإخبار أهل العلم أن الفئة بغت على الأخرى أو بحكم الخليفة العالم العدل، وبالخروج عن طاعة الخليفة وعن الجماعة بالسيف إذا أمر بغير ظلم ولا جور ولم تُخش من عصيانه فتنةٌ لأن ضر الفتنة أشد من شدّ الجور في غير إضاعة المصالح العامة من مصالح المسلمين، وذلك لأن الخروج عن طاعة الخليفة بغي على الجماعة الذين مع الخليفة.

وقد كان تحقيق معنى البغي وصُورهُ غيرَ مضبوط في صدر الإسلام وإنما ضبطه العلماء بعد وقعة الجمل ولم تطل ثم بعد وقعة صفين...

والأمر في قوله: {فقاتلوا التي تبغي} للوجوب، لأن هذا حُكم بين الخصمين والقضاء بالحق واجب لأنه لحفظ حق المحق، ولأن ترك قتال الباغية يجرّ إلى استرسالها في البغي وإضاعة حقوق المبغي عليها في الأنفس والأحوال والأغراض والله لا يحب الفساد، ولأن ذلك يجرىء غيرها على أن تأتي مثل صَنيعها فمقاتلها زجر لغيرها. وهو وجوب كفاية ويتعين بتعيين الإمام جيشاً يوجهه لقتالها إذ لا يجوز أن يلي قتال البغاة إلا الأيمة والخلفاء. فإذا اختلّ أمر الإمامة فليتولَّ قتال البغاة السوادُ الأعظم من الأمة وعلماؤها. فهذا الوجوب مطلق في الأحوال تقيده الأدلة الدالة على عدم المصير إليه إذا علم أن قتالها يجرّ إلى فتنة أشد من بغيها. وقد تلتبس الباغية من الطائفتين المتقاتلتين فإن أسباب التقاتل قد تتولد من أمور لا يُؤْبَهُ بها في أول الأمر ثم تثور الثائرة ويتجالد الفريقان فلا يضبط أمر الباغي منهما، فالإصلاح بينهما يزيل اللبس فإن امتنعت إحداهما تعين البغي في جانبها لأن للإمام والقاضي أن يجبر على الصلح إذا خشي الفتنة ورأى بوارقها، وذلك بعد أن تُبيَّن لكلتا الطائفتين شبهتها إن كانت لها شبهة وَتُزال بالحجة الواضحة والبراهين القاطعة ومن يَأْب منهما فهو أعق وأظلم.

وجعل الفَيْء إلى أمر الله غاية للمقاتلة، أي يستمر قتال الطائفة الباغية إلى غاية رجوعها إلى أمر الله، وأمر الله هو ما في الشريعة من العدل والكف عن الظلم، أي حتى تقلع عن بغيها، وأُتْبع مفهوم الغاية ببيان ما تُعامَل به الطائفتان بعد أن تفي الباغية بقوله: {فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل}، والباء للملابسة والمجرور حال من ضمير {اصلحوا}.

والعدل: هو ما يقع التصالح عليه بالتراضي والإنصاف وأن لا يضر بإحدى الطائفتين فإن المتالف التي تلحق كلتا الطائفتين قد تتفاوت تفاوتا شديداً فتجب مراعاة التعديل.

وقُيد الإصلاحُ المأمور به ثانياً بقيد أن تفيء الباغية بقيد {بالعدل} ولم يقيد الإصلاح المأمور به، وهذا القيد يقيد به أيضاً الإصلاح المأمور به أولاً لأن القيد من شأنه أن يعود إليه لاتحاد سبب المطلق والمقيد، أي يجب العدل في صورة الإصلاح فلا يضيعوا بصورة الصلح منافع عن كلا الفريقين إلا بقدر ما تقتضيه حقيقة الصلح من نزول عن بعض الحق بالمعروف.

ثم أمر المسلمين بالعدل بقوله: {وأقسطوا} أمراً عاماً تذييلاً للأمر بالعدل الخاص في الصلح بين الفريقين، فشمل ذلك هذا الأمر العام أن يعدلوا في صورة ما إذا قاتلوا التي تبغي، ثم قال: {فإن فاءت فأصلحوا بينهما}. وهذا إصلاح ثان بعد الإصلاح المأمور به ابتداء. ومعناه: أن الفِئة التي خضعت للقوة وألقت السلاح تكون مكسورة الخاطر شاعرة بانتصار الفئة الأخرى عليها فأوجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما بترغيبهما في إزالة الإحن والرجوع إلى أخُوَّة الإسلام لئلا يعود التنكر بينهما...

وللفقهاء تفاصيل في أحوال جبر الأضرار اللاحقة بالفئة المعتدَى عليها والأضرار اللاحقة بالجماعة التي تتولى قتال البغاة فينبغي أن يؤخذ من مجموع أقوالهم ما يرى أولو الأمر المصلحة في الحمل عليها جرياً على قوله تعالى: {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}.