فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } .

الطائفة : تتناول الرجل الواحد والجمع والاثنين ؛ والطائفة من الشيء : القطعة .

إن تقاتل فريقان من أهل الإيمان فعلى إخوانهم أن يزيلوا ما بينهم من خلاف ، وأن ينصحوهم ، ويدعوهم إلى الاحتكام إلى كتاب الله .

[ . . والعدول إلى ضمير الجمع-{ اقتتلوا }- لرعاية المعنى فإن كل طائفة من الطائفتين جماعة ؛ فقد روعي في الطائفتين معناهما أولا ولفظا-{ بينهما }- ثانيا . . ]{[5177]} .

{ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } .

{ البغي } : التطاول والفساد ، والتعدي وتجاوز الحد .

{ تفيء } : ترجع وتعود .

فإن تمادت طائفة من الطائفتين المتحاربتين في عنادها ، واستمرأت متابعة العدوان على الطائفة الأخرى ، ولم تقبل الرجوع إلى ما دعيت إليه من التراضي والتقاضي ، فواجب على الأمة أن تقاتل الفئة الباغية حتى ترجع إلى الإذعان لتحكيم كتاب الله ؛ نقل عن ابن عباس : . . . فإن أجابوا حُكِمَ فيهم بكتاب الله ، حتى ينصف المظلوم من الظالم ، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ ، فحق على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم ؛ وقال ابن زيد : هذا أمر من الله أمر به الوالي قال : ولا يقاتل الفئة الباغية إلا الإمام .

{ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين( 9 ) } .

فإن رجعت إلى القبول بحكم القرآن والسنة فاعدلوا بين الفريقين وطيبوا أنفسهما ، وأنصفوا ولا تجوروا ؛ إن الله يحب المحقين العادلين .

أخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أنس قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أتيت عبد الله بن أبيّ ! فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون- وهي أرض سبخة- فلما انطلق إليه قال : إليك عني فوالله لقد آذاني ردع حمارك ؛ فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك ؛ فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكل منهما أصحابه ، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فأنزل الله تعالى فيهم : { وإن طائفتان . . } الآية ؛ وفي رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان متوجها إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فمر على عبد الله بن أبيّ بن سلول فقال ما قال ، فرد عليه عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه ، فغضب لكل أصحابه ، فتقاتلوا ، فنزلت ، فقرأها صلى الله عليه وآله وسلم عليهم فاصطلحوا ؛ وكان ابن رواحة خزرجيا وابن أبيّ أوسيا .

يقول صاحب الجامع لأحكام القرآن : في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين ؛ وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين ؛ واحتج بقوله عليه السلام : ( قتال المؤمن كفر ) ؛ ولو كان قتال المؤمن الباغي كفر لكان الله تعالى قد أمر بالكفر- تعالى الله عن ذلك- وقد قاتل الصديق رضي الله تعالى عنه من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة ، وأمر ألا يتبع مُوَل ، ولا يجهز على جريح ، ولم تحل أموالهم ، بخلاف الواجب في الكفار ؛ وقال الطبري : لو كان الواجب في اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حد ولا أبطل باطل ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم ، بأن يتحزبوا عليهم ، ويكف المسلمون أيديهم عنهم ، وذلك مخالف لقوله عليه السلام : ( خذوا على أيدي سفهائكم ) .

قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، والعمدة في حرب المتأولين ، وعليها عول الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة ، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( تقتل عمارا الفئة الباغية ) وقوله عليه السلام في شأن الخوارج : ( يخرجون على خير فرقة ) . . أو . . : ( تقتلهم أوْلى الطائفتين إلى الحق ) ؛ وكان الذي قاتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه ؛ فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليا رضي الله عنه كان إماما ، وأن كل من خرج عليه باغ . وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح ، لأن عثمان رضي الله تعالى عنه قُتِل والصحابة براء من دمه ، لأنه مَنع من قتال من ثار عليه ، وقال : لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل ، فصبر على البلاء واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة ؛ ثم لم يكن ترك الناس سدى ، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر في الشورى ، وتدافعوها ، وكان علي كرم الله وجهه أحق بها وأهلها ، فقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل ، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل ، فربما تغير الدين وانقضى عمود الإسلام ؛ فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم ؛ فقال لهم علي رضي الله عنه : ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه ؛ فقالوا : لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحا ومساء ؛ فكان علي في ذلك أسدّ رأيا ، وأصوب قيلا ، لأن عليا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربا ثالثة ، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم ، فيجري القضاء بالحق .

ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة ؛ وكذلك جرى لطلحة والزبير ، فإنهما ما خلعا عليا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة ، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى . . وقوله تعالى : { . . فقاتلوا التي تبغي . . } أمر بالقتال وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضي الله عنهم عن هذه المقامات ، كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ، ومحمد بن مسلمة وغيرهم ؛ وصوّب ذلك علي بن أبي طالب لهم ، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه ؛ ويروى أن معاوية رضي الله تعالى عنه لما أفضى إليه الأمر عاتب سعدا على ما فعل ، وقال له : لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين اقتتلا ، ولا ممن قاتل الفئة الباغية ؛ فقال له سعد : ندمت على تركي قتال الفئة الباغية ؛ فتبين أنه ليس على الكل درك- تبعة- فيما فعل ، وإنما كان تصرفا بحكم الاجتهاد ، وإعمالا بمقتضى الشرع ؛ والله أعلم . . وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به . . . والمعول في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في حروبهم لم يتبعوا مُدبرا ، ولا ذفّفُوا على جريح ، ولا قتلوا أسيرا ، ولا ضمنوا نفسا ولا مالا ، وهم القدوة ؛ وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد الله أتدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة ) ؟ قال : الله ورسوله أعلم . فقال : ( لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيئها ) . . وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا ، وعلموا وجهلنا ، واجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا ؛ قال المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن ، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا ، ونتبع ما اجتمعوا عليه ، ونقف عندما اختلفوا فيه ، ولا نبتدع رأيا منا ، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز جل ، إذ كانوا غير متهمين في الدين ؛ ونسأل الله التوفيق{[5178]} .


[5177]:مابين العارضتين مقتبس من تفسير الألوسي.
[5178]:جامع البيان جـ16من ص317إلى ص322.