{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } .
الطائفة : تتناول الرجل الواحد والجمع والاثنين ؛ والطائفة من الشيء : القطعة .
إن تقاتل فريقان من أهل الإيمان فعلى إخوانهم أن يزيلوا ما بينهم من خلاف ، وأن ينصحوهم ، ويدعوهم إلى الاحتكام إلى كتاب الله .
[ . . والعدول إلى ضمير الجمع-{ اقتتلوا }- لرعاية المعنى فإن كل طائفة من الطائفتين جماعة ؛ فقد روعي في الطائفتين معناهما أولا ولفظا-{ بينهما }- ثانيا . . ]{[5177]} .
{ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } .
{ البغي } : التطاول والفساد ، والتعدي وتجاوز الحد .
فإن تمادت طائفة من الطائفتين المتحاربتين في عنادها ، واستمرأت متابعة العدوان على الطائفة الأخرى ، ولم تقبل الرجوع إلى ما دعيت إليه من التراضي والتقاضي ، فواجب على الأمة أن تقاتل الفئة الباغية حتى ترجع إلى الإذعان لتحكيم كتاب الله ؛ نقل عن ابن عباس : . . . فإن أجابوا حُكِمَ فيهم بكتاب الله ، حتى ينصف المظلوم من الظالم ، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ ، فحق على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم ؛ وقال ابن زيد : هذا أمر من الله أمر به الوالي قال : ولا يقاتل الفئة الباغية إلا الإمام .
{ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين( 9 ) } .
فإن رجعت إلى القبول بحكم القرآن والسنة فاعدلوا بين الفريقين وطيبوا أنفسهما ، وأنصفوا ولا تجوروا ؛ إن الله يحب المحقين العادلين .
أخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أنس قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أتيت عبد الله بن أبيّ ! فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون- وهي أرض سبخة- فلما انطلق إليه قال : إليك عني فوالله لقد آذاني ردع حمارك ؛ فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك ؛ فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكل منهما أصحابه ، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فأنزل الله تعالى فيهم : { وإن طائفتان . . } الآية ؛ وفي رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان متوجها إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فمر على عبد الله بن أبيّ بن سلول فقال ما قال ، فرد عليه عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه ، فغضب لكل أصحابه ، فتقاتلوا ، فنزلت ، فقرأها صلى الله عليه وآله وسلم عليهم فاصطلحوا ؛ وكان ابن رواحة خزرجيا وابن أبيّ أوسيا .
يقول صاحب الجامع لأحكام القرآن : في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين ؛ وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين ؛ واحتج بقوله عليه السلام : ( قتال المؤمن كفر ) ؛ ولو كان قتال المؤمن الباغي كفر لكان الله تعالى قد أمر بالكفر- تعالى الله عن ذلك- وقد قاتل الصديق رضي الله تعالى عنه من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة ، وأمر ألا يتبع مُوَل ، ولا يجهز على جريح ، ولم تحل أموالهم ، بخلاف الواجب في الكفار ؛ وقال الطبري : لو كان الواجب في اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حد ولا أبطل باطل ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم ، بأن يتحزبوا عليهم ، ويكف المسلمون أيديهم عنهم ، وذلك مخالف لقوله عليه السلام : ( خذوا على أيدي سفهائكم ) .
قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، والعمدة في حرب المتأولين ، وعليها عول الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة ، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( تقتل عمارا الفئة الباغية ) وقوله عليه السلام في شأن الخوارج : ( يخرجون على خير فرقة ) . . أو . . : ( تقتلهم أوْلى الطائفتين إلى الحق ) ؛ وكان الذي قاتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه ؛ فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليا رضي الله عنه كان إماما ، وأن كل من خرج عليه باغ . وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح ، لأن عثمان رضي الله تعالى عنه قُتِل والصحابة براء من دمه ، لأنه مَنع من قتال من ثار عليه ، وقال : لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل ، فصبر على البلاء واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة ؛ ثم لم يكن ترك الناس سدى ، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر في الشورى ، وتدافعوها ، وكان علي كرم الله وجهه أحق بها وأهلها ، فقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل ، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل ، فربما تغير الدين وانقضى عمود الإسلام ؛ فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم ؛ فقال لهم علي رضي الله عنه : ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه ؛ فقالوا : لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحا ومساء ؛ فكان علي في ذلك أسدّ رأيا ، وأصوب قيلا ، لأن عليا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربا ثالثة ، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم ، فيجري القضاء بالحق .
ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة ؛ وكذلك جرى لطلحة والزبير ، فإنهما ما خلعا عليا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة ، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى . . وقوله تعالى : { . . فقاتلوا التي تبغي . . } أمر بالقتال وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضي الله عنهم عن هذه المقامات ، كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ، ومحمد بن مسلمة وغيرهم ؛ وصوّب ذلك علي بن أبي طالب لهم ، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه ؛ ويروى أن معاوية رضي الله تعالى عنه لما أفضى إليه الأمر عاتب سعدا على ما فعل ، وقال له : لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين اقتتلا ، ولا ممن قاتل الفئة الباغية ؛ فقال له سعد : ندمت على تركي قتال الفئة الباغية ؛ فتبين أنه ليس على الكل درك- تبعة- فيما فعل ، وإنما كان تصرفا بحكم الاجتهاد ، وإعمالا بمقتضى الشرع ؛ والله أعلم . . وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به . . . والمعول في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في حروبهم لم يتبعوا مُدبرا ، ولا ذفّفُوا على جريح ، ولا قتلوا أسيرا ، ولا ضمنوا نفسا ولا مالا ، وهم القدوة ؛ وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد الله أتدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة ) ؟ قال : الله ورسوله أعلم . فقال : ( لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيئها ) . . وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا ، وعلموا وجهلنا ، واجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا ؛ قال المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن ، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا ، ونتبع ما اجتمعوا عليه ، ونقف عندما اختلفوا فيه ، ولا نبتدع رأيا منا ، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز جل ، إذ كانوا غير متهمين في الدين ؛ ونسأل الله التوفيق{[5178]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.