الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار ، فأمسك عبد الله بن أبيّ بأنفه وقال : خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه . فقال عبد الله بن رواحة : والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك وروى : حماره أفضل منك ، وبول حماره أطيب من مسكك ؛ ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا ، وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج ، فتجالدوا بالعصي ، وقيل : بالأيدي والنعال والسعف ، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم ، ونزلت . وعن مقاتل : قرأها عليهم فاصطلحوا . والبغي : الاستطالة والظلم وإباء الصلح . والفيء : الرجوع ، وقد سمى به الظل والغنيمة ؛ لأنّ الظل يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة : ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين ، وعن أبي عمرو : «حتى تفيء » بغير همز ؛ ووجهه أنّ أبا عمرو خفف الأولى من الهمزتين الملتقيتين فلطفت على الراوي تلك الخلسة فظنه قد طرحها .

فإن قلت : ما وجه قوله : { اقتتلوا } والقياس اقتتلتا ، كما قرأ ابن أبي عبلة «أو اقتتلا » كما قرأ عبيد بن عمير على تأويل الرهطين أو النفرين ؟ قلت : هو مما حمل على المعنى دون اللفظ ؛ لأنّ الطائفتين في معنى القوم والناس . وفي قراءة عبد الله «حتى يفيئوا إلى أمر الله » فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط . وحكم الفئة الباغية : وجوب قتالها ما قاتلت . وعن ابن عمر : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدته من أمر هذه الآية إن لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله عز وجل . قاله بعد أن اعتزل ، فإذا كافت وقبضت عن الحرب أيديها تركت ، وإذا تولت اعمل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا ابن أم عبد ، هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمّة ؟ " قال : الله ورسوله أعلم قال : " لا يجهر على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها " ولا تخلوا الفئتان من المسلمين في اقتتالهما : إما أن يقتتلا على سبيل البغى منهما جميعاً ، فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة ، فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي : صير إلى مقاتلتهما ، وإما أن يلتحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما . وكلتاهما عند أنفسهما محقة ، فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، وإطلاعهما على مراشد الحق . فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا من اتباع الحق بعد وضوحه لهما ، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين . وإما أن تكون إحداهما الباغية على الأخرى ؛ فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب ، فإن فعلت أصلح بينهما وبين المبغى عليها بالقسط والعدل ، وفي ذلك تفاصيل : إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها : ضمنت بعد الفيئة ما جئت ؛ وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة ، لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله ؛ فإن كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت . وأمّا قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها ، فما جنته ضمنته عند الجميع ، فمحمل الإصلاح بالعدل في قوله تعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل } على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل ، وعلى قول غيره : وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد ، والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات : ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط .

فإن قلت : فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأوّل ؟ قلت : لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معاً أو راكبتي شبهة ، وأيتهما كانت ؛ فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما : إصلاح ذات البين ، وتسكين الدهماء بإرادة الحق والمواعظ الشافية ، ونفي الشبهة ؛ إلا إذا أصرتا ، فحينئذٍ تجب المقاتلة . وأما الضمان فلا يتجه ، وليس كذلك إذا بغت إحداهما ؛ فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين { وَأَقْسِطُواْ } أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين ، والقول فيه مثله في الأمر باتقاء الله على عقب النهي عن التقديم بين يديه ، والقسط بالفتح : الجور من القسط : وهو اعوجاج في الرجلين . وعود قاسط : يابس . وأقسطته الرياح . وأمّا القسط بمعنى العدل ، فالفعل منه : أقسط ، وهمزته للسلب ، أي : أزال القسط وهو الجور .