غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

1

{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } جمع لأن الطائفتين في معنى القوم ، أو الناس ، أو لأن اقل الجمع اثنان فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم . وعن مقاتل : قرأها عليهم فاصطلحوا . وقال ابن بحر : القتال لا يكون بالنعال والأيدي وإنما هذا في المنتظر من الزمان . والطائفة الجماعة وهي أقل من الفرقة لقوله { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } [ التوبة : 122 ] وارتفاعها بمضمر دل عليه ما بعده أي إن اقتتلت طائفتان واختير " أن " دون " إذا " مع كثرة وقوع القتال بين المؤمنين ليدل على أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادراً وعلى سبيل الفرض والتقدير ، ولهذه النكتة بعينها قال { طائفتان } ولم يقل " فريقان " تحقيقاً للتقليل كما قلنا . وفي تقديم الفاعل على الفعل إشارة أيضاً إلى هذا المعنى لأن كونهما طائفتين مؤمنين يقتضي أن لا يقع القتال بينهما ولهذا اختير المضيّ في الفعل ولم يقل يقتتلون لئلا ينبئ عن الاستمرار .

قال بعض العلماء : إنما قال { اقتتلوا } على الجمع ولم يقل " فأصلحوا بينهم " لأن عند القتال يكون لكل منهم فعل برأسه ، أما عند العود إلى الصلح فإنه تتفق كل طائفة وإلا لم يتحقق الصلح فكان كل من الطائفتين كنفس واحدة فكانت التثنية أقعد . والبغي الاستطالة وإباء الصلح ، والفيء الرجوع وبه سمي الظل لأنه يرجع بعد نسخ الشمس ، أو لأن الناس يرجعون إليه ، والغنيمة لأنها ترجع من الكفار إلى المسلمين . ومعنى قوله { إلى أمر الله } قيل : إلى طاعة الرسول أو من قام مقامه من ولاة الأمر بقوله { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء : 59 ] وقيل : إلى الصلح لقوله { وأصلحوا ذات بينكم } [ الأنفال : 1 ] وقيل : إلى أمر الله بالتقوى فإن من خاف الله حق خشيته لا تبقى له عداوة إلا مع الشيطان . وإنما قال { فإن بغت } ولم يقل " فإذا " بناء على أن بغي إحداهما مع صلاح الأخرى كالنادر ، وكذا قوله { فإن فاءت } لأن الفئة الباغية مع جهلها وعنادها وإصرارها على حقدها كالأمر النادر نظيره قول القائل لعبده : " إن مت فأنت حر " . مع أن الموت لا بد منه وذلك لأن موته بحيث يكون العبد حياً باقياً في ملكه غير معلوم .

واعلم أن الباغية في اصطلاح الفقهاء فرقة خالفت الإمام بتأويل باطل بطلاناً بحسب الظن لا القطع ، فيخرج المرتد لأن تأويله باطل قطعاً ، وكذا الخوارج وهم صنف من المبتدعة يكفرون من أتى بكبيرة ويسبون بعض الأئمة . وهكذا يخرج مانع حق الشرع لله أو للعباد عناداً لأنه لا تأويل له . ولا بد أن يكون له شوكة وعدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفه ببذل مال أو إعداد رجال ، فإن كانوا أفراداً يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي . والأكثرون على أن البغاة ليسوا بفسقة ولا كفرة لقوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } وعن عليّ رضي الله عنه : إخواننا بغوا علينا ولكنهم يخطؤن فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل كما وقع للخارجة عن عليّ رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص لمواطأته إياهم . وكما قال مانعو الزكاة لأبي بكر : أمرنا بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا وصلاة غير النبي صلى الله عليه وسلم ليست بسكن لنا . واتفقوا على أن معاوية ومن تابعه كانوا باغين للحديث المشهور " إن عماراً تقتله الفئة الباغية " وقد يقال : إن الباغية في حال بغيها ليست بمؤمنة وإنما سماهم المؤمنين باعتبار ما قبل البغي كقوله { يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه } [ المائدة : 54 ] والمرتد ليس بمؤمن بالاتفاق . أما الذي يتلفه العادل على الباغي وبالعكس في غير القتال فمضمون على القاعدة الممهدة في قصاص النفوس وغرامة الأموال ، وأما في القتال فلا يضمن العادل لأنه مأمور بالقتال ولا الباغي على الأصح ، لأن في الوقائع التي جرت في عصر الصحابة والتابعين لم يطلب بعضهم بعضاً بضمان نفس ومال ، ولأنه لو وجبت الغرامة لنفرهم ذلك عن العود إلى الطاعة . والأموال المأخوذة في القتال تردّ بعد انقضاء الحرب إلى أربابها من الجانبين . والمراد من متلف القتال ما يتلف بسبب القتال ويتولد منه هلاكه حتى لو فرض إتلاف في القتال من غير ضرورة القتال كان كالإتلاف في غير القتال ، والذين لهم تأويل بلا شوكة لزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال وإن كان على صورة القتال ، وحكمهم حكم قطاع الطريق إذا قاتلوا ، ولو أسقطنا الضمان لأبدت كل شرذمة من أهل الفساد تأويلاً وفعلت ما شاءت وفي ذلك إبطال السياسات ، ولهذه النكتة قرن بالإصلاح . والثاني قوله { بالعدل } لأن تضمين الأنفس والأموال يحتاج فيه إلى سلوك سبيل العدل والنصفة لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة مرة أخرى . واحتج الشافعي لوجوب الضمان إذا لم يكن قتال بأن ابن ملجم قتل علياًَ رضي الله عنه زاعماً أن له شبهة وتأويلاً فأمر بحبسه وقال لهم : إن قتلتم فلا تمثلوا به فقتله الحسن بن علي رضي الله عنه وما أنكر عليه أحد . وأما الذين لهم شوكة ولا تأويل فالظاهر عند بعضهم نفي الضمان وعند آخرين الوجوب . وأما كيفية قتال الباغين فإن أمكن الأسر لم يقتلوا ، وإن أمكن الإثخان فلا يذفف عليه كدفع الصائل إلا إذا التحم القتال وتعسر الضبط . قوله { وأقسطوا } أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين ، قال أهل اللغة : القسط بالفتح والسكون الجور من القسط بفتحتين وهو اعوجاج في الرجلين . وعود قاسط يابس ، والقسط بالكسر العدل والهمزة في أقسط للسلب أي أزال القسط وهو الجور .

/خ18