المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

{ طائفتان } مرفوع بإضمار فعل . والطائفة : الجماعة . وقد تقع على الواحد ، واحتج لذلك بقوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة }{[10457]} [ التوبة : 122 ] . ورأى بعض الناس أن يشهد حداً لزناة رجل واحد . فهذه الآية الحكم فيها في الأفراد وفي الجماعات واحد .

واختلف الناس في سبب هذه الآية . فقال أنس بن مالك والجمهور سببها : ما وقع بين المسلمين والمتحزبين منهم مع عبد الله بن أبي ابن سلول حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه . فقال عبد الله بن أبيّ لما غشيه حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تغبروا علينا ولقد آذانا نتن حمارك . فرد عليه عبد الله بن رواحة الحديث بطوله . فتلاحى الناس حتى وقع بينهم ضرب بالجريد ، ويروى بالحديد{[10458]} .

وقال أبو مالك والحسن سببها : أن فرقتين من الأنصار وقع بينهما قتال . فأصلحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جهد ونزلت الآية في ذلك وقال السدي : كانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر{[10459]} ولها زوج من غيرهم . فوقع بينهما شيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه . فوقع قتال نزلت الآية بسببه{[10460]} .

و : { بغت } معناه : طلبت العلو بغير الحق ، ومدافعة الفئة الباغية متوجه في كل حال وأما التهيؤ لقتالها فمع الولاة . وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أمشركون أهل صفين والجمل ؟ قال : لا . من الشرك فروا . قيل أفمنافقون ؟ قال : لا . لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً . قيل فما حالهم ؟ قال : إخواننا بغوا علينا . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حكم الله في الفئة الباغية أن لا يجهز على جريح . ولا يطلب هارب . ولا يقتل أسير ){[10461]} و : { تفيء } معناه : ترجع . والإقساط : الحكم بالعدل .


[10457]:من الآية(122) من سورة (التوبة).
[10458]:حديث أنس رضي الله عنه أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وذكره الواحدي في (أسباب النزول) بسنده عن معتمر بن سليمان عن أبيه، ونقله عنه القرطبي، وذكره السيوطي في (الدر المنثور)، وزاد نسبته إلى الإمام أحمد، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على ابن سلول وهو ذاهب إلى زيارة سعد بن عبادة، بل فيه أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق وركب حمارا، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليهم قال: إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، وغضب لكل منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل فيهم: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}. أما حديث زيارة سعد بن عبادة فقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، وفيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يعود سعد بن عبادة، فمرّ بمجلس فيهم عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن رواحة، فخمّر ابن أبيّ وجهه بردائه، وقال: لا تغبروا علينا...الخ الحديث وهو طويل، وقد ذكره أبو الفرج البغدادي بطوله في كتابه"المغني".
[10459]:في جميع كتب التفسير والحديث"أم زيد".
[10460]:أخرجه ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم السدي، قال: كان رجل من الأنصار يقال له عمران، تحته امرأة يقال لها أم زيد، وأنها أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها، وأم المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، وكان الرجل قد خرج، فاستعان أهل الرجل فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها، فتدافعوا وتجادلوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه الآية{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا}، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم وفاؤوا إلى أمر الله.(الدر المنثور).
[10461]:ذكر القرطبي هذا الحديث، قال:"وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(يا عبد الله، أتدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة)؟ قال: الله ورسوله أعلم، فقال:(لا يُجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يُقسم فيئها)."