تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

الآية 9 وقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } قال بعضهم : كان بين رجلين عداوة ، أي منازعة في شيء ، فغضب قوم كل رجل حتى كان بينهم خفقٌ بالنّعال والأيدي فنزلت الآية .

وقال بعضهم : كان بين الأوس والخزرج قتال بالعُصيّ ، فنزلت هذه الآية بالأمر بالصلح بينهم .

وقال بعضهم : قتالهم بالعُصيّ [ والنعال ونحوها ]{[19661]} .

وقال الحسن : إن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي ، فأنزل الله تعالى هذه الآية في ذلك .

وقال قتادة : كان بين رجلين حق ، فتدارأا فيه ، فقال أحدهما : لآخذنّه عُنوة لكثرة عشيرته ، وقال الآخر : بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي .

وجائز أن تكون الآية في ما كان بين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وبين الحرورية وأهل نهروان ؛ ذُكر أن عليا رضي الله عنه لما قاتلهم قال الناس : هم مشركون ؟ فقال عليه السلام : من الشرك قد حُسِدوا ، فقال : فمنافقون هم ؟ قال علي رضي الله عنه : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا ، قالوا : فما هم ؟ قال : هم أناس بغوا علينا ، فقاتلونا ، فقاتلناهم .

ويحتمل أنه كان في ما كان بين عليّ رضي الله عنه وبين معاوية يوم الجمل ويوم صفّين .

ذُكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًّا رضي الله عنه سمع رجلا يقول يوم الجَمَل : هم كفروا ، فقال : لا تقل ذلك ، ولكن هؤلاء قوم بغوا علينا ، وزعموا أنا بغينا عليهم ، فقاتلناهم على ذلك .

لكن في الآية الأمر بالصُّلح إذا كان بينهم ؛ أعني المؤمنين ، اقتتال بأي شيء كان بقوله تعالى : { فأصلحوا بينهما } . وكذلك أمر في غير آية{[19662]} بالصُّلح والإصلاح بقوله{[19663]} : { وأصلحوا ذات بينكم } [ الأنفال : 1 ] أي{[19664]} بين المؤمنين .

وهذه الآية حجة على المعتزلة والخوارج ، فإنه أبقى اسم الإيمان بعد ما كان منهم الاقتتال والبغيُ ، والقتال والبغي مع أهل الإسلام من الكبائر ، دلّ أن الكبيرة لا تُخرِج عن الإيمان ، ولا توجب الكفر ، والله الموفق .

وقوله تعالى : { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } أي فإن ظلمت إحدى الطائفتين ، وطلبت غير الحق { فقاتلوا التي تبغي } أي تظلم ، وتجور { حتى تفيء إلى أمر الله } حتى ترجع إلى أمر الله وإلى الحق .

أمر بمعونة الطائف التي لم تبغ والانتصار لها من الباغية ، وهو ما ذكر في آية أخرى { ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنّه الله } [ الحج : 60 ] وعد عز وجل النصر لهم . فيحتمل أن يكون ذلك النّصر الموعود في الدنيا ، ويحتمل في الآخرة .

وفي الآية الأمر بقتال أهل البغي من غير قيدٍ بالسيف وغيره بقوله : { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي } . لكن متى أمكن رفع البغي وكسر مَنَعتهم بغير سلاح فهو الحق ، وهو الواجب . لكن إذا لم ينقلعوا عن البغي إلا بالقتال مع السيف فلا بأس به .

فإن عليًّا رضي الله عنه قاتل الفئة الباغية بالسيف ، ومعه كُبراء الصحابة رضي الله عنهم وأهل بدر ، وكان هو محقا في قتاله إياهم ، دل أنه لا بأس بقتالهم بالسيف .

وبعضهم قالوا : إن قتال البُغاة لا يجوز بالسيف ، وقالوا : إن سبب نزول الآية في القتال بالعُصيّ والنعال ، ولكن لا حجة لهم فيها ، لأن القتال بين الفئتين ، وإن كان بالنعال والعُصي ، ولكن لم يصيروا بُغاة في تلك الحال ، وهو القتال الذي أمر الله تعالى أن يصلح بينهم . وإنما يصيروا بُغاة بأن لم يُجيبوا إلى الصلح ، ولم يقبل أحد من الطائفتين الصلح . وحينئذ أمر بالقتال معهم مطلقا من غير قيد ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا } ذكر أنها ، وإن فاءت ، ورجعت إلى ما أمر الله به ، لا يتركونهما كذلك بغير صُلح ، ولكن أصلحوا بينهما وألّفوا حتى يتآلفوا لأن أهل الإسلام نُدبوا إلى التآلف بينهم والجمع ، وشرط فيه الصلح بالعدل .

فهو ، والله أعلم ، يقول : إنكم وإن رأيتم صلاحكم في الصلح فلا يحملنّكم ذلك على الصلح الذي ليس فيه عدل ، ولكن أصلحوا بينهم بالعدل ، وتجاوزا الحد . وأكّد ذلك قوله : { وأقسطوا } أي أعدلوا في الصلح { إن الله يحب المقسطين } أي العادلين .


[19661]:في الأصل وم: والتناصي ونحوهما.
[19662]:في الأصل وم: آي.
[19663]:في الأصل وم: قال يقال.
[19664]:أدرج قبلها في الأصل وم: كان.