فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } قرأ الجمهور بالجمع باعتبار كل فرد من أفراد الطائفتين كقوله : { هذان خصمان اختصموا } وقال النسفي : حملا على المعنى ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس وثنى في قوله : { فأصلحوا بينهما } نظرا إلى اللفظ .

عن أنس قال : " قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أتيت عبد الله ابن أبي فانطلق إليه وركب حمارا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما انطلق إليه قال : إليك عني ، فوالله لقد آذاني ريح حمارك ، فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكل منهما أصحابه ، وكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فنزلت { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } " الآية{[1522]} أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما .

وقد روي نحو هذا من وجوه أخر ، قال ابن عباس كان قتال بالنعال والعصي ، فأمرهم أن يصلحوا بينهما وعن عائشة قالت : ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الأمة في هذه الآية ، وقيل المراد من الطائفتين الأوس والخزرج .

{ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } البغي التعدي بغير حق ، والامتناع من الصلح الموافق للصواب ، والاستطالة والظلم ، والفيء الرجوع ، وقد سمي به الظل والغنيمة ، لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين ، والمعنى أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين ، فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم ، ويدعوهم إلى حكم الله . فإن حصل بعد ذلك التعدي من أحدى الطائفتين على الأخرى ، ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه ، ولم تتأثر بالنصيحة وأبت الإجابة إلى حكم الله تعالى ، كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية ، حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه وكتابه ، وقيل : إلى طاعته في الصلح الذي أمر به ، وحتى للغاية ، وقيل بمعنى كي ، فتكون للتعليل ، والأول كما قال بعضهم هو الظاهر المناسب لسياق الآية .

عن ابن عباس في الآية قال : " إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله ، وينصف بعضهم عن بعض ، فإذا أجابوا حكم فيهم بكتاب الله حتى ينصف المظلوم ، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ ، وحق على الإمام أن يقاتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ، ويقروا بحكم الله " ، وعن ابن عمر قال ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية أني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله . والحاصل أن حكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت ، فإذا كفت وقبضت عن الحرب أيديها تركت ، والمراد بأمر الله الصلح وزوال الشحناء .

{ فإن فاءت } أي فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها إلى الحق ، وأجابت الدعوات إلى كتاب الله وحكمه والرضا بما فيه { فأصلحوا بينهما بالعدل } أي بالنصح والدعاء إلى حكم الله ، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر ، يعني فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله . ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم . وتؤدي ما يجب عليها للأخرى . ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المتقاتلتين فقال :

{ وأقسطوا } أي : اعدلوا . وهو أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين والقسط الجور ، والقسط العدل ، والفعل منه أقسط الرباعي وهمزته للسلب أي أزال القسط ، وهو الجور بخلاف قسط الثلاثي فمعناه الجور ، يقال : قسط الرجل إذا جار ، وأقسط إذا عدل ، وهذا هو المشهور خلافا للزجاج في جعلهما سواء { إن الله يحب المقسطين } أي : العادلين ، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء .


[1522]:رواه البخاري.