قوله تعالى : { قال } أي قال داود ، { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } أي : بسؤال نعجتك ليضمها إلى نعاجه . فإن قيل : كيف قال لقد ظلمك ولم يكن سمع قول صاحبه ؟ . قيل : معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك ، وقيل : قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول . { وإن كثيراً من الخلطاء } والشركاء ، { ليبغي بعضهم على بعض } يظلم بعضهم بعضاً ، { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنهم لا يظلمون أحداً . { وقليل ما هم } أي : قليل هم ، و ( ( ما ) ) صلة يعني : الصالحين الذين لا يظلمون قليل . قالوا : فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك وصعد إلى السماء ، فعلم داود أن الله تعالى قد ابتلاه ، وذلك قوله : { وظن داود } أيقن وعلم ، { أنما فتناه } إنما ابتليناه . وقال السدي بإسناده : أن أحدهما لما قال : ( ( إن هذا أخي ) ) الآية ، قال داود للآخر : ما تقول ؟ فقال : إن لي تسعاً وتسعين نعجة ولأخي نعجة واحدة وأنا أريد أن آخذها منه فأكمل نعاجي مائة ، قال : وهو كاره ، إذاً لا ندعك وإن رمت ذلك ضربت منك هذا وهذا ، يعني : طرف الأنف وأصله والجبهة ، فقال : يا داود أنت أحق بذلك حيث لم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة ، ولك تسع وتسعون امرأة ، فلم تزل تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته ، فنظر داود فلم ير أحداً فعرف ما وقع فيه . وقال القائلون بتنزيه الأنبياء في هذه القصة : إن ذنب داود إنما كان أنه تمنى أن تكون امرأة أوريا حلالاً له ، فاتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه ، فلما بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده إذا هلك ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله على ذلك ، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله . وقيل : كان ذنب داود أن أوريا كان خطب تلك المرأة ووطن نفسه عليها ، فلما غاب في غزاته خطبها داود فتزوجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا ، فعاتبه الله على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسع وتسعون امرأة .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي قال : ومما يصدق ما ذكرناه عن المتقدمين ما أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أن المعافى بن زكريا القاضي ببغداد أخبره عن محمد بن جرير الطبري ، قال : حدثني يونس بن عبد الأعلى الصيرفي ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة ، عن أبي صخر ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه سمعه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن داود النبي حين نظر إلى المرأة فهم أن يجمع على بني إسرائيل وأوصى صاحب البعث ، فقال إذا حضر العدو فقرب فلاناً بين يدي التابوت ، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به وبمن قدم بين يدي التابوت ، فلم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة ، ونزل الملكان يقصان عليه قصتهما ، ففطن داود فسجد ومكث أربعين ليلة ساجداً حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده : رب زل داود زلةً أبعد مما بين المشرق والمغرب ، رب إن لم ترحم ضعف داود ، ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلق من بعده ، فجاءه جبريل من بعد أربعين ليلة فقال : يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به ، فقال داود : إن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به ، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل ، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة ، فقال : يا رب دمي الذي عند داود ، فقال جبريل : ما سألت ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن ، قال : نعم ، فعرج جبريل وسجد داود ، فمكث ما شاء الله ثم نزل جبريل ، فقال : سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه ، فقال : قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة ، فيقول له : هب لي دمك الذي عند داود ، فيقول : هو لك يا رب ، فيقول : إن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضاً عنه " . وروي عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبار ، ووهب بن منبه قالوا جميعاً : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه ، فتحولا في صورتيهما فعرجا وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه ، وعلم داود إنما عني به فخر ساجداً أربعين يوماً ، لا يرفع رأسه إلا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة ، ثم يعود ساجداً تمام أربعين يوماً ، لا يأكل ولا يشرب ، وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ، ويسأل التوبة ، وكان من دعائه في سجوده : سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء ، سبحان خالق النور ، سبحان الحائل بين القلوب ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي ، سبحان خالق النور ، إلهي أنت خلقتني وكان من سابق علمك ما أنا إليه صائر ، سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء ، فيقال : هذا داود الخاطئ ، سبحان خالق النور ، إلهي بأي عين انظر إليك يوم القيامة ، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي ، سبحان خالق النور ، إلهي بأي قدم أمشي أمامك وأقوم بين يديك يوم القيامة يوم تزل أقدام الخاطئين ، سبحان خالق النور ، إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلا من عند سيده ؟ سبحان خالق النور ، إلهي أنا لا أطيق حر شمسك ، فكيف أطيق حر نارك ؟ سبحان خالق النور ، إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك ؟ فكيف أطيق سوط جهنم ؟ سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب ، سبحان خالق النور ، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري ، سبحان خالق النور ، إلهي برحمتك اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواي ، سبحان خالق النور ، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني ، سبحان خالق النور ، إلهي قد فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ، ولا تخزني يوم الدين ، سبحان خالق النور . قال مجاهد : مكث أربعين يوماً ساجداً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه وغطى رأسه ، فنودي : يا داود أجائع فتطعم ؟ أو ظمآن فتسقى ؟ أو عار فتكسى ؟ فأجيب في غير ما طلب ، قال فنحب نحبةً هاج لها العود فاحترق من حر جوفه ، ثم أنزل الله له التوبة والمغفرة . قال وهب : إن داود أتاه نداء : أني قد غفرت لك ، قال : يارب كيف وأنت لا تظلم أحداً ؟ قال : اذهب إلى قبر أوريا فناده ، فأنا أسمعه نداءك فتحلل منه ، قال : فانطلق وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره ، ثم نادى أوريا فقال : لبيك من هذا الذي قطع عني لذتي وأيقظني ؟ قال : أنا داود ، قال : ما جاء بك يا نبي الله ، قال : أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك ، قال : وما كان منك إلي ؟ قال : عرضتك للقتل ، قال : عرضتني للجنة فأنت في حل ، فأوحى الله إليه : يا داود ألم تعلم أني حكم لا أقضي بالغيب ، ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته ؟ قال فرجع فناداه فأجابه فقال : من هذا الذي قطع عني لذتي ؟ قال : أنا داود ، قال : يا نبي الله أليس قد عفوت عنك ؟ قال : نعم ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها ، قال : فسكت ولم يجبه ، ودعاه فلم يجبه ، وعاوده فلم يجبه ، فقام على قبره وجعل يحثو التراب على رأسه ، ثم نادى : الويل لداود ثم الويل الطويل لداود ، سبحان خالق النور ، والويل لداود إذا نصب الميزان بالقسط ، سبحان خالق النور ، الويل لداود ثم الويل الطويل يؤخذ بذقنه فيدفع إلى المظلوم ، سبحان خالق النور ، الويل ثم الويل الطويل حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار ، سبحان خالق النور ، فأتاه نداء من السماء : يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك ، قال : يا رب كيف وصاحبي لم يعف عني ؟ قال : يا داود أعطيه من الثواب يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه ، فأقول له رضيت عن عبدي داود ؟ فيقول : يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي ؟فأقول : هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي ، قال : يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي . فذلك قوله تعالى : { فاستغفر ربه وخر راكعاً } أي ساجداً ، عبر بالركوع عن السجود ، لأن كل واحد في انحناء . قال الحسين بن الفضل : سألني عبد الله بن طاهر عن قوله : ( ( وخر راكعاً ) ) هل يقال للراكع : خر ؟ قلت : لا ، ومعناه ، فخر بعدما كان راكعاً ، أي : ساجدا { وأناب } أي : رجع وتاب .
ومن ثم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة ؛ ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثاً ، ولم يطلب إليه بياناً ، ولم يسمع له حجة . ولكنه مضى يحكم : قال : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه . وإن كثيراً من الخلطاء - [ أي الأقوياء المخالطين بعضهم لبعض ] - ليبغي بعضهم على بعض . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم . .
ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان : فقد كانا ملكين جاءا للامتحان ! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس ، ليقضي بينهم بالحق والعدل ، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم . وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة . . ولكن القاضي عليه ألا يستثار ، وعليه ألا يتعجل . وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد . قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته ؛ فقد يتغير وجه المسألة كله ، أو بعضه ، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعاً أو كاذباً أو ناقصاً !
عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء :
وهنا أدركته طبيعته . . إنه أواب . . ( فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب ) . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} داود: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} بأخذه التي لك من الواحدة، إلى التسع والتسعين التي له.
{وإن كثيرا من الخلطاء} الشركاء.
{ليبغي بعضهم على بعض}: ليظلم بعضهم بعضا.
{إلا} استثناء فقال: إلا {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} لا يظلمون أحدا.
{وقليل ما هم}: هم قليل، فلما قضى بينهما... علم أن الله تبارك وتعالى ابتلاه بذلك.
{وظن داود أنما فتناه}: وعلم داود أنا ابتليناه.
{فاستغفر ربه وخر راكعا}: وقع ساجدا.
{وأناب} ثم رجع من ذنبه تائبا إلى الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال داود للخصم المتظلم من صاحبه: لقد ظلمك صاحبك بسؤاله نعجتك إلى نعاجه...
وقوله:"وَإنّ كَثِيرا مِنَ الخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ": يقول: وإن كثيرا من الشركاء ليتعدّى بعضهم على بعض، "إلاّ الّذِينَ آمَنُوا بالله وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ "يقول: وعملوا بطاعة الله، وانتهوا إلى أمره ونهيه، ولم يتجاوزوه، "وَقَلِيلٌ ما هُمْ". وفي «ما» التي في قوله: وَقَلِيلٌ ما هُم وجهان: أحدهما أن تكون صلة بمعنى: وقليل هم، فيكون إثباتها وإخراجها من الكلام لا يُفسد معنى الكلام: والآخر أن تكون اسما، و «هم» صلة لها، بمعنى: وقليل ما تجدهم...
[عن] ابن عباس، معنى الكلام: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل الذين هم كذلك، بمعنى: الذين لا يبغي بعضهم على بعض، و«ما» على هذا القول بمعنى: مَنْ.
وقوله: "وَظَنّ دَاوُدُ أنّمَا فَتَنّاهُ "يقول: وعلم داود أنما ابتليناه... عن ابن عباس: "وَظَنّ دَاوُدُ أنّمَا فَتَنّاهُ": اختبرناه.
والعرب توجه الظنّ إذا أدخلته على الإخبار كثيرا إلى العلم الذي هو من غير وجه العيان.
وقوله: "فاسْتَغْفَرَ رَبّهُ" يقول: فسأل داود ربه غفران ذنبه،
"وَخَرّ رَاكِعا" يقول: وخرّ ساجدا لله، "وأنابَ" يقول: ورجع إلى رضا ربه، وتاب من خطيئته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي الذين آمنوا، واعتقدوا في إيمانهم الأعمال الصالحات، وهذه الآية شديدة صعبة على ما ذكرنا، وفيه أن المؤمن الذي اعتقد في إيمانه العمل الصالح، وترك البغي على غيره قليل في كل زمان ودهر.
الظن ههنا الإيقان أي أيقن، وكأن الإيقان، هو علم يستفاد بالأسباب على ما استفاد داوود عليه السلام علما بخصومة الملكين عنده؛ ولذلك لا يضاف الإيقان إلى الله، أنه أيقن كذا، لأنه علم يستفاد بالأسباب، وهو عالم بذاته لا بسبب.
فإن قيل: ما الحكمة في ذكر زلات الرسل صلوات الله عليهم، والأصفياء في الكتاب؟ وهو وصف نفسه أنه غفور وأنه ستور...
تخرج زلات الأنبياء صلوات الله عليهم، في القرآن وترك التستر عليهم على وجوه:
أحدها: ذكرها ليكون ذلك آية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأن قلوب الخلق وأنفسهم لا تحتمل ذكر مساوئ الآباء والأجداد، وكذلك لا تحتمل قلوبهم ذكر مساوئ أنفسهم، فإن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك دل على أنه أمر من الله عز وجل بذكر ذلك ليعلم الناس أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عن أمر منه ذكر ذلك.
والثالث: ذكر زلاتهم ليعلموا -أعني الخلق -كيف عاملوا ربهم عند ارتكابهم الزلات والعثرات، فيعاملون ربهم عند ارتكابهم ذلك على ما عامله الرسل بالبكاء والتضرع والفزع إليه والتوبة عن ذلك.
والرابع: ذكرها ليعلم أن ارتكاب الصغائر لا يزيل الولاية عنه ولا يخرجه من الإيمان...
وزلات الأنبياء عليهم السلام من الصغائر في حقهم لقيام النهي، وإن كانت مباحة في نفسها في حق غيرهم وهي ترك الأفضل، ثم خاف الأنبياء عليهم السلام على ذلك، فلولا أنهم عرفوا أن الله تعالى له أن يعذبهم عليها، وإلا لم يخافوا منها على ما ذكر منهم...
{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه} من غير أن يسأل الخصم عن ذلك يدل على أنه أخرج الكلام مخرج الحكاية والمَثَلِ على ما بينا، وأن داود قد كان عرف ذلك من فحوى كلامه، لولا ذلك لما حكم بظلمه قبل أن يسأله فيقر عنده أو تقوم عليه البينة به.
{وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ} يدل على أنه عليه السلام لم يقصد المعصية بديّاً، وأن كلام المَلَكَيْنِ أوقع له الظن بأنه قد أتى معصية، وأن الله تعالى قد شدّد عليه المحنة بها؛ لأن الفتنة في هذا الموضع تشديد التعبد والمحنة، فحينئذ علم أن ما أتاه كان معصية واستغفر منها.
{وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} روى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في" ص "وليست من العزائم"، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سجدة "ص ": "سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً ونَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْراً".
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
اختلف في الذنب على أربعة أقاويل: أحدها: أنه سمع من أحد الخصمين وحكم له قبل سماعه من الآخر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قرئ (فتناه) بالتخفيف بمعنى أن الملكين فتناه بها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟ قلت: ما قال ذلك إلاّ بعد اعتراف صاحبه، لكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم.
فإن قلت: ماذا أراد بذكر حال الخلطاء في ذلك المقام؟ قلت: قصد به الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة، وأن يكرّه إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم، مع التأسف على حالهم، وأن يسلى المظلوم عما جرى عليه من خليطه، وأنّ له في أكثر الخلطاء أسوة...
عبر بالراكع عن الساجد، لأنه ينحني ويخضع كالساجد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وخر} أي ألقى بنفسه نحو الأرض متطامناً متواضعاً...
إن قيل لم خص داود الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء قد يفعلون ذلك، والجواب لا شك أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة، ثم استثنى عن هذا الحكم الذي آمنوا وعملوا الصالحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون إلا لأجل الدين وطلب السعادات الروحانية الحقيقية.
واعلم أن هذا الاستثناء يدل على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغي بعضهم على بعض، فلو كان داود عليه السلام قد بغى وتعدى على ذلك الرجل لزم بحكم فتوى داود أن لا يكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومعلوم أن ذلك باطل، فثبت أن قول من يقول المراد من واقعة النعجة قصة داود قول باطل.
{وقليل ما هم} واعلم أن الحكم بقلة أهل الخير كثير في القرآن، قال تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} وسبب القلة أن الدواعي إلى الدنيا كثيرة...
{وظن داوود أنما فتناه}... لما غلب على ظنه حصول الابتلاء من الله تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تمت الدعوى، حصل التشوف إلى الجواب فاستؤنف قوله: {قال}:
{لقد ظلمك} أي والله قد أوقع ما فعله معك في غير موقعه على تقدير صحة دعواك.
{بسؤال نعجتك} أي بأن سألك أن يضمها، وأفاد أن ذلك على وجه الاختصاص بقوله: {إلى نعاجه} بنفسه أو بغيره نيابة عنه ولذا لم يقل: بسؤاله، ثم عطف على ذلك أمراً كلياً جامعاً لهم ولغيرهم واعظاً ومرغباً ومرهباً، ولما كانت الخلطة موجبة لظن الألفة لوجود العدل والنصفة واستبعاد وجود البغي معها، أكد قوله واعظاً للباغي إن كان وملوحاً بالإغضاء والصلح للمظلوم: {وإن كثيراً من الخلطاء} أي مطلقاً منكم ومن غيركم {ليبغي} أي يتعدى ويستطيل {بعضهم} عالياً {على بعض} فيريدون غير الحق {إلا الذين آمنوا} من الخلطاء {وعملوا} أي تصديقاً لما ادعوه من الإيمان {الصالحات} أي كلها فإنهم لا يقع منهم بغي {وقليل} وأكد قلتهم وعجب منها بما أبهم في قوله: {ما} مثل نعماً ولأمرما {هم} وأخر هذا المبتدأ وقدم الخبر اهتماماً به لأن المراد التعريف بشدة الأسف على أن العدل في غاية القلة، أي فتأس بهم أيها المدعي وكن منهم أيها المدعى عليه.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{وقليل ما هم}... قال الشهاب: فيه مبالغة من وجوه: وصفهم بالقلة، {قليل} وزيادة {ما} الإبهامية. والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه، فكأنه قيل: ما أقلهم!
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة؛ ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثاً، ولم يطلب إليه بياناً، ولم يسمع له حجة. ولكنه مضى يحكم: قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. وإن كثيراً من الخلطاء -[أي الأقوياء المخالطين بعضهم لبعض]- ليبغي بعضهم على بعض. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم..
ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان: فقد كانا ملكين جاءا للامتحان! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس، ليقضي بينهم بالحق والعدل، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم. وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة.. ولكن القاضي عليه ألا يستثار، وعليه ألا يتعجل. وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد. قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته؛ فقد يتغير وجه المسألة كله، أو بعضه، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعاً أو كاذباً أو ناقصاً!
عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء:
وهنا أدركته طبيعته.. إنه أواب.. (فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ذِكر غالب أحوال الخلطاء أراد به الموعظة لهما بعد القضاء بينهما على عادة أهل الخير من انتهاز فرص الهداية فأراد داود عليه السلام أن يرغبهما في إيثار عادة الخلطاء الصالحين وأن يكرّه إليهما الظلم والاعتداء.
واعلم أن سوق هذا النبأ عقب التنويه بداود عليه السلام ليس إلا تتميماً للتنويه به؛ لدفع مَا قد يُتوهم أنه ينقض ما ذكر من فضائله مما جاء في كتاب « صمويل الثاني» من كتب اليهود في ذكر هذه القصة من أغلاط باطلة تنافي مقام النبوءة فأريد بيان المقدار الصادق منها، وتذييله بأن ما صدر عن داود عليه السلام يستوجب العتاب ولا يقتضي العقاب، ولذلك ختمت بقوله تعالى: {وإن له عندنا لزُلفى وحُسن مئابٍ} [ص: 40].
وبهذا تعلم أن ليس لهذا النبأ تعلق بالمقصد الذي سيق لأجله ذكر داود ومن عطف عليه من الأنبياء.
قوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} نسب واحداً إلى الظلم {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ} أدخل شيئاً في حيثية الحكم وليس من حيثية الحكم، فهل لو لم يكُنْ له تسع وتسعون نعجة، أكان يحِلُّ له أنْ يقول لأخيه: اعطني نعجتك؟
إذن: هذه المسألة لا دخلَ لها في القضية لأنه ظالم وإنْ لم يكن له تسعة وتسعون. إذن: سيدنا داود أولاً حكم قبل أنْ يسمع من الطرف الآخر، ثم أدخل في حيثية الحكم ما ليس له دَخْل فيه، وهو قوله: {إِلَىٰ نِعَاجِهِ} فربما هم حاقدون عليه أن يكون عنده تسع وتسعون.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ} أي: الشركاء {لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} المعنى: أن هذه القضية ليستْ قضية فذَّة ولا مفردة، إنما هي ظاهرة كثيرة الحدوث بين الشركاء، فكثيراً ما يبغي شريكٌ على شريكه ويظلمه مع أنهم ما تشاركوا إلا لمحبة بينهما واتفاق وتفاهم، لكن هذا كله لا يمنع ميل الإنسان إلى أنْ يظلم، وما أشبه هؤلاء بالمقامِرين تراهم في الظاهر أحبَّة وأصدقاء، في حين أن كلاً منهم حريص على أخْذ ما في جيب الآخر.
ثم يلفتنا الحق سبحانه إلى أن هذه المسألة ليستْ على إطلاقها، إنما هناك نوع آخر من الشركاء لا يظلم، فمَنْ هم؟ هم الذين استثناهم الله بقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} لكنهم قليلون {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} أي: أقلّ من القليل أو قليل جداً...
ثم يقول تعالى مبيناً حال سيدنا داود بعد أنْ مَرَّ بهذه القضية: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} يعني: اختبرناه وابتليناه، وظن هنا بمعنى علم وأيقن، وكأن الحق سبحانه يُعلِّم داود علم القضاء وأصوله فامتحنه بهذه المسألة، فكانت بالنسبة له [فتنة] في أمور ثلاثة: الأول: أنه خاف وفزع وهو في حضرة ربه من خَلْق مثله يقبلون عليه، وظن أنهم سيقتلونه. الثاني: أنه حكم للأول قبل أنْ يسمع من الآخر. الثالث: أنه أدخل في حكمه حيثية لا دخلَ لها في المسألة.
وكلمة {فَتَنَّاهُ} أي: اختبرناه من قولهم: فتن الذهب على النار ليُخلِّصه من العناصر الخبيثة فيه.
فلما علم سيدنا داود بذلك لم يتأَبَّ، إنما استغفر ربه من كل ذلك {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ..} أي: سقط على الأرض سقوطاً لا إرادياً، والسقوط هنا يناسب السجود لا الركوع؛ لذلك قال تعالى: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107] فكلمة خر أعطتنا المعنيين يعني: خرَّ ساجداً حالة كونه راكعاً قبل أنْ يسجد ومعنى {وَأَنَابَ} رجع إلى الله بالتوبة.