فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩} (24)

{ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول واللام هي الموطئة للقسم ، وهي وما بعدها جواب القسم المقدر ، وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما سمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه ولم يكن معه غيرها ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الاعتراف من الآخر قال النحاس ويقال خطيئة داود هي قوله لقد ظلمك لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت .

{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ } وهم الشركاء واحدهم خليط ، وهو المخالط في المال { لَيَبْغِي } اللام لام التوكيد وقعت في خبر إن أي يتعدى { بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ويظلمه غير مراع لحقه { إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فإنهم يتحامون ذلك ، ولا يظلمون خليطا ولا غيره والاستثناء متصل { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } أي وقليل هم ، وما زائدة لتوكيد القلة والتعجيب وقيل هي موصولة وهم مبتدأ وقليل خبره ، عن ابن عباس قال يقول قليل الذي هم فيه .

{ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } قال أبو عمروا والفراء : ظن بمعنى أيقن ، ومعنى فتناه ابتليناه ، وقال ابن عباس . اختبرناه ، والمعنى أنه عند أن تخاصما إليه ، وقال ما قال ، علم عند ذلك أنه المراد وأن مقصودهما التعريض به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته ، قال الواحدي قال المفسرون ، فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فعند ذلك علم داود بما أراده قرأ الجمهور فتناه بالتخفيف للتاء وتشديد النون وقرئ بالتشديد للتاء والنون وهي مبالغة في الفتنة ، وقرأ الضحاك أفتناه ، وقرئ فتناه بتخفيفهما وإسناد الفعل إلى الملكين .

{ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } لذنبه { وَخَرَّ رَاكِعًا } أي ساجدا ، وعبر بالركوع عن السجود لأن كل واحد منهما فيه انحناء ، وقيل : خر ساجدا بعد ما كان راكعا ، قال ابن العربي لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود فإن السجود هو الميل والركوع هو الانحناء وأحدهما يدخل في الآخر ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئته ثم جاء هذا على تسميته أحدهما بالآخر وقيل المعنى للسجود راكعا أي مصليا وقيل : بل كان ركوعهم سجدا ، وقيل : بل كان سجودهم ركوعا .

{ وَأَنَابَ } أي رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه ، قال المفسرون : سجد داود أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجدا إلى تمام أربعين لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة ثم أنزل الله له التوبة والمغفرة وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له وتاب عنه على أقوال .

الأول : أنه نظر إلى امرأة الرجل الذي أراد أن تكون زوجة له كذا قال سعيد بن جبير وغيره قال الزجاج ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها وصارت الأولى له والثانية عليه . الثاني : أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة الثالث : أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها . الرابع : أن أوريا بن حنان كان خطب تلك المرأة فلما غاب خطبها داود فزوجت من جلالته ، فاغتم لذلك أوريا فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها .

الخامس : أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند ، ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة . السادس : أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمناه ، وأقوال الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضا لداود عليه السلام أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها ويضمها إلى نسائه ، ولا ينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء فقد نبهه الله على ذلك وعرض له بإرسال ملائكته إليه ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ويتوب منه ، فاستغفر وتاب عنه .

وقد قال تعالى : { وعصى آدم ربه فغوى } وهو أبو البشر ، وأول الأنبياء ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه ، وفي الآية ما يدل على صدور الذنب منه ، وهو قوله : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } وقوله : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } وقوله : { وَأَنَابَ } وقوله : { فغفرنا له ذلك } والجواب عن هذا بأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ليس كما ينبغي ، والأولى ما ذكرناه ،