فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩} (24)

{ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ } أي : بسؤاله نعجتك ؛ ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول ، واللام هي : الموطئة للقسم ، وهي وما بعدها جواب للقسم المقدر . وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما سمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه ، ولم يكن معه غيرها . ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الاعتراف من الآخر . قال النحاس : ويقال : إن خطيئة داود هي : قوله : { لَقَدْ ظَلَمَكَ } ؛ لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء } وهم : الشركاء ، واحدهم خليط : وهو المخالط في المال { لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أي يتعدى بعضهم على بعض ، ويظلمه غير مراع لحقه { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، فإنهم يتحامون ذلك ، ولا يظلمون خليطاً ، ولا غيره { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } أي : وقليل هم ، و " ما " زائدة للتوكيد والتعجيب . وقيل : هي موصولة ، و{ هم } مبتدأ ، و{ قليل } خبره { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه } ، قال أبو عمرو ، والفراء : ظن يعني أيقن . ومعنى { فتناه } ابتليناه ، والمعنى : أنه عند أن تخاصما إليه ، وقال ما قال علم عند ذلك أنه المراد ، وأن مقصودهما التعريض به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته . قال الواحدي : قال المفسرون : فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه ، فضحك ، فعند ذلك علم داود بما أراده .

قرأ الجمهور : { فتناه } بالتخفيف للتاء وتشديد النون . وقرأ عمر بن الخطاب ، والحسن ، وأبو رجاء بالتشديد للتاء ، والنون ، وهي : مبالغة في الفتنة . وقرأ الضحاك : " افتناه " ، وقرأ قتادة ، وعبيد بن عمير ، وابن السميفع : " فتناه " بتخفيفهما ، وإسناد الفعل إلى الملكين ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو { فاستغفر رَبَّهُ } لذنبه { وَخَرَّ رَاكِعاً } أي : ساجداً . وعبر بالركوع عن السجود ، قال ابن العربي : لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود ، فإن السجود هو : الميل ، والركوع هو : الانحناء ، وأحدهما يدخل في الآخر ، ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئة . ثم جاء في هذا على تسمية أحدهما بالآخر . وقيل : المعنى للسجود راكعاً ، أي : مصلياً . وقيل : بل كان ركوعهم سجوداً . وقيل : بل كان سجودهم ركوعاً { وَأَنَابَ } أي رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه .

وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له ، وتاب عنه على أقوال : الأول : أنه نظر إلى امرأة الرجل التي أراد أن تكون زوجة له ، كذا قال سعيد بن جبير وغيره . قال الزجاج : ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها ، وصارت الأولى له ، والثانية عليه . القول الثاني : أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة . الثالث : أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها . الرابع : أن أوريا كان خطب تلك المرأة ، فلما غاب خطبها داود ، فزوّجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا ، فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها . الخامس : أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله على ذلك ، لأن ذنوب الأنبياء ، وإن صغرت ، فهي عظيمة . السادس : أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا .

وأقول : الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضاً لداود عليه السلام : أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها ويضمها إلى نسائه ، ولا ينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء ، فقد نبهه الله على ذلك ، وعرض له بإرسال ملائكته إليه ، ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ، ويتوب منه ، فاستغفر وتاب . وقد قال سبحانه : { وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ] وهو أبو البشر ، وأوّل الأنبياء ، ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه .

/خ25