الحادية عشرة- قوله تعالى : " قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه " قال النحاس : فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام ؛ لأنه قال : لقد ظلمك من غير تثبت ببينة ، ولا إقرار من الخصم ، هل كان هذا كذا أولم يكن . فهذا قول . وسيأتي بيانه في المسألة بعد هذا ، وهو حسن إن شاء الله تعالى . وقال أبو جعفر النحاس : فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم ، منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس ، فإنهم قالوا : ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك . قال أبو جعفر : فعاتبه الله عز وجل على ذلك ونبهه عليه ، وليس هذا بكبير من المعاصي ، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم ، ويلحقه فيه إثم عظيم . كذا قال : في كتاب إعراب القرآن . وقال : في كتاب معاني القرآن له بمثله . قال رضي الله عنه : قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود عليه السلام وأوريا ، وأكثرها لا يصح ولا يتصل إسناده ، ولا ينبغي أن يجترأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها . وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : ما زاد داود عليه السلام على أن قال : " أكفلنيها " أي انزل لي عنها . وروى المنهال عن سعيد بن جبير قال : ما زاد داود صلى الله عليه وسلم على أن قال : " أكفلنيها " أي تحول لي عنها وضمها إلي . قال أبو جعفر : فهذا أجل ما روي في هذا ، والمعنى عليه أن داود عليه السلام سأل أوريا أن يطلق امرأته ، كما يسأل الرجل الرجل أن يبيعه جاريته ، فنبهه الله عز وجل على ذلك ، وعاتبه لما كان نبيا وكان له تسع وتسعون أنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا بالتزيد منها ، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه . قال ابن العربي : وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعا ، فإن داود صلى الله عليه وسلم لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه ، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه : انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك ، كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة ، كانت في الأهل أو في المال . وقد قال سعيد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف حين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما : إن لي زوجتين أنزل لك عن أحسنهما . فقال له : بارك الله لك في أهلك . وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه ، وليس في القرآن أن ذلك كان ، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها ، ولا ولادتها لسليمان ، فعمن يروى هذا ويسند ؟ ! وعلى من في نقله يعتمد ، وليس يأثره عن الثقات الأثبات أحد . أما أن في سورة " الأحزاب " نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة ، وذلك قوله : " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل " [ الأحزاب : 38 ] يعني في أحد الأقوال : تزويج داود المرأة التي نظر إليها ، كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، إلا أن تزويج زينب كان من غير سؤال الزوج في فراق ، بل أمره بالتمسك بزوجته ، وكان تزويج داود للمرأة بسؤال زوجها فراقها . فكانت هذه المنقبة لمحمد صلى الله عليه وسلم على داود مضافة إلى مناقبه العلية صلى الله عليه وسلم . ولكن قد قيل : إن معنى " سنة الله في الذين خلوا من قبل " تزويج الأنبياء بغير صداق من وهبت نفسها لهم من النساء بغير صداق . وقيل : أراد بقوله : " سنة الله في الذين خلوا من قبل " [ الأحزاب : 38 ] أن الأنبياء صلوات الله عليهم فرض لهم ما يمتثلونه في النكاح وغيره . وهذا أصح الأقوال . وقد روى المفسرون أن داود عليه السلام نكح مائة امرأة ، وهذا نص القرآن . وروي أن سليمان كانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة جارية ، وربك أعلم .
وذكر الكيا الطبري في أحكامه في قول الله عز وجل : " وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب " الآية : ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر ، أن داود عليه السلام كان قد أقدم على خطبة امرأة قد خطبها غيره ، يقال : هو أوريا ، فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه ، وزاهدين في الخاطب الأول ، ولم يكن بذلك داود عارفا ، وقد كان يمكنه أن يعرف ذلك فيعدل عن هذه الرغبة ، وعن الخطبة بها فلم يفعل ذلك ، من حيث أعجب بها إما وصفا أومشاهدة على غير تعمد ، وقد كان لداود عليه السلام من النساء العدد الكثير ، وذلك الخاطب لا امرأة له ، فنبه الله تعالى على ما فعل بما كان من تسور الملكين ، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض ، لكي يفهم من ذلك موقع العتب فيعدل عن هذه الطريقة ، ويستغفر ربه من هذه الصغيرة .
الثانية عشرة- قوله تعالى : " قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه " فيه الفتوى في النازلة بعد السماع من أحد الخصمين ، وقبل أن يسمع من الآخر بظاهر هذا القول .
قال ابن العربي : وهذا مما لا يجوز عند أحد ، ولا في ملة من الملل ، ولا يمكن ذلك للبشر . وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين أدعى والآخر سلم في الدعوى ، فوقعت بعد ذلك الفتوى . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضى لأحدهما حتى تسمع من الآخر ) وقيل : إن داود لم يقض للآخر حتى اعترف صاحبه بذلك . وقيل : تقديره لقد ظلمك إن كان كذلك . والله أعلم بتعيين ما يمكن من هذه الوجوه .
قلت : ذكر هذين الوجهين القشيري والماوردي وغيرهما . قال القشيري : وقوله : " لقد ظلمك بسؤال نعجتك " من غير أن يسمع كلام الخصم مشكل ، فيمكن أن يقال : إنما قال هذا بعد مراجعة الخصم الآخر وبعد اعترافه . وقد روي هذا وإن لم تثبت روايته ، فهذا معلوم من قرائن الحال ، أو أراد لقد ظلمك إن كان الأمر على ما تقول ، فسكته بهذا وصبره إلى أن يسأل خصمه . قال : ويحتمل أن يقال : كان من شرعهم التعويل على قول المدعي عند سكوت المدعى عليه ، إذا لم يظهر منه إنكار بالقول . وقال الحليمي أبو عبد الله في كتاب : منهاج الدين له : ومما جاء في شكر النعمة المنتظرة إذا حضرت ، أو كانت خافية فظهرت : السجود لله عز وجل . قال والأصل في ذلك قول عز وجل : " وهل أتاك نبأ الخصم " إلى قوله : " وحسن مآب " . أخبر الله عز وجل عن داود عليه السلام : أنه سمع قول المتظلم من الخصمين ، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر ، إنما حكى أنه ظلمه ، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة ، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول ، ودعاه ذلك إلى ألا يسأل الخصم ، فقال له مستعجلا : " لقد ظلمك " مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول : كانت لي مائة نعجة ولا شيء لهذا ، فسرق مني هذه النعجة ، فلما وجدتها عنده قلت له ارددها ، وما قلت له أكفلنيها ، وعلم أني مرافعه إليك ، فجرني قبل أن أجره ، وجاءك متظلما من قبل أن أحضره ، لتظن أنه هو المحق وأني أنا الظالم . ولما تكلم داود بما حملته العجلة عليه ، علم أن الله عز وجل خلاه ونفسه في ذلك الوقت ، وهو الفتنة التي ذكرناها ، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه ، فاستغفر ربه وخر راكعا لله تعالى شكرا على أن عصمه ، بأن اقتصر على تظليم المشكو ، ولم يزده على ذلك شيئا من انتهار أو ضرب أو غيرهما ، مما يليق بمن تصور في القلب أنه ظالم ، فغفر الله له ثم أقبل عليه يعاتبه ، فقال : " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " [ ص : 26 ] فبان بما قصه الله تعالى من هذه الموعظة ، التي توخاه بها بعد المغفرة ، أن خطيئته إنما كانت التقصير في الحكم ، والمبادرة إلى تظليم من لم يثبت عنده ظلمه . ثم جاء عن ابن عباس أنه قال : سجدها داود شكرا ، وسجدها النبي صلى الله عليه وسلم اتباعا ، فثبت أن السجود للشكر سنة متواترة عن الأنبياء صلوات الله عليهم . " بسؤال نعجتك " أي بسؤاله نعجتك ، فأضاف المصدر إلى المفعول ، وألقى الهاء من السؤال ، وهو كقوله تعالى : " لا يسأم الإنسان من دعاء الخير " [ فصلت : 49 ] أي من دعائه الخير .
الثالثة عشرة- قوله تعالى : " وإن كثيرا من الخلطاء " يقال : خليط وخلطاء ، ولا يقال طويل وطولاء ؛ لثقل الحركة في الواو . وفيه وجهان : أحدهما أنهما الأصحاب . الثاني : أنهما الشركاء .
قلت : إطلاق الخلطاء على الشركاء . فيه بعد ، وقد اختلف العلماء في صفة الخلطاء فقال أكثر العلماء : هو أن يأتي كل واحد بغنمه فيجمعهما راع واحد والدلو والمراح . وقال طاوس وعطاء : لا يكون الخلطاء إلا الشركاء . وهذا خلاف الخبر ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجحان بينهما بالسوية ) وروي ( فإنهما يترادان الفضل ) ولا موضع لتراد الفضل بين الشركاء ، فاعلمه . وأحكام الخلطة مذكورة في كتب الفقه . ومالك وأصحابه وجمع من العلماء لا يرون الصدقة على من ليس في حصته ما تجب فيه الزكاة . وقال الربيع والليث وجمع من العلماء منهم الشافعي : إذا كان في جميعها ما تجب فيه الزكاة أخذت منهم الزكاة . قال مالك : وإن أخذ المصدق بهذا ترادوا بينهم للاختلاف في ذلك ، وتكون كحكم حاكم اختلف فيه .
الرابعة عشرة- قوله تعالى : " ليبغي بعضهم على بعض " أي يتعدى ويظلم . " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فإنهم لا يظلمون أحدا . " وقليل ما هم " يعني الصالحين ، أي وقليل هم ف " ما " زائدة . وقيل : بمعنى الذين وتقديره وقليل الذين هم . وسمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول في دعائه : اللهم اجعلني من عبادك القليل . فقال له عمر : ما هذا الدعاء . فقال أردت قول الله عز وجل : " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " فقال عمر : كل الناس أفقه منك يا عمر !
الخامسة عشرة- قوله تعالى : " وظن داود أنما فتناه " أي ابتليناه . " وظن " معناه أيقن . قال أبو عمرو والفراء : ظن بمعنى أيقن ، إلا أن الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاين أن يكون الظن إلا بمعنى اليقين . والقراءة " فتناه " بتشديد النون دون التاء . وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه " فتناه " بتشديد التاء والنون على المبالغة . وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السميقع " فتناه " بتخفيفهما . ورواه علي بن نصر عن أبي عمرو ، والمراد به الملكان اللذان دخلا على داود عليه السلام .
السادسة عشرة- قيل : لما قضى داود بينهما في المسجد ، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فلم يفطن داود ، فأحبا أن يعرفهما ، فصعدا إلى السماء حيال وجهه ، فعلم داود عليه السلام أن الله تعالى ابتلاه بذلك ، ونبهه على ما ابتلاه .
قلت : وليس في القران ما يدل على القضاء في المسجد إلا هذه الآية ، وبها استدل من قال بجواز القضاء في المسجد ، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي لما أقرهم داود على ذلك . ويقول : انصرفا إلى موضع القضاء . وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء يقضون في المسجد ، وقد قال مالك : القضاء في المسجد من الأمر القديم . يعني في أكثر الأمور . ولا بأس أن يجلس في رحبته ؛ ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض ، ولا يقيم فيه الحدود ؛ ولا بأس بخفيف الأدب . وقد قال أشهب : يقضي في منزله وأين أحب .
السابعة عشرة- قال مالك رحمه الله : وكان الخلفاء يقضون بأنفسهم ، وأول من استقضى معاوية . قال مالك : وينبغي للقضاة مشاورة العلماء . وقال عمر بن عبد العزيز : لا يستقضي حتى يكون عالما بآثار من مضى ، مستشيرا لذوي الرأي ، حليما نزها . قال : ويكون ورعا . قال مالك : وينبغي أن يكون متيقظا كثير التحذر من الحيل ، وأن يكون عالما بالشروط ، عارفا بما لا بد له منه من العربية ، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات والدعاوى والإقرارات والشهادات والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له . وينبغي له أن يقول قبل إنجاز الحكم للمطلوب : أبقيت لك حجة ؟ فإن قال لا حكم عليه ، ولا يقبل منه حجة بعد إنفاذ حكمه إلا أن يأتي بما له وجه أو بينة . وأحكام القضاء والقضاة فيما لهم وعليهم مذكورة في غير هذا الموضع .
الثامنة عشرة- قوله تعالى : " فاستغفر ربه " اختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر منه على أقوال ستة : الأول : أنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها . قال سعيد بن جبير : إنما كانت فتنته النظرة . قال أبو إسحاق : ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها ، فصارت الأولى له والثانية عليه . الثاني : أنه أغزى زوجها في حملة التابوت . الثالث : أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها . الرابع : أن أوريا كان خطب تلك المرأة ، فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا . فعتب الله على داود إذ لم يتركها لخاطبها . وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة . الخامس : أنه لم يجزع على قتل أوريا ، كما كان يجزع على من هلك من الجند ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله تعالى على ذلك ؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله . السادس : أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر . قال القاضي ابن العربي : أما قول من قال : إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء ، وكذلك تعريض زوجها للقتل . وأما من قال : إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال ؛ لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة ، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب ! وحكى السدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لو سمعت رجلا يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرما لجلدته ستين ومائة ؛ لأن حد قاذف الناس ثمانون وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة . ذكره الماوردي والثعلبي أيضا . قال الثعلبي : وقال الحارث الأعور عن علي : من حدث بحديث داود على ما ترويه القصاص معتقدا جلدته حدين ؛ لعظم ما ارتكب برمي من قد رفع الله محله ، وارتضاه من خلقه رحمة للعالمين ، وحجة للمجتهدين . قال ابن العربي : وهذا مما لم يصح عن علي . فإن قيل : فما حكمه عندكم ؟ قلنا : أما من قال إن نبيا زنى فإنه يقتل ، وأما من نسب إليه ما دون ذلك من النظر والملامسة ، فقد اختلف نقل الناس في ذلك ، فإن صمم أحد على ذلك فيه ونسبه إليه قتلته ، فإنه يناقض التعزير المأمور به ، فأما قولهم : إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة ، فلما رأته أسبلت شعرها فسترت جسدها ، فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع من الأمة ؛ لأن النظرة الأولى تكشف المنظور إليه ولا يأثم الناظر بها ، فأما النظرة الثانية فلا أصل لها . وأما قولهم : إنه . نوى إن مات زوجها تزوجها فلا شيء فيه إذ لم يعرضه للموت .
وأما قولهم : إنه خطب على خطبة أوريا فباطل يرده القرآن والآثار التفسيرية كلها . وقد روى أشهب عن مالك قال : بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريبا من داود عليه السلام وهي من ذهب ، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده ، ثم صنع مثل ذلك مرتين ، ثم طارت واتبعها ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي ، تغتسل ولها شعر طويل ، فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموع عينه . قال ابن العربي : وأما قول المفسرين إن الطائر درج عنده فهم بأخذه واتبعه فهذا لا يناقض العبادة ؛ لأنه مباح فعله ، لا سيما وهو حلال وطلب الحلال فريضة ، وإنما أتبع الطير لذاته لا لجماله فإنه لا منفعة له فيه ، وإنما ذكرهم لحسن الطائر خرق في الجهالة . أما أنه روي أنه كان طائرا من ذهب فاتبعه ليأخذه ؛ لأنه من فضل الله سبحانه وتعالى كما روي في الصحيح : ( إن أيوب عليه السلام كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحثي منه ويجعل في ثوبه ، فقال الله تعالى له : " يا أيوب ألم أكن أغنيتك " قال : ( بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك ) . وقال القشيري : فهم داود بأن يأخذه ليدفعه إلى ابن له صغير فطار ووقع على كوة البيت ، وقاله الثعلبي أيضا وقد تقدم .
التاسعة عشرة- قوله تعالى : " وخر راكعا وأناب " أي خر ساجدا ، وقد يعبر عن السجود بالركوع . قال الشاعر :
فخرَّ على وجهِهِ رَاكِعًا *** وتاب إلى الله من كل ذَنْبِ
قال ابن العربي : لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع ها هنا السجود ، فإن السجود هو الميل ، والركوع هو الانحناء ، وأحدهما يدخل على الآخر ، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئة ، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر ، فسمي السجود ركوعا . وقال المهدوي : وكان ركوعهم سجودا . وقيل : بل كان سجودهم ركوعا . وقال مقاتل : فوقع من ركوعه ساجدا لله عز وجل . أي لما أحس بالأمر قام إلى الصلاة ، ثم وقع من الركوع إلى السجود ؛ لاشتمالهما جميعا على الانحناء . " وأناب " أي تاب من خطيئته ورجع إلى الله . وقال الحسن بن الفضل : سألني عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قول الله عز وجل : " وخر راكعا " فهل يقال للراكع خر ؟ . قلت : لا . قال : فما معنى الآية ؟ قلت : معناها فخر بعد أن كان راكعا أي سجد .
الموفية عشرين- واختلف في سجدة داود هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أم لا ؟ فروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر : " ص والقرآن ذي الذكر " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأ بها فتشزن الناس للسجود ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود ) ونزل وسجد . وهذا لفظ أبي داود . وفي البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال : " ص " ليست من عزائم القرآن ، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها . وقد روي من طريق عن ابن مسعود أنه قال : " ص " توبة نبي ولا يسجد فيها ، وعن ابن عباس أنها توبة نبي ونبيكم ممن أمر أن يقتدى به . قال ابن العربي : والذي عندي أنها ليست موضع سجود ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به . ومعنى السجود أن داود سجد خاضعا لربه ، معترفا بذنبه . تائبا من خطيئته ، فإذا سجد أحد فيها فليسجد بهذه النية ، فلعل الله أن يغفر له بحرمة داود الذي اتبعه ، وسواء قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا ؟ فإن هذا أمر مشروع في كل أمة لكل أحد . والله أعلم .
الحادية والعشرون- قال ابن خُوَيزِمَنداد : قوله : " وخر راكعا وأناب " فيه دلالة على ، أن السجود للشكر مفردا لا يجوز ؛ لأنه ذكر معه الركوع ، وإنما الذي يجوز أن يأتي بركعتين شكرا فأما سجدة مفردة فلا ؛ وذلك أن البشارات كانت تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده ، فلم ينقل عن أحد منهم أنه سجد شكرا ، ولو كان ذلك مفعولا لهم لنقل نقلا متظاهرا لحاجة العامة إلى جوازه وكونه قربة .
قلت : وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين . وخرج من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره - أو يسر به - خر ساجدا شكرا لله . وهذا قول الشافعي وغيره .
الثانية والعشرون- روى الترمذي وغيره واللفظ للغير : أن رجلا من الأنصار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل يستتر بشجرة وهو يقرأ : " ص والقرآن ذي الذكر " فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة ، فسمعها وهي تقول : اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجرا ، وارزقني بها شكرا .
قلت : خرج ابن ماجه في سننه عن ابن عباس قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاه رجل فقال : إني رأيت البارحة فيما يرى النائم ، كأني أصلي إلى أصل شجرة ، فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي ، فسمعتها تقول : اللهم أحطط بها عني وزرا ، واكتب لي بها أجرا ، وأجعلها لي عندك ذخرا . قال ابن عباس فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ " السجدة " فسجد ، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة . ذكره الثعلبي عن أبي سعيد الخدري . قال : قلت يا رسول الله رأيتني في النوم كأني تحت شجرة والشجرة تقرأ " ص " فلما بلغت السجدة سجدت فيها ، فسمعتها تقول في سجودها : اللهم أكتب لي بها أجرا ، وحط عني بها وزرا ، وارزقني بها شكرا ، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته . فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفسجدت أنت يا أبا سعيد ) فقلت : لا والله يا رسول الله . فقال : ( لقد كنت أحق بالسجود من الشجرة ) ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " ص " حتى بلغ السجدة فسجد ، ثم قال مثل ما قالت الشجرة .