معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

قوله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم } ، يعني : قوم طعمة ، وقال مجاهد : الآية عامة في حق جميع الناس ، والنجوى : هي الإسرار في التدبير ، وقيل : النجوى ما يتفرد بتدبيره قوم سراً كان أو جهراً ، فمعنى الآية : لا خير في كثير مما يدبرونه بينهم .

قوله تعالى : { إلا من أمر بصدقة } أي : إلا في نجوى من أمر بصدقة ، فالنجوى يكون متصلا ، وقيل : هاهنا : الرجال المتناجون ، كما قال تعالى { وإذ هم نجوى } [ الإسراء :47 ] { إلا من أمر بصدقة } وقيل هذا استثناء منقطع ، يعني لكن من أمر بصدقة أي : حث عليها .

قوله تعالى : { أو معروف } ، أي : بطاعة الله ، وما يعرفه الشرع ، وأعمال البر كلها معروف ، لأن العقول تعرفها .

قوله تعالى : { أو إصلاح بين الناس } .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم هو ابن أبي الجعد عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ؟ قال : قلنا بلى ، قال : إصلاح ذات البين ، وإن إفساد ذات البين هي الحالقة ) .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أمه أم مكتوم بنت عقبة ، وكانت من المهاجرات الأول ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليس الكذاب من أصلح بين الناس فقال خيراً ، أو نمى خيراً ) .

قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك } أي : هذه الأشياء التي ذكرها .

قوله تعالى : { ابتغاء مرضاة الله } ، أي : طلب رضاه .

قوله تعالى : { فسوف نؤتيه } ، في الآخرة .

قوله تعالى : { أجراً عظيماً } ، قرأ أبو عمرو وحمزة { يؤتيه } بالياء ، يعني : يؤتيه الله ، وقرأ الآخرون بالنون .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

114

( لا خير في كثير من نجواهم . إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس . ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله ، فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا ) . .

لقد تكرر في القرآن النهي عن النجوى ؛ وهي أن تجتمع طائفة بعيدا عن الجماعة المسلمة وعن القيادة المسلمة ، لتبيت أمرا . . وكان اتجاه التربية الإسلامية واتجاه التنظيم الإسلامي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو بموضوعه ، فيعرضه على النبى [ ص ] مسارة إن كان أمرا شخصيا لا يريد أن يشيع عنه شيء في الناس . أو مساءلة علنية إن كان من الموضوعات ذات الصبغة العامة ، التي ليست من خصوصيات هذا الشخص .

والحكمة في هذه الخطة ، هو ألا تتكون " جيوب " في الجماعة المسلمة ؛ وألا تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلاتها ، أو بأفكارها واتجاهاتها . وألا تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمرا بليل ، وتواجه به الجماعة أمرا مقررا من قبل ؛ أو تخفيه عن الجماعة وتستخفي به عن أعينها - وإن كانت لا تختفي به عن الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول .

وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها . .

ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة ، تتلاقى فيه وتتجمع للصلاة ولشؤون الحياة . وكان المجتمع المسلم كله مجتمعا مفتوحا ؛ تعرض مشكلاته - التي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيره ؛ والتي ليست بمسائل شخصية بحتة لا يحب أصحابها أن تلوكها الألسن - عرضا عاما . وكان هذا المجتمع المفتوح من ثم مجتمعا نظيفا طلق الهواء . لا يتجنبه ليبيت من وراء ظهره ، إلا الذين يتأمرون عليه ! أو على مبدأ من مبادئه - من المنافقين غالبا - وكذلك اقترنت النجوى بالمنافقين في معظم المواضع .

وهذه حقيقة تنفعنا . فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئا من هذه الظاهرة ، وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامة بما يخطر لهم من الخواطر ، أو بما يعرض لهم من خطط واتجاهات أو مشكلات !

والنص القرآني هنا يستثني نوعا من النجوى . . هو في الحقيقة ليس منها ، وإن كان له شكلها :

( إلا من أمر بصدقة أو معروف ، أو إصلاح بين الناس ) . .

وذلك أن يجتمع الرجل الخير بالرجل الخير ، فيقول له : هلم نتصدق على فلان فقد علمت حاجته في خفية عن الأعين . أو هلم إلى معروف معين نفعله أو نحض عليه . أو هلم نصلح بين فلان وفلان فقد علمت أن بينهما نزاعا . . وقد تتكون العصبة من الخيرين لأداء أمر من هذه الأمور ، وتتفق فيما بينها سرا على النهوض بهذا الأمر . فهذا ليس نجوى ولا تآمرا . ومن ثم سماه " أمرًا " وإن كان له شكل النجوى ، في مسارة الرجل الخير للخيرين أمثاله بأمر في معروف يعلمه أو خطر له . .

على شرط أن يكون الباعث هو ابتغاء مرضاة الله :

( ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) . .

فلا يكون لهوى في الصدقة على فلان ، أو الإصلاح بين فلان وعلان . ولا يكون ليشتهر الرجل بأنه - والله رجل طيب - ! يحض على الصدقة والمعروف ، ويسعى في الإصلاح بين الناس ! ولا تكون هناك شائبة تعكر صفاء الاتجاه إلى الله ، بهذا الخير . فهذا هو مفرق الطريق بين العمل يعمله المرء فيرضى الله عنه ويثيبه به . والعمل نفسه يعمله المرء فيغضب الله عليه ، ويكتبه له في سجل السيئات !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

يقول تعالى : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } يعني : كلام الناس { إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } أي : إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مَرْدُويه :

حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث ، حدثنا محمد بن يزيد بن خُنَيس{[8306]} قال : دخلنا على سفيان الثوري نعوده - وأومأ إلى دار العطارين - فدخل عليه سعيد بن حسان المخزومي فقال له سفيان الثوري : الحديث الذي كنت حدثتني{[8307]} به عن أم صالح اردُدْه علي . فقال : حدثتني أم صالح ، عن صَفية بنت شَيْبة ، عن أم حَبيبَة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلام ابن آدم كله عليه لا له ما{[8308]} خلا أمرا{[8309]} بمعروف أو نهيا{[8310]} عن منكر [ أو ذكر الله عز وجل " ، قال سفيان : فناشدته{[8311]} ]{[8312]} فقال محمد بن يزيد : ما أشد هذا الحديث ؟ فقال سفيان : وما شدة هذا الحديث ؟ إنما جاءت به امرأة عن امرأة ، هذا في كتاب الله الذي أرسل به نبيكم صلى الله عليه وسلم أو ما سمعت الله يقول في كتابه : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 38 ] فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول في كتابه : { والْعَصْرِ . إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . [ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ]{[8313]} } [ سورة العصر ] ، فهو هذا بعينه .

وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خُنَيس{[8314]} عن سعيد بن حسان ، به . ولم يذكرا أقوال{[8315]} الثوري إلى آخرها ، ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن خُنَيس{[8316]} . {[8317]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا صالح بن كَيْسان ، حدثنا محمد بن مسلم بن عُبَيد الله بن شهاب : أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره ، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الكذاب الذي{[8318]} يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرًا - أو يقول خيرًا " وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها . قال : وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد رواه الجماعة ، سوى ابن ماجه ، من طرق ، عن الزهري ، به نحوه{[8319]} .

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرة{[8320]} عن سالم بن أبي الجعد ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة ، والصيام والصدقة ؟ " قالوا : بلى . قال : " إصلاح ذات البين " قال : " وفساد ذات البين هي الحالقة " .

ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث أبي معاوية ، وقال الترمذي : حسن صحيح{[8321]} .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سُرَيج{[8322]} بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ، حدثنا أبي ، عن حميد ، عن أنس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب : " ألا أدلك على تجارة ؟ " قال : بلى : قال : " تسعى في صلح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتُقَارب بينهم إذا تباعدوا " ثم قال البزار : وعبد الرحمن بن عبد الله العُمَري لَيّن ، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها{[8323]} .

ولهذا قال : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ } أي : مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابًا كثيرًا واسعًا .


[8306]:في ر: "حنيش".
[8307]:في أ: "حدثتنيه".
[8308]:في أ: "إلا ما".
[8309]:في ر، أ: "أمر".
[8310]:في ر، أ: "أو نهى".
[8311]:في أ: "وناشدته".
[8312]:زيادة من ر، أ.
[8313]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "إلى آخره".
[8314]:في ر: "حنيش".
[8315]:في أ: "قول".
[8316]:في ر: "حنيش".
[8317]:سنن الترمذي برقم (2412) وسنن ابن ماجه برقم (3974) ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت برقم (14) من طريق محمد بن يزيد بن خنيس بنحو سياق ابن مردويه.
[8318]:في ر: "بالذي".
[8319]:المسند (6/403) وصحيح البخاري برقم (2692) وصحيح مسلم برقم (2605) وسنن أبي داود برقم (4920) وسنن الترمذي برقم (1938) وسنن النسائي الكبرى برقم (9123).
[8320]:في ر، أ: "محمد".
[8321]:المسند (6/444) وسنن أبي داود برقم (4919) وسنن الترمذي برقم (2509).
[8322]:في ر، أ: "شريح".
[8323]:مسند البزار برقم (2060) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (8/79): "فيه عبد الرحمن بن عبد الله العمري وهو متروك".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } : لا خير في كثير من نجوى الناس جميعا . { إلاّ مَنْ أمَرَ بصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ } والمعروف : هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البرّ والخير . { أوْ إصْلاحٍ بينَ النّاسِ } وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين بما أباح الله الإصلاح بينهما ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به . ثم أخبر جلّ ثناؤه بما وعد من فعل ذلك ، فقال : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما } يقول : ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر ، أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله ، يعني طلب رضا الله بفعله ذلك¹ { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما } يقول : فسوف نعطيه جزاء لما فعل من ذلك عظيما ، ولا حدّ لمبلغ ما سمى الله عظيما يعلمه سواه .

واختلف أهل العربية في معنى قوله : { لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ } فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : لا خير في كثير من نجواهم إلا في نجوى من أمر بصدقة . كأنه عطف «من » على الهاء والميم التي في «نجواهم » . وذلك خطأ عند أهل العربية لأن إلا لا تعطف على الهاء والميم في مثل هذا الموضع من أجل أنه لم ينله الجحد . وقال بعض نحويي الكوفة : قد تكون «مَن » في موضع خفض ونصب¹ وأما الخفض فعل قولك : { لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } إلا فيمن أمر بصدقة ، فتكون النجوى على هذا التأويل هم الرجال المناجون ، كما قال جلّ ثناؤه : { ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ } وكما قال : { وَإذْ هُمْ نَجْوَى } . وأما النصب ، فعلى أن تجعل النجوى فعلاً فيكون نصبا ، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعا ، لأنه من خلاف النجوى ، فيكون ذلك نظير قول الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . ***وَما بالرّبْعِ مِنْ أحَدِ

إلاّ أُوَارِيّ لاَءْيا مَا أُبَيّنُها *** . . . . . . . . . .

وقد يحتمل «من » على هذا التأويل أن يكون رفعا ، كما قال الشاعر :

وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِها أنِيسُ ***إلاّ اليَعافِيرُ وَإلاّ العِيسُ

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، أن تجعل «من » في موضع خفض بالردّ على النجوى ، وتكون النجوى بمعنى جمع المتناجين ، خرج مخرج السكرى والجرحى والمرضى ، وذلك أن ذلك أظهر معانيه ، فيكون تأويل الكلام : لا خير في كثير من المتناجين يا محمد من الناس ، إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف ، أو إصلاح بين الناس ، فإن أولئك فيهم الخير .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

الضمير في { نجواهم } عائد على الناس أجمع ، وجاءت هذه الآيات عامة التناول ، وفي عمومها يتدرج أصحاب النازلة ، وهذا عن الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة ، والنجوى : المسارَّة ، مصدر ، وقد تسمى به الجماعة ، كما يقال : قوم عدل ورضا{[4280]} ، وتحتمل اللفظة في هذه الآية أن تكون الجماعة وأن تكون المصدر نفسه ، فإن قدرناها الجماعة فالاستثناء متصل ، كأنه قال : لا خير في كثير من جماعاتهم المنفردة المتسارة إلا من ، وإن قدرنا اللفظة المصدر نفسه ، كأنه قال : لا خير في كثير من تناجيهم ، فالاستثناء منقطع بحكم اللفظ ، ويقدر اتصاله على حذف مضاف ، كأنه قال : إلا نجوى من ، قال بعض المفسرين : النجوى كلام الجماعة المنفردة كان ذلك سراً أو جهراً .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : انفراد الجماعة من الاستسرار ، والغرض المقصود أن النجوى ليست بمقصورة على الهمس في الأذن ونحوه ، و «المعروف » : لفظ يعم الصدقة والإصلاح ، ولكن خُصَّا بالذكر اهتماماً بهما ، إذ هما عظيماً الغناء في مصالح العباد ، ثم وعد تعالى «بالأجر العظيم » على فعل هذه الخيرات بنية وقصد لرضا الله تعالى . و { ابتغاء } نصب على المصدر ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم والكسائي { فسوف نؤتيه } بالنون وقرأ أبو عمر وحمزة «يؤتيه » بالياء والقراءتان حسنتان .


[4280]:- تقول: ناجيت فلانا مناجاة ونجاء، ونجوت فلانا أنجوه نجوا: ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه، أي: خلّصته وأفردته، والنجوة من الأرض: المرتفع، لانفراده بارتفاعه عما حوله، قال الشاعر أوس بن حجر: فمن بنجوته كمن بعقوته والمستكنّ كمن يمشي بقرواح والعقوة: الساحة وما حول الدار، والقرواح: البارز الذي لا يستره من السماء شيء.