البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

النجوى مصدر كالدعوى يقال : نجوت الرجل أنجوه نجوى إذا ناجيته .

قال الواحدي : ولا تكون النجوى إلا بين اثنين .

وقال الزجاج : النجوى ما انفرد به الجماعة ، أو الإثنان سرّاً كان وظاهراً انتهى .

وقال ابن عطية : المسارة ، وتطلق النجوى على القوم المتناجين ، وهو من باب قوم عدل وصف بالمصدر .

وقال الكرماني : نجوى جمع نجي ، وتقدم الكلام في هذه المادة ، وتكرر هنا لخصوصية البنية .

مريد من مرد ، عتا وعلا في الحذاقة ، وتجرد للشر والغواية .

وقال ابن عيسى : وأصله التملس ، ومن شجرة مرداء أي ملساء تناثر ورقها ، وغلام أمرد لا نبات بوجهه ، وصرح ممرد مملس لا يعلق به شيء لملاسته ، والمارد الذي لا يعلق بشيء من الفضائل .

البتك : الشق والقطع ، بتك يبتك ، وبتك للتكثير ، والبتك القطع واحدها بتكة .

قال الشاعر :

حتى إذا ما هوت كف الوليد لها *** طارت وفي كفه من ريشها بتك

محيص : مفعل من حاص يحيص ، زاع بنفور ومنه : فحاصوا حيصة حمر الوحش .

وقول الشاعر :

ولم ندر أن حصنا من الموت حيصة *** كم العمر باق والمدا متطاول

ويقال جاض بالجيم والضاد المعجمة والمحاص مثل المحيص .

قال الشاعر :

تحيص من حكم المنية جاهداً *** ما للرجال عن المنون محاص

وفي المثل : وقعوا في حيص بيص .

وحاص باص إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه ، ويقال : حاص يحوص حوصاً وحياصاً إذا نفر وزايل المكان الذي فيه .

والحوص في العين ضيق مؤخرها .

الخليل : فعيل من الخلة ، وهي الفاقة والحاجة .

أو من الخلة وهي صفاء المودّة ، أو من الخلل .

قال ثعلب : سمى خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته .

وأنشد قول بشار :

قد تخللت مسلك الروح مني *** وبه سمي الخليل خليلا

{ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } الضمير في نجواهم عائد على قوم طعمة الذين تقدم ذكرهم قاله : ابن عباس وغيره .

وقال مقاتل : هم قوم من اليهود ناجوا قوم طعمة ، واتفقا معهم على التلبيس على الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر طعمة .

وقال ابن عطية : هو عائد على الناس أجمع .

وجاءت هذه الآيات عامة فاندرج أصحاب النازلة وهم قوم طعمة في ذلك العموم ، وهذا من باب الإيجاز والفصاحة ، لكون الماضي والمغاير تشملهما عبارة واحدة انتهى .

وهذا الاستثناء منقطع إن كان النجوى مصدراً ، ويمكن اتصاله على حذف مضاف أي : إلا نجوى من أمر ، وقاله : أبو عبيدة .

وإن كان النجوى المتناجين قيل : ويجوز في : مِن الخفض من وجهين : أن يكون تابعاً لكثير ، أو تابعاً للنجوى ، كما تقول : لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت اتبعت زيد الجماعة ، وإن شئت اتبعته القوم .

ويجوز أن يكون مِن أمر مجروراً على البدل من كثير ، لأنه في حيز النفي ، أو على الصفة .

وإذا كان منقطعاً فالتقدير : لكن مَن أمر بصدقة فالخير في نجواه .

ومعنى أمر : حث وحض .

والصدقة تشمل الفرض والتطوّع .

والمعروف عام في كل بر .

واختاره جماعة منهم : أبو سليمان الدمشقي ، وابن عطية .

فيندرج تحته الصدقة والاصلاح .

لكنهما جردا منه واختصا بالذكر اهتماماً ، إذ هما عظيما الغذاء في مصالح العباد .

وعطف بأو فجعلا كالقسم المعادل مبالغة في تجريدهما ، حتى صار القسم قسيماً .

وقيل : المعروف الفرض .

روي ذلك عن ابن عباس ومقاتل .

وقيل : إغاثة الملهوف .

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب ، وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوع انتهى .

وفي الحديث الصحيح : « كلُّ كلام ابن آدم عليه لا له إلا مَن كان أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله تعالى » .

وحدّث سفيان الثوري بهذا الحديث أقواماً فقال أحدهم : ما أشد هذا الحديث ! فقال له : ألم تسمع كل معروف صدقة ، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلقٍ .

وقال الحطيئة :

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس

وظاهر قوله : أو إصلاح بين الناس ، أنه في كل شيء يقع فيه اختلاف ونزاع .

وقيل : هو خاص بالإصلاح بين طعمة واليهودي المذكورين .

قال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : ذكر ثلاثة أنواع ، لأن عمل الخير إما أن يكون بدفع المضرة وإليه الإشارة بقوله : أو إصلاح بين الناس .

أو بإيصال المنفعة إما جسمانياً وهو إعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله : بصدقة .

أو روحانياً وهو تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو القوة العملية بالأفعال الحسنة ، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف ، وإليه الإشارة بقوله : أو معروف .

وقال الراغب : يقال لكل ما يستحسنه العقل ويعرفه معروف ، ولكل ما يستقبحه وينكره منكر .

ووجه ذلك أنه تعالى ركّز في العقول معرفة الخبر والشر ، وإليه أشار بقوله : { صبغة الله } { وفطرة الله } وعلى ذلك ما اطمأنت إليه النفس لمعرفتها به انتهى .

وهذه نزغة اعتزالية في أنّ العقل يحسن ويقبح .

وقيل : هذه الثلاثة تضمنت الأفعال الحسنة ، وبدأ بأكثرها نفعاً وهو إيصال النفع إلى الغير ، ونبه بالمعروف على النوافل التي هي من الإحسان والتفضل ، والإصلاح بين الناس على سياستهم ، وما يؤدي إلى نظم شملهم انتهى .

وقال عليه السلام : « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قيل : بلى يا رسول الله ، قال : صلاح ذات البين » وخصّ مَن أمر بهذه الأشياء ، وفي ضمن ذلك أنّ الفاعل أكثر استحقاقاً من الأمر ، وإذا كان الخير في نجوى الأمر به فلا يكون في من يفعله بطريق الأولى .

.

{ ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } لما ذكر أن الخير في مَن أمر ذكر ثواب من فعل ، ويجوز أن يريد : ومن يأمر بذلك ، فيعبر بالفعل عن الأمر ، كما يعبر به عن سائر الأفعال .

وقرأ أبو عمرو وحمزة : يؤتيه بالياء ، والباقون بالنون على سبيل الالتفات ، ليناسب ما بعده من قوله : { نوله ما تولى ونصله } فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلم العظيم ، وهو أبلغ من إسناده إلى ضمير الغائب .

ومن قرأ بالياء لحظ الاسم الغائب في قوله : ابتغاء مرضاة الله ، وفي قوله : ابتغاء مرضاة الله دليل على أنه لا يجزي من الأعمال إلا ما كان فيه رضا الله تعالى ، وخلوصه لله دون رياء ولا سمعة .

/خ126