الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير ، وذكروه النبي صلى الله عليه وسلم . والنجوى : السر بين الاثنين ، تقول : ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون . ونجوت فلانا أنجوه نجوا ، أي ناجيته ، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه ، أي خلصته وأفردته ، والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله ، قال الشاعر :

فمن بنَجْوَته كمن بِعَقْوَتِه *** والمُسْتَكِنّ كمن يمشي بقِرْواحِ{[4928]}

فالنجوى المسارة ، مصدر ، وقد تسمى به الجماعة ، كما يقال : قوم عدل ورضا . قال الله تعالى : " وإذ هم نجوى{[4929]} " [ الإسراء : 47 ] فعلى الأول يكون الأمر أمر استثناء من غير الجنس . وهو الاستثناء المنقطع . وقد تقدم ، وتكون " من " في موضع رفع ، أي لكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير . ويجوز أن تكون " من " في موضع خفض ويكون التقدير : لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة ثم حذف . وعلى الثاني وهو أن يكون النجوى اسما للجماعة المنفردين ، فتكون " من " في موضع خفض على البدل ، أي لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة . أو تكون في موضع نصب على قول من قال : ما مررت بأحد إلا زيدا . وقال بعض المفسرين منهم الزجاج : النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين كان ذلك سرا أو جهرا ، وفيه بعد . والله أعلم .

والمعروف : لفظ يعم أعمال البر كلها . وقال مقاتل : المعروف هنا الفرض ، والأول أصح . وقال صلى الله عليه وسلم : ( كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( المعروف كاسمه وأول من يدخل ، الجنة يوم القيامة المعروف وأهله ) . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره ، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر . وقال الحطيئة :

من يفعل الخير لا يعدم جوازيَه{[4930]} *** لا يذهب العرف بين الله والناس

وأنشد الرياشي :

يد المعروف غُنْمٌ حيث كانت *** تحملها كفور أو شكور

ففي شكر الشكور لها جزاء *** وعند الله ما كفر الكفور

وقال الماوردي : " فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته ، ويبادر به خيفة عجزه ، وليعلم أنه من فرص زمانه ، وغنائم إمكانه ، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه ، فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندما ، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا ، كما قال الشاعر :

ما زلت أسمع كم من واثق خجل *** حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلا

ولو فطن لنوائب دهره ، وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة ، ومغارمه مجبورة ، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه ) . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح ){[4931]} . وقيل لأنوشروان : ما أعظم المصائب عندكم ؟ قال : أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت . وقال عبدالحميد : من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها . وقال بعض الشعراء :

إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها *** فما تدري السكون متى يكون

وكتب بعض ذوي الحرمات إلى والٍ قصَّر في رعاية حرمته :

أعلى الصراط تريد رِعْيَة حرمتي *** أم في الحساب تمنّ بالإنعام

للنفع في الدنيا أريدك ، فانتبه *** لحوائجي من رقدة النوام

وقال العباس رضي الله عنه : لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال : تعجيله وتصغيره وستره ، فإذا عجلته هنأته ، وإذا صغرته عظمته ، وإذا سترته أتممته . وقال بعض الشعراء :

زاد معروفك عندي عظما *** أنه عندك مستور حقير

تتناساه كأن لم تأته *** وهو عند الناس مشهور خطير

ومن شرط المعروف ترك الامتنان به ، وترك الإعجاب بفعله ، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر . وقد تقدم في " البقرة{[4932]} " بيانه .

قوله تعالى : " أو إصلاح بين الناس " عام في الدماء والأموال والأعراض ، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين ، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى . وفي الخبر : ( كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى ) . فأما من طلب الرياء والترؤس فلا ينال الثواب . وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : رد الخصوم حتى يصطلحوا ، فإن فصل{[4933]} القضاء يورث بينهم الضغائن . وسيأتي في " المجادلة{[4934]} " ما يحرم من المناجاة وما يجوز إن شاء الله تعالى . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال ، : من أصلح بين أثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب : ( ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله ، تصلح بين أناس إذا تفاسدوا ، وتقرب بينهم إذا تباعدوا ) . وقال الأوزاعي : ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين ، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار . وقال محمد بن المنكدر : تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما ، فلم أزل بهما حتى اصطلحا ، فقال أبو هريرة وهو يراني : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد ) . ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات له ، وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه . و( ابتغاء ) نصب على المفعول من أجله .


[4928]:البيت لأوس بن حجر. ويروى لعبيد . والعقوة: الساحة وما حول الدار والمحلة. والقرواح: البارز الذي ليس يستره من السماء شيء. في ي حاشية: الناقة الطويلة وكذلك النخلة الطويلة، يقال لها قرواح.
[4929]:راجع ج 10 ص 272.
[4930]:في كل الأصول: جوائزه.
[4931]:السراح: التعجيل.
[4932]:راجع ج 3 ص 311.
[4933]:من ج، ط، ي، ز.
[4934]:راجع ج 17 ص 294 فما بعد.