محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

ثم أشار تعالى إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضى من القول . بقوله سبحانه :

/ ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما114 )

( لا خير في كثير من نجواهم ) أي : مساررتهم . والسياق ، وان دل على مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض ، إلا أنها في المعنى عامة . والمراد : لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث . ثم استثنى النجوى في أعمال الخير بقوله سبحانه : إلا من أمر بصدقة ) أي : إلا في نجوى من أمر ، بخفية عن الحاضرين ، بصدقة ليعطيها سرا ، يستر به عار المتصدق عليه ( أو معروف ) أي : بطاعة الله . وأعمال البر كلها معروف . وسر التناجي فيه أن لا يأنف المأمور عن قبوله لو جهر به ( أو إصلاح بين الناس ) يعني الإصلاح بين المتباينين والمتخاصمين ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع . على ما أذن الله فيه وأمر به . وسر النجوى فيه أنه لو ظهر أولا ربما لم يتم .

قال المهايمي : قيل في الحصر : الخير إما نفع جسماني وهو في الأمر بالصدقة . أو روحاني وهو في الأمر بالمعروف . وإما دفع وهو في الإصلاح . ويمكن أن يقال : الخير إما نفع متعد من المأمور وهو الصدقة . أو لازم له وهو المعروف . أو دفع ضرر متعد أو لازم له ، وهو الإصلاح . وإنما تتم خيريتها إذا ابتغي بها رضاء الله تعالى كما قال : ( ومن يفعل ذلك ابتغاء ) أي : طلب ( مرضات الله فسوف نؤتيه ) يعني في الآخرة ( أجرا عظيما ) يساوي اجر الفاعل أو يفوقه . وقد دلت الآية على الترغيب في الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس . وقد أكد تعالى الترغيب بقوله : ( عظيما ) وأن النية فيها شرط لنيل الثواب . لقوله تعالى : ( ابتغاء مرضات الله ) وعلى أن كلام الإنسان عليه لا له . لا ما كان في هذا ونحوه . كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه بسنده إلى محمد بن يزيد بن حنيش قال : " دخلنا على سفيان الثوري نعوده . فدخل علينا سعيد بن حسان ، فقال له الثوري : الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح اردده علي فقال : حدثتني . أم صالح عن صفية بنت شيبة ، عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلام ابن آدم كله عليه لا له . إلا ذكر الله عز وجل : أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر . فقال سفيان : أو ما سمعت الله في كتابه يقول : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) ؟ فهو هذا بعينه . أو ما سمعت الله يقول : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ؟ ){[2246]} فهو هذا بعينه . أو ما سمعت الله يقول في كتابه : ( والعصر * إن الإنسان لفي خسر ) {[2247]} ، الخ . فهو هذا بعينه " .

وقد روى هذا الحديث الترمذي{[2248]} وابن ماجة{[2249]} من حديث ابن حنيش عن سعيد بن حسان به . ولم يذكر أقوال الثوري إلى آخرها .

ثم قال الترمذي : حديث غريب لا يعرف إلا من حديث ابن حنيش . قلت : هو مقبول ، كما في ( التقريب ) لابن حجر . فحسن حديثه .

/ وروى الجماعة{[2250]} عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا " . وقالت : " لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب . والإصلاح بين الناس . وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها " .

وروى الإمام أحمد{[2251]} وأبو داود{[2252]} والترمذي{[2253]} عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا : بلى . يا رسول الله ! قال : إصلاح ذات البين . قال : وفساد ذات البين هي الحالقة " .

قال الترمذي : حسن صحيح .


[2246]:|78/ النبأ/ 38|.
[2247]:|103/ العصر/ 1 و2|.
[2248]:أخرجه الترمذي في: 34 –كتاب الزهد، 63 –باب منه، حدثنا محمد بن بشار.
[2249]:أخرجه ابن ماجة في: 36 –كتاب الفتن، 12 –باب كف اللسان في الفتنة، حديث 3974 –طبعتنا).
[2250]:أخرجه البخاري في: 53 –كتاب الصلح، 2 –باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، حديث 1302. ومسلم في: 45 –كتاب البر والصلة والآداب، حديث 101 (طبعتنا). وأبو داود في: 40 –كتاب الأدب، 50 –باب في اصلاح ذات البين، حديث 4921. والترمذي في: 25 –كتاب البر والصلة، 26 –باب ما جاء في اصلاح ذات البين.
[2251]:الامام أحمد في المسند بالصفحة 445 من الجزء السادس (طبعة الحلبي).
[2252]:أخرجه أبو داود في: 40 –كتاب الأدب، 50 –باب في اصلاح ذات البين، حديث 4919.
[2253]:أخرجه الترمذي في: 35 –كتاب الزهد، 56 –باب حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم البغدادي.