قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان } ، يعني : العلماء والقراء من أهل الكتاب .
قوله تعالى : { ليأكلون أموال الناس بالباطل } ، يريد : ليأخذون الرشا في أحكامهم ، ويحرفون كتاب الله ، ويكتبون بأيديهم كتبا يقولون : هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمنا قليلا من سفلتهم وهي المآكل التي يصيبونها منهم على تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يخافون لو صدقوهم لذهبت عنهم تلك المآكل .
قوله تعالى : { ويصدون } ، ويصرفون الناس .
قوله تعالى : { عن سبيل الله } ، دين الله عز وجل .
قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : كل مال تؤدى زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا . وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز ، وإن لم يكن مدفونا . ومثله عن ابن عباس .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني سويد بن سعيد ، حدثنا حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن أبا صالح ذكوان أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه ، وظهره ، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ، ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ، ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة ، بطح لها بقاع قرقر ، أوفر ما كانت ، لا يفقد منها فصيلا واحدا ، تطؤه بأخفافها ، وتعضه بأفواهها ، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضي الله بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ، ولا صاحب بقر ولا غنم ، لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة ، بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ، ولا جلحاء ، ولا عضباء ، تنطحه بقرونها ، وتطؤه بأظلافها ، كلما مر عليه أولاها ، رد عليه أخراها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضي الله بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " . وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته ، مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع ، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، فيأخذ بلهزمتيه ، يعني : شدقيه ، ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله } الآية . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز ، أديت منه الزكاة أو لم تؤد ، وما دونها نفقة . وقيل : ما فضل عن الحاجة فهو كنز . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا وكيع ، ثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال : " انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رآني قال : هم الأخسرون ورب الكعبة ، قال : فجئت حتى جلست ، فلم أتقار أن قمت فقلت : يا رسول الله فداك أبي وأمي ، من هم ؟ قال : هم الأكثرون أموالا إلا من قال : هكذا وهكذا وهكذا ، من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، وقليل ما هم " . وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقول : من ترك بيضاء ، أو حمراء ، كوي بها يوم القيامة . وروي عن أبي أمامة قال : " مات رجل من أهل الصفة ، فوجد في مئزره دينار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كية ، ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيتان " . والقول الأول أصح ، لأن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال والحلال . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " . وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت هذه الآية ، كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا ، فذكر عمر ذلك لرسول الله فقال : " إن الله عز وجل لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم " . وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن هذه الآية ؟ فقال : كان ذلك قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال . وقال ابن عمر : ما أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله . قوله عز وجل : { ولا ينفقونها في سبيل الله } ، ولم يقل : ولا ينفقونهما ، وقد ذكر الذهب والفضة جميعا ، قيل : أراد الكنوز وأعيان الذهب والفضة . وقيل : رد الكناية إلى الفضة لأنها أعم ، كما قال تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة } [ البقرة-45 ] ، رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم ، وكقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة-11 ] رد الكناية إلى التجارة لأنها أعم .
ثم يخطو السياق الخطوة الأخيرة في هذا المقطع من السورة ، مصوراً كيف أن أهل الكتاب لا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ، بعد ما أشار إلى هذه الحقيقة في قوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه ) التي فسرها رسول اللّه - [ ص ] - بأنهم " أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم " . . فبين أنهم إذن لا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ، إنما يحرمون ما حرمه عليهم الأحبار والرهبان !
يخطو السياق الخطوة الأخيرة في بيان هذه الحقيقة مخاطباً بها الذين آمنوا كاشفاً لهم في هذا الخطاب عن حقيقة أهل الكتاب :
( يا أيها الذين آمنوا ، إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل اللّه . والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم . هذا ما كنزتم لأنفسكم ، فذوقوا ما كنتم تكنزون ) . .
وفي الآية الأولى استطراد في بيان دور الأحبار والرهبان الذين اتخذهم أهل الكتاب أرباباً من دون اللّه ، فاتبعوهم فيما يشرعون لهم من المعاملات ومن العبادات سواء . فهؤلاء الأحبار والرهبان يجعلون من أنفسهم ويجعلهم قومهم أرباباً تتبع وتطاع ؛ وهم فيما يشرعون يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه .
وأكل أموال الناس كان يتمثل في صور شتى وما يزال :
منها ما يأخذونه على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال لصالح من يملكون المال أو السلطان . ومنها ما يأخذه القسيس أو الكاهن مقابل الاعتراف له بالخطايا وغفرانه - بالسلطان المخول للكنيسة في زعمهم - لتلك الخطايا ! ومنها الربا - وهو أوسع أبوابها وأبشعها - وغيرها كثير .
كذلك ما يجمعونه من أموال الناس لمحاربة دين الحق ؛ وقد كان الرهبان والأساقفة والكرادلة والبابوات يجمعون مئات الملايين في الحروب الصليبية ، وما يزالون يجمعونها للتبشير والاستشراق للصد عن سبيل اللّه .
ولابد أن نلحظ الدقة القرآنية والعدل الإلهي في قول اللّه تعالى في ذلك .
( إن كثيراً من الأحبار والرهبان . . ) .
للاحتراز من الحكم على القليل منها الذي لا يزاول هذه الخطيئة . ولا بد من أفراد في أية جماعة من الناس فيهم بقية خير . . ولا يظلم ربك احداً . .
والكثير من الأحبار والرهبان يكنزون هذه الأموال التي يأكلونها بالباطل . وقد شهد تاريخ هؤلاء الناس أموالاً ضخمة تنتهي إلى أيدي رجال الدين وتؤول إلى الكنائس والأديرة . وقد جاء عليهم زمان كانوا أكثر ثراء من الملوك المتسلطين والأباطرة الطغاة !
قال السدي : الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى .
وهو كما قال ، فإن الأحبار هم علماء اليهود ، كما قال تعالى : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } [ المائدة : 63 ]
والرهبان : عباد النصارى ، والقسيسون : علماؤهم ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } [ المائدة : 82 ]
والمقصود : التحذير من علماء السوء وعُبَّاد الضلال{[13406]} كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى . وفي الحديث الصحيح : " لتركبنّ سَنَن من كان قبلكم حَذْو القُذّة بالقُذّة " . قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن ؟ " . وفي رواية : فارس والروم ؟ قال : " وَمَن{[13407]} الناس إلا هؤلاء ؟ " {[13408]} والحاصل التحذير من التشبه بهم في أحوالهم وأقوالهم ؛ ولهذا قال تعالى : { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس ، يأكلون أموالهم بذلك ، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف ، ولهم عندهم خَرْج وهدايا وضرائب تجيء إليهم ، فلما بعث الله رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه{[13409]} استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم ، طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات ، فأطفأها الله بنور النبوة ، وسلبهم إياها ، وعوضهم بالذلة والمسكنة ، وباءوا بغضب من الله .
وقوله تعالى : { وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق ، ويُلبسون الحق بالباطل ، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير ، وليسوا كما يزعمون ، بل هم دعاة إلى النار ، ويوم القيامة لا ينصرون .
وقوله : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هؤلاء هم القسم الثالث من رءوس الناس ، فإن الناس عالة على العلماء ، وعلى العُبَّاد ، وعلى أرباب الأموال ، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس ، كما قال بعضهم{[13410]} وَهَل أفْسَدَ الدِّينَ إلا المُلوكُ *** وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُها?
وأما الكنز فقال مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة .
وروى الثوري وغيره عن عُبَيد الله{[13411]} عن نافع ، عن ابن عمر قال : ما أُدِّي زكاتُه فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما{[13412]} كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز{[13413]} وقد رُوي هذا عن ابن عباس ، وجابر ، وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا{[13414]} وعمر بن الخطاب ، نحوه ، رضي الله عنهم : " أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض ، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض " .
وروى البخاري من حديث الزهري ، عن خالد بن أسلم قال : خرجنا مع عبد الله بن عمر ، فقال : هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت جعلها الله طُهرًا للأموال{[13415]}
وكذا قال عمر بن عبد العزيز ، وعراك بن مالك : نسخها قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ التوبة : 103 ]
وقال سعيد بن محمد بن زياد ، عن أبي أمامة أنه قال : حلية السيوف من الكنز ما أحدثكم إلا ما سمعت .
وقال الثوري ، عن أبي حصين ، عن أبي الضُّحَى ، عن جَعْدَة بن هبيرة ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، فما كان أكثر منه{[13416]} فهو كنز .
وهذا غريب . وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر{[13417]} منهما ، أحاديث كثيرة ؛ ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي ، فقال عبد الرازق : أخبرنا الثوري ، أخبرني أبو حصين ، عن أبي الضحى ، بن جعدة بن هبيرة ، عن علي ، رضي الله عنه ، في قوله : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تَبّا للذهب ، تَبّا للفضة " يقولها ثلاثا ، قال : فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال : عمر ، رضي الله عنه ، أنا أعلم لكم ذلك فقال : يا رسول الله ، إن أصحابك قد شق عليهم [ و ]{[13418]} قالوا : فأيَّ مال نتخذ ؟ قال : " لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا{[13419]} وزوجة تعين أحدكم على دينه " {[13420]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني سالم ، حدثني عبد الله بن أبي الهُذَيْل ، حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تبا للذهب والفضة " . قال : فحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، قولك : " تبا للذهب والفضة " ، ماذا ندخر ؟ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وزوجة تُعين على الآخرة " {[13421]}
حديث آخر : قال{[13422]} الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن أبيه ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال : لما نزل في الفضة والذهب{[13423]} ما نزل قالوا : فأي المال نتخذ ؟ قال [ عمر : أنا أعلم ذلك لكم فأوضع{[13424]} على بعير فأدركه ، وأنا في أثره ، فقال : يا رسول الله ، أي المال نتخذ ؟ قال ]{[13425]} ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين أحدكم في{[13426]} أمر الآخرة " .
ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من غير وجه ، عن سالم بن أبي الجعد{[13427]} وقال الترمذي : حسن ، وحكي عن البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان .
قلت : ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلا والله أعلم .
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حميد بن مالك ، حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي ، حدثنا أبي ، حدثنا غَيْلان بن جامع المحاربي ، عن عثمان أبي اليقظان ، عن جعفر بن إياس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } الآية ، كَبُر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده ما لا يبقى بعده . فقال عمر : أنا أفرِّج عنكم . فانطلق عمر واتبعه ثوبان ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبيَّ الله ، إنه قد كَبُر على أصحابك هذه الآية . فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم " . قال : فكبَّر عمر ، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته " .
ورواه أبو داود ، والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى ، به{[13428]} وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا الأوزاعي ، عن حسان بن عطية قال : كان شداد بن أوس ، رضي الله عنه ، في سفر ، فنزل منزلا فقال لغلامه : ائتنا بالشَّفْرَةِ نعْبَث بها . فأنكرت عليه ، فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخْطمُها وأزمُّها غير كلمتي هذه ، فلا تحفظونها{[13429]} علي ، واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم ، إنى أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب " {[13430]}
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيراً مّنَ الأحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بوحدانية ربهم ، إن كثيرا من العلماء والقرّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى ٍٍ " يَأْكُلُونَ أموَالَ النّاسِ بالباطِلِ " يقول : يأخذون الرُّشى في أحكامهم ، ويحرّفون كتاب الله ، ويكتبون بأيديهم كتباً ثم يقولون : هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمنا قليلاً من سِفْلَتِهم . وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ، يقول : ويمنعون من أراد الدخول في الإسلام الدخول فيه بنهيهم إيّاهم عنه .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
- حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّ كَثِيرا مِنَ الأحْبارِ وَالرّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوَالَ النّاسِ بالباطِلِ " أما " الأحبار " ؛ فمن اليهود . وأما " الرهبان " ؛ فمن النصارى . وأما " سبيل الله " ؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : " إنّ كَثِيرا مِنَ الأحْبارِ وَالرّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوَالَ النّاسِ بالباطِلِ " ، ويأكلها أيضا معهم " الّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ " ، يقول : بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، بعذاب أليم لهم يوم القيامة مُوجع من الله .
واختلف أهل العلم في معنى " الكنز " ، فقال بعضهم : هو كلّ مال وجبت فيه الزكاة ، فلم تؤدّ زكاته . قالوا : وعنى بقوله : " ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، ولا يؤدون زكاتها . ذكر من قال ذلك :
- حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا ، وكلّ مال لم تؤدّ زكاته ، فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن ، يُكْوَى به صاحبه ، وإن لم يكن مدفونا .
- حدثنا الحسن بن الجنيد ، قال : حدثنا سعيد بن مسلمة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أمية ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه قال : كلّ مال أدّيت منه الزكاة فليس بكنز ، وإن كان مدفونا ، وكلّ مال لم تؤدّ منه الزكاة وإن لم يكن مدفونا ، فهو كنز .
- حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : أيمُّا مال أدّيت زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا في الأرض . وأيما مال لم تؤدّ زكاته ، فهو بكنز يكوى به صاحبه ، وإن كان على وجه الأرض .
- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي وجرير ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن ابن عمر ، قال : ما أدّيت زكاته فليس بكنز .
- قال : حدثنا أبي ، عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما أدّيت زكاته فليس بكنز ، وإن كان تحت سبع أرضين . وما لم تؤدّ زكاته فهو كنز ، وإن كان ظاهرا .
- قال : حدثنا جرير ، عن الشيباني ، عن عكرمة ، قال : ما أدّيت زكاته فليس بكنز .
- حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : " أما الذين يكنزون الذهب والفضة " ، فهؤلاء أهل القبلة . و " الكنز " : ما لم تؤدّ زكاته وإن كان على ظهر الأرض ، وإن قلّ . وإن كان كثيرا قد أدّيت زكاته ، فليس بكنز .
- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، قال : قلت لعامر : مالٌ على رفّ بين السماء والأرض لا تؤدّى زكاته ، أكنز هو ؟ قال : يُكْوى به يوم القيامة .
وقال آخرون : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم ، فهو كنز ، أدّيت منه الزكاة أو لم تؤدّ . ذكر من قال ذلك :
- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن عليّ رحمة الله عليه قال : أربعة آلاف درهم فما دونها " نفقة " ، فما كان أكثر من ذلك فهو " كنز " .
- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن عليّ ، مثله .
- حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الشعبيّ ، قال : أخبرني أبو حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن عليّ رحمة الله عليه ، في قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ " ، قال : أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ، وما فوقها كنز .
وقال آخرون : " الكنز " كلّ ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه . ذكر من قال ذلك :
- حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أنس ، عن عبد الواحد : أنه سمع أبا مجيب قال : كان نعل سيف أبي هريرة من فضة ، فنهاه عنها أبو ذرّ ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ تَرَكَ صَفْرَاءَ أوْ بَيْضَاءَ كُوِيَ بِهَا » .
- حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن الأعمش وعمرو بن مرّة ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : لما نزلت : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «تَبًّا للذّهَبِ ! تَبًّا للفِضّةِ ! » يقولها ثلاثا . قال : فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : فأيَّ مال نتخذه ؟ فقال عمر : أنا أعلم لكم ذلك . فقال : يا رسول الله إن أصحابك قد شقّ عليهم ، وقالوا : فأيَّ المال نتخذ ؟ فقال : «لسانا ذَاكِرا ، وَقَلْبا شَاكِرا ، وَزَوْجَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على دِينِهِ » .
- حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان ، بمثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن منصور ، عن عمرو بن مرّة ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : لما نزلت هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، قال المهاجرون : وأيَّ المال نتخذ ؟ فقال عمر : أسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه . قال : فأدركته على بعير ، فقلت : يا رسول الله إن المهاجرين قالوا : فأيَّ المال نتخذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لِسانا ذَاكِرا ، وقَلْبا شَاكِرا ، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على دِينِهِ » .
- حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، قال : توفي رجل من أهل الصُّفَّة ، فوُجد في مئزرِه دينارٌ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيّةٌ ! » ثم توفي آخر ، فوُجد في مئزره ديناران ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :
- حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن صدى بن عجلان أبي أمامة ، قال : مات رجل من أهل الصفة ، فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيّةٌ ! » ثم توفي آخر ، فوجد في مئزره ديناران فقال نبيّ الله :
- حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سالم ، عن ثوبان ، قال : كنا في سفر ، ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال المهاجرون : لوددنا أنا علمنا أيُّ المال خيرٌ فنتخذه ؟ إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل ! فقال عمر : إن شئتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ! فقالوا : أجل ! فانطلق فتبعته أوضع على بعيري ، فقال : يا رسول الله إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا : وددنا أنا علمنا أيّ المال خير فنتخذه ، قال : «نَعَمْ ، فَيَتّخِذُ أحَدُكُمْ لِسانا ذَاكِرا ، وَقَلْبا شَاكِرا ، وَزَوْجَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على إيمَانِهِ » .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، القول الذي ذُكِر عن ابن عمر : من أن كلّ مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر ، وأن كلّ ما لم تؤدّ زكاته فصاحبه معاقب مستحقّ وعيد الله ، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل ، إذا كان مما يجب فيه الزكاة .
وذلك أن الله أوجب في خمس أواق من الوَرِق على لسان رسوله رُبع عُشرها ، وفي عشرين مثقالاً من الذهب مثل ذلك ربع عشرها . فإذ كان ذلك فرض الله في الذهب والفضة على لسان رسوله ، فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوفَ ألوفٍ لو كان ، وإن أدّيت زكاته من الكنوز التي أوعد الله أهلها عليها العقاب ، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر . لأن ما كان فرضا إخراج جميعه من المال وحرامٌ اتخاذه ، فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا ربع عشره ، وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه وفرضٌ عليه إخراجه من يده إلى يده ، فالتطهر منه : ردّه إلى صاحبه . فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم ، أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها ، مما يستحق صاحبه باقتنائه إذا أدّى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة وعيد الله ، لم يكن اللازم ربه فيه ربع عشره ، بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله وصرفه فيما يجب عليه صرفه ، كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصبِ رجلٍ مالَه ردُّه على ربه . وبعد ، فإن فيما :
- حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : قال معمر : أخبرني سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما مِنْ رَجُلٍ لا يُؤَدّي زَكَاةَ مالِهِ إلاّ جُعِلَ يَوْمَ القِيَامَةِ صفَائِحَ مِنْ نارٍ يُكْوَى بِها جَنْبُهُ وجَبْهَتُهُ وظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألُفَ سَنَةٍ ، حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ ، ثُمّ يَرَى سَبِيلَه ، وَإنْ كانَتْ إبِلاً إلاّ بُطِحَ لَهَا بِقاعٍ قَرْقَرٍ ، تَطَؤُهُ بأخْفَافِها » حسبته قال :
«وَتَعَضّهُ بأفْوَاهِها ، يَرِدُ أُولاها على أُخْرَاها ، حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ ثُمّ يَرَى سَبِيلَهُ . وَإنْ كانَتْ غَنَما فَمِثْلُ ذلكَ ، إلا أنّها تَنْطَحُهُ بقُرُونِها ، وَتَطَؤُهُ بأظْلاَفِها » .
وفي ذلك نظائر من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها ، الدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤدّ الوظائف المفروضة فيها لأهلها من الصدقة ، لا على اقتنائها واكتنازها .
وفيما بينا من ذلك البيان الواضح على أن الآية لخاصّ كما قال ابن عباس ، وذلك ما :
- حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ " يقول : هم أهل الكتاب ، وقال : هي خاصة وعامة .
يعني بقوله : " هي خاصة وعامة " ، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤدّ زكاة ماله منهم ، وعامة في أهل الكتاب ، لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا .
يدلّ على صحة ما قلنا في تأويل قول ابن عباس هذا ما :
- حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها . . . " إلى قوله : " هَذَا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذَوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ " ، قال : هم الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم . قال : وكلّ مال لا تؤدّى زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها فهو كنز ، وكل مال تؤدّى زكاته فليس بكنز كان على ظهر الأرض أو في بطنها .
- حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ " ، قال : " الكنز " : ما كنز عن طاعة الله وفريضته ، وذلك " الكنز " . وقال : افترضت الزكاة والصلاة جميعا ، لم يفرق بينهما .
وإنما قلنا ذلك على الخصوص ، لأن الكنز في كلام العرب : كلّ شيء مجموع بعضُه على بعض ، في بطن الأرض كان أو على ظهرها ، يدلّ على ذلك قول الشاعر :
لا دَرَّ دَرِّىَ إنْ أطْعَمْتُ نازِلَهُم *** قَرْفَ الحَتِيّ وعنْدي البُرّ مَكْنُوزُ
يعني بذلك : وعند البرّ مجموع بعضه على بعض ، وكذلك تقول العرب للبدن المجتمع : مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض .
وإذا كان ذلك معنى الكنز عندهم ، وكان قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ " ، معناه : والذين يجمعون الذهب والفضة بعضَها إلى بعض ، ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ ، وهو عامّ في التلاوة ، لم يكن في الآية بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة الذي إذا جمع بعضه إلى بعض ، استحقّ الوعيد كان معلوما أن خصوص ذلك إنما أدرك ، لوقْف الرسول عليه ، وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يؤدّ حقّ الله منه من الزكاة ، دون غيره لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته .
وقد كان بعض الصحابة يقول : هي عامة في كلّ كنز ، غير أنها خاصة في أهل الكتاب وإياهم عنى الله بها . ذكر من قال ذلك :
- حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا حصين عن زيد بن وهب ، قال : مررت بالرَّبَذَة ، فلقيت أبا ذرّ ، فقلت : يا أبا ذرّ ، ما أنزلك هذه البلاد ؟ قال : كنت بالشأم ، فقرأت هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ . . . " الآية ، فقال معاوية : ليست هذه الآية فينا ، إنما هذه الآية في أهل الكتاب ! قال : فقلت إنها لفينا وفيهم ! قال : فارتفع في ذلك بيني وبينه القول ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إليّ عثمان : أن أقبل إليّ ! قال : فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تنحّ قريبا . قلت : والله لن أدع ما كنت أقول .
- حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع ، قالوا : حدثنا ابن إدريس ، قال حدثنا حصين ، عن زيد بن وهب ، قال : مررنا بالربذة ، ثم ذكر عن أبي ذرّ نحوه .
- حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشعث ، وهشام ، عن أبي بشر ، قال : قال أبو ذرّ : خرجت إلى الشام ، فقرأت هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، فقال معاوية : إنما هي في أهل الكتاب ! قال : فقلت : إنها لفينا وفيهم .
- حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن زيد بن وهب ، قال : مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذرّ ، قال : قلت له : ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، قال : فقال : نزلت في أهل الكتاب ! فقلت : نزلت فينا وفيهم . ثم ذكر نحو حديث هشيم عن حصين .
فإن قال قائل : فكيف قيل : " ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، فأخرجت " الهاء " و " الألف " مخرج الكناية عن أحد النوعين ؟
قيل : يحتمل ذلك وجهين : أحدهما أن يكون الذهب والفضة مرادا بها الكنوز ، كأنه قيل : وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الكنوزولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ ، لأن الذهب والفضة هي " الكنوز " في هذا الموضع . والاَخر أن يكون استغنى بالخبر عن إحداهما في عائد ذكرهما من الخبر عن الأخرى ، لدلالة الكلام على الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها . وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها ، ومنه قول الشاعر :
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنا وأنْتَ بِمَا *** عِنْدَكَ رَاضٍ ، والرأْيُ مُخْتَلِفُ
فقال : " راض " ، ولم يقل : " رضوان " . وقال الاَخر :
إنّ شَرْخَ الشّبابِ والشّعَرَ الأسْ *** وَدَ مَا لَمْ يُعاصَ كَانَ جُنُونَا
فقال : " يعاص " ، ولم يقل : «يعاصيا » في أشياء كثيرة . ومنه قول الله : " وإذَا رأَوْا تِجَارَةً أوْ لَهْوا انْفَضُّوا إلَيْها " ، ولم يقل : «إليهما » .