فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

لما فرغ سبحانه من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان المتخذين لهم أرباباً ذكر حال المتبوعين فقال : { إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأحبار } إلى آخره ، ومعنى أكلهم لأموال الناس بالباطل : أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة ، وأثبت هذا للكثير منهم ؛ لأن فيهم من لم يلتبس بذلك ، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل ، ولا ميل إلى حطام الدنيا ، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان ، فالله المستعان . { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } أي : عن الطريق إليه وهو دين الإسلام ، أو عن ما كان حقاً في شريعتهم قبل نسخها بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل . قوله : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } قيل : هم المتقدّم ذكرهم من الأحبار والرهبان ، وإنهم كانوا يصنعون هذا الصنع . وقيل : هم من يفعل ذلك من المسلمين ، والأولى حمل الآية على عموم اللفظ ، فهو أوسع من ذلك ، وأصل الكنز في اللغة : الضم والجمع ، ولا يختص بالذهب والفضة . قال ابن جرير : الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها . انتهى . ومنه ناقة كناز : أي مكتنزة اللحم ، واكتنز الشيء : اجتمع .

واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزاً أم لا ؟ فقال قوم : هو كنز ، وقال آخرون : ليس بكنز . ومن القائلين بالقول الأوّل : أبو ذر . وقيده بما فضل عن الحاجة . ومن القائلين بالقول الثاني : عمر بن الخطاب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وجابر ، وأبو هريرة ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيرهم ، وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز .

قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون المذكور قبله شيئين ، هما : الذهب والفضة ، فقال ابن الأنباري : إنه قصد إلى الأعمّ الأغلب ، وهو الفضة قال : ومثله قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } ردّ الكناية إلى الصلاة لأنها أعمّ ، ومثله قوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } أعاد الضمير إلى التجارة ؛ لأنها الأهمّ . وقيل : إن الضمير راجع إلى الذهب والفضة معطوفة عليه ، والعرب تؤنث الذهب وتذكره . وقيل : إن الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله : { يَكْنِزُونَ } وقيل : إلى الأموال . وقيل : للزكاة ، وقيل : إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى ، وهو كثير في كلام العرب ، وأنشد سيبويه :

نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راض والرأي مختلف

ولم يقل : راضون ، ومثله قول الآخر :

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** برياً ومن أجل الطوى رماني

ولم يقل : بريين ، ومثله قول حسان :

إن شرخ الشباب والشعر الأس *** ود ما لم يعاض كان جنونا

ولم يقل : يعاضا . وقيل : إن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ ؛ لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية ، وعدّة كثيرة ، ودنانير ودراهم ، فهو كقوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } . وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمان الأشياء . وغالب ما يكنز وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز ، قوله : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وهو خبر الموصول ، وهو من باب التهكم بهم كما في قوله : تحية بينهم ضرب وجيع *** . . .

وقيل : إن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب ، سواء كان في الفرح أو في الغمّ .

/خ35