السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

{ يا أيها الذين آمنوا إنّ كثيراً من الأحبار } أي : علماء اليهود { والرهبان } أي : عباد النصارى { ليأكلون } أي : يتناولون { أموال الناس بالباطل } كالرشا ، وإنما عبر بالأكل لأنه معظم المراد من المال وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأن يفعلوا ما ينافى مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه بإظهار الزهد والمبالغة في التدين ، قال الرازي : ولعمري من تأمّل أحوال الناس في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطهارة والعظمة مثل الملائكة المقرّبين ، حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله . { ويصدّون } الناس { عن سبيل الله } أي : دينه ولما كان مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه بين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين ؛ أمّا المال فهو المراد بقوله تعالى : { ليأكلون أموال الناس بالباطل } ( التوبة ، 34 ) ، وأما الجاه فهو المراد بقوله : { ويصدّون عن سبيل الله } ، فإنهم لو أقرّوا بأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم على الحق لزمهم متابعته وحينئذ كان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم ، ولأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعته صلى الله عليه وسلم ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة وفي منع الخلق من قبول دينه الحق . { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } يحتمل أن يراد بقوله : { الذين } أولئك الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بقوله تعالى : { ليأكلون أموال الناس بالباطل } ووصفهم أيضاً بالبخل الشديد والامتناع من إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم بقوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال ولا يؤدّون حقه ويكون اقترانهم بالمرتشين من اليهود والنصارى تغليظاً ودلالة على أنّ من يأخذ منهم السحت ومن لا يعطي منكم بطيب زكاة ماله سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم وأن يراد كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين .

لما روي عن زيد بن وهب قال مررت على أبي ذر بالربذة فقلت : ما أنزلت بهذه الأرض فقال : كنا بالشأم فقرأت : { والذين يكنزون الذهب } الآية فقال معاوية : ما هذا فينا ما هذا إلا في أهل الكتاب ، فقلت : إنها فيهم وفينا فصار ذلك سبباً لوحشة بيني وبينه فكتب إليّ عثمان أن أقبل إلي فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي : تنح قريباً ، فقلت : إني والله لن أدع ما كنت أقول . وأصل الكنز في كلام العرب الجمع وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز يقال : هذا جسم مكتنزاً الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء ، واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم على قولين : الأوّل : وهو ما عليه الأكثر أنه المال الذي لم تؤدّ زكاته لما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني : شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا { ولا تحسبّن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } ( آل عمران ، 180 ) الآية ، والشجاع : الحية ، والأقرع صفته لطول عمره ، لأنّ من طال عمره تمزق شعره وذهب وهي صفة أخبث الحيات ، والزبيبتان : الزائدتان في الشدقين .

وروي لما نزلت هذه الآية كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إنّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ) ، وقال ابن عباس في قوله تعالى : { ولا ينفقونها في سبيل الله } يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم ، قال القاضي عياض : تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه بل الواجب أن يقال : الكنز هو الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وبين ما يلزم من نفقة الحج ، وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فيجب في كلّ هذا الآثام وأن يكون داخلاً في الوعيد . والقول الثاني : إنّ المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم واحتج الذاهبون إلى هذا القول بعموم الآية وبما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية : ( تبّاً الذهب تبا للفضة ) قالها ثلاثاً فقالوا له : أي مال نتخذ قال : ( لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وزوجة تعين أحدكم على دينه ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها ) وتوفي شخص فوجد في مئزره دينار فقال صلى الله عليه وسلم «كية » ، وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال : «كيتان » ، وأجاب القائلون بالأوّل بأنّ هذا كان قبل فرض الزكاة ، فأمّا بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن فيه ويؤدّي ما أوجب عليه فيه ثم يعاقبه .

وقد روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن هذه الآية فقال : كانت قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال وقال ما أبالي لو أنّ لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) وقال صلى الله عليه وسلم : «ما أدّي زكاته فليس بكنز » ، وكان في زمانه صلى الله عليه وسلم جماعة معهم الأموال كعثمان وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه الصلاة والسلام يعدّهم من أكابر الصحابة ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل وإلا دخل في الورع والزهد في الدنيا والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه وكونه أدخل في الورع لأمور منها أن كسب المال شاق شديد وحفظه بعد حصوله أشدّ وأشق وأصعب فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل وأخرى في طلب الحفظ ، ثم إنه لا ينتفع منها إلا بالقليل ومنها أن كثرة المال والجاه تورث الطغيان كما قال تعالى : { إنّ الإنسان ليطغى 6 أن رآه استغنى } ( العلق ، آيتان : 6 7 ) فالطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقع في الخذلان والخسران ، ومنها أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه .

فإن قيل : قال عليه الصلاة والسلام : ( اليد العليا خير من اليد السفلى » ، أجيب : بأنّ اليد العليا إنما إفادته صفة الخيرية لأنه لما أعطى ذلك القليل تسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليل فحصل له الخيرية وبسبب أنه حصل للفقير بذلك الزيادة القليلة حصلت له المرجوحية .

فإن قيل : إنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة ثم قال : { ولا ينفقونها } فلم أفرد الضمير ؟ أجيب : بأنّ الضمير راجع إلى المعنى دون اللفظ لأنّ كل واحد منهما جملة وافية وعدّة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ( الحجرات ، 9 ) وقيل : ذهب به إلى المكنوز ، وقيل : إلى الأموال ، وقيل : التقدير ولا ينفقون الفضة وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث أنهما معاً يشتركان في ثمنية الأشياء أو أن ذكر أحدهما يغنى عن الآخر كقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } ( الجمعة ، 11 ) جعل الضمير للتجارة وقيل : التقدير والذهب كذلك كما أنّ قول القائل :

فإني وقيار بها لغريب*** . . .

أي : وقيار كذلك .

فإن قيل : ما السبب في كونه خصهما بالذكر من سائر الأموال ؟ أجيب : بأنهما خصا من دون سائر الأموال لأنهما أشرف الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز ، ومن كنزا عنده لم يعدم سائر أجناس المال فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما ثم إنه تعالى لما ذكر من يكنز الذهب والفضة قال تعالى : { فبشرهم } أي : أخبرهم { بعذاب أليم } أي : مؤلم وعبر بالبشارة على سبيل التهكم .