البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

أصل الكنز في اللغة الضم والجمع ، ولا يختص بالذهب والفضة .

قال :

لا درّ درّي إنْ أطعمت ضائعهم *** قرف الجثى وعندي البر مكنوز

وقالوا : رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه .

وقال الراجز :

على شديد لحمه كناز ***

بات ينزيني على أوفاز

ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة .

الكي : معروف وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد .

والجبهة : معروفة وهي صفحة أعلى الوجه .

والغاز : معروف وهو نقر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه ، وقال ابن فارس : الغار الكهف ، والغار نبت طيب الريح ، والغار الجماعة ، والغاران البطن والفرج .

ثبطه عن الأمر أبطأ به عنه ، وناقة ثبطة أي بطيئة السير .

وأصل التثبيط التعويق ، وهو أن يحول بين الإنسان وبين أمر يريده بالتزهيد فيه .

الزهق : الخروج بصعوبة ، قال الزجاج : بالكسر خروج الروح ، وقال الكسائي والمبرد : زهقت نفسه وزهقت لغتان ، والزهق الهلاك ، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر ، والزهوق البعد ، والزهوق البئر البعيدة المهواة .

الملجأ : مفعل من لجأ إلى كذا انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا اضطررته .

جمح نفر بإسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام إذا حمل .

قال :

سبوحاً جموحاً وإحضارها *** كمعمعة السعف الموقد

وقال مهلهل :

وقد جمحت جماحاً في دمائهم *** حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا

وقال آخر :

إذا ***

جمحت نساؤكم إليه

اشظ كأنه مسد مغار ***

حمز قفر ، وقيل : بمعنى جمح .

قال رؤبة :

قاربت بين عنقي وجمزي ***

اللمز قال الليث : هو كالغمز في الوجه .

وقال الجوهري : العيب ، وأصله الإشارة بالعين ونحوها .

وقال الأزهري : أصل اللمز الدفع ، لمزتُه دفعته .

الغرم : أصله لزوم ما يشق ، والغرام العذاب الشاق ، وسمي العشق غراماً لكونه شاقاً ولازماً .

{ يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } لمّا ذكر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، ذكر ما هو كثير منهم تنقيصاً من شأنهم وتحقيراً لهم ، وأنّ مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم ، فضلاً عن اتخاذهم أرباباً لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل ، وصدهم عن سبيل الله .

واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة ، فجمعوا بين الخصلتين المذمومتين : أكل المال بالباطل ، وكنز المال إن ضنوا أنْ ينفقوها في سبيل الله ، وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال اتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع ، وغير ذلك مما يوهمونهم به أنّ النفقه فيه من الشرع والتقرب إلى الله ، وهم يحجبون تلك الأموال كالراهب الذي استخرج سلمان كنزه .

وكما يأخذونه من الرشا في الأحكام ، كإيهام حماية دينهم ، وصدهم عن سبيل الله هو دين الإسلام واتباع الرسول .

وقيل : الجور في الحكم ، ويحتمل أن يكون يصدون متعدياً وهو أبلغ في الذم ، ويحتمل أن يكون قاصراً .

وقرأ الجمهور : والذين بالواو ، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين .

وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره في قوله : فبشرهم .

وقيل : والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان .

وروي هذا القول عن عثمان ومعاوية .

وقيل : كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين ، وروي هذا القول عن السدي ، والظاهر العموم كما قلناه ، فيقرن بين الكانزين من المسلمين ، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظاً ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب .

وروي العموم عن أبي ذر وغيره .

وقرأ ابن مصرّف : الذين بغير واو ، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم ، ويحتمل الاستئناف والعموم .

والظاهر ذمّ من يكنز ولا ينفق في سبيل الله .

وما جاء في ذم من ترك صفراء وبيضاء ، وأنه يكوى بها إلى غير ذلك من أحاديث هو قبل أن تفرض الزكاة ، والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، فلذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدّى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، فأما المال المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز " وعن عمر أنه قال لرجل باع أرضاً أحرز مالك الذي أخذت أحفر له تحت فراش امرأتك فقال : أليس بكنز ، فقال : «ما أدّى زكاته فليس بكنز » .

وعن ابن عمر وعكرمة والشعبي والسدّي ومالك وجمهور أهل العلم مثل ذلك .

وقال علي : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما زاد عليها فهو كنز وإن أدّيت زكاته .

وقال أبو ذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه فهو كنز .

وهذان القولان يقتضيان أنّ الذم في جنس المال ، لا في منع الزكاة فقط .

وقال عمر بن عبد العزيز : هي منسوخة بقوله : " خذ من أموالهم صدقة " فأتى فرض الزكاة على هذا كله ، كأنّ الآية تضمنت : لا تجمعوا مالاً فتعذبوا ، فنسخه التقرير الذي في قوله : خذ من أموالهم صدقة ، والله تعالى أكرم من أن يجمع على عبده مالاً من جهة أذن له فيها ويؤدّى عنه ما أوجبه عليه فيه ثم يعاقبه وكان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة بن عبيد الله ، يقتنون الأموال ويتصرّفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن الفتنة ، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا ، والإقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ، وما روي عن عليّ كلام في الأفضل .

وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر : يكنزون بضم الياء ، وخص بالذكر الذهب والفضة من بين سائر الأموال لأنهما قيم الأموال وأثمانها ، وهما لا يكنزان إلا عن فضلة وعن كثرة ، وممن كنزهما لم يعدم سائر أجناس الأموال ، وكنزهما يدل على ما سواهما .

والضمير في : ولا ينفقونها ، عائد على الذهب ، لأن تأنيثه أشهر ، أو على الفضة .

وحذف المعطوف في هذين القولين أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعاً ، فروعي المعنى كقوله : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم ، أو على المكنوزات ، لدلالة يكنزون .

أو على الأموال ، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه .

ولا ينفقونها ، أو على الزكاة أي : ولا ينفقون زكاة الأموال أقوال .

وقال كثير من المفسرين : عاد على أحدهما كقوله : { وإذ رأوا تجارة أو لهواً } وليس مثله ، لأن هذا عطف بأو ، فحكمهما أنّ الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو ، إلا أن ادّعى أنّ الواو في والفضة بمعنى أو ليمكن ، وهو خلاف الظاهر .