نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

ولما حقر أمرهم بتقسيم اعتمادهم على رؤسائهم ، وحالهم معروف في أنه لا نفع عندهم ولا ضر ، وأعلى أمر أهل الله باجتماعهم عليه وهو القادر على كل شيء ، وكان الإقبال على الدنيا أعظم أمارة على الخذلان ولو أنه بحق فكيف إذا{[36105]} بالباطل ! أقبل سبحانه وعز شأنه على أهل وده مستعطفاً متلطفاً منادياً باسم الإيمان الذي بنى أمره في أول هذا الكتاب على الإنفاق لا على التحصيل ولو كان بحق ، فكيف إذا{[36106]} كان بباطل ، ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون ، منبهاً على سفه من ترك من لا يسأله على بذل الهدى والدعوة إلى دين الحق أجراً وهو سفير محض لا ينطق عن الهوى ، ولم يعتقده رسولاً واتخذ مربوباً مثله وهو يأخذ ماله بالباطل ربواً ، وذلك مقتض لتحقيرهم{[36107]} لا لمطلق تعظيمهم فضلاً عن الرتبة التي أنزلوهم بها وأهلوهم لها مع الترفع عليهم لقصد أكل أموالهم بالباطل فقال : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بإيمان داعيهم من التكذيب ومما يؤول إليه { إن كثيراً من الأحبار } أي من علماء اليهود { والرهبان } أي من زهاد النصارى { ليأكلون } أي يتناولون ، ولكنه عبر به لأنه معظم المراد من المال ، وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأنهم يفعلون ما ينافي مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه { أموال الناس بالباطل } أي بأخذها بالرشى وأنواع التصيد بإظهار{[36108]} الزهد والمبالغة في التدين المستجلب لها بالنذور ونحوها فيكنزونها ولا ينفقونها في سبيل الله من أتاهم بها بالإقبال بقلوب عباده إليهم .

ولما أخبر عن إقبالهم على{[36109]} الدنيا ، أتبعه الإخبار عن إعراضهم عن الآخرة فقال : { ويصدون } أي يحتالون في صرف من يأتيهم بتلك الأموال وغيرهم { عن سبيل الله } أي دين الملك الذي له الأمر{[36110]} كله بإبعادهم عنه بإخفاء الآيات الدالة عليه عنهم خوفاً على انقطاع دنياهم بزوال رئاستهم لو أقبل أولئك على الحق .

ولما كان أكثرهم يكنزون تلك الأموال ، شرع سبحانه يهدد على مطلق الكنز ، ففهم من{[36111]} باب الأولى الصد الذي هو سبب الجمع الذي هو سبب الكنز فقال : { والذين } أي يفعلون ذلك والحال أنهم يعلمون أن الذين { يكنزون } أي يجمعون تحت الأرض أو فوقها من قولهم للمجتمع اللحم : مكتنز { الذهب والفضة } أي منهم ومن غيرهم من غير تزكية .

ولما كان من المعلوم أنهما{[36112]} أجل مال الناس ، وكان{[36113]} الكنز دالاً على المكاثرة فيهما ، أعاد الضمير عليهما {[36114]}بما يدل{[36115]} على الأنواع الكثيرة فقال : { ولا ينفقونها } أي ينفقون ما وجب عليهم من هذه الأموال التي جمعوها من هذين النوعين مجتمعين أو منفردين ، ولو ثنى لأوهم أن اجتماعها شرط للترهيب{[36116]} ، وإنما أعاد الضمير عليها من غير ذكر " من " - وهي مرادة - لمزيد الترغيب في الإنفاق والترهيب من تركه ، ويجوز أن يعود الضمير إلى الفضة لأن الذم على كنزها ، والحاجة إليها لكثرتها أقل ، فالذم على كنز الذهب من باب الأولى لأنه أعلى منها وأعز بخلاف الذم على كنز الذهب ؛ وقال الحرالي في آل عمران : فأوقع الإنفاق عليهما{[36117]} ولم يخصه من حيث لم يكن ، ولا{[36118]} ينفقون منهما{[36119]} كما قال في المواشي [ خذ من أموالهم ] لأن هذين الجوهرين خواتم ينال بها أهل الدنيا منافعهم وقد صرف عنهم الانتفاع بهما فلم يكن لوجودهما فائدة إلا بإنفاقهما لأنهما صنما هذه الأمة ، فكان كسرهما بإذهابهما -انتهى .

{ في سبيل الله } أي الوجه الذي أمر {[36120]}الملك الأعلى{[36121]} بإنفاقها فيه { فبشرهم } أي نقول فيهم بسبب ذلك تهكماً بهم : بشرهم { بعذاب أليم* } عوضاً عما أرادوا من السرور بإنجاح المقاصد .


[36105]:من ظ، وفي الأصل: إذ.
[36106]:في ظ: إن.
[36107]:في ظ: لتحقير.
[36108]:زيد من ظ.
[36109]:من ظ، وفي الأصل: عن.
[36110]:في ظ: الإكرام
[36111]:من ظ، وفي الأصل: منه.
[36112]:في ظ: أنها.
[36113]:زيد من ظ: مال.
[36114]:من ظ، وفي الأصل: ليدل.
[36115]:من ظ، وفي الأصل: ليدل.
[36116]:من ظ، وفي الأصل: الترغيب.
[36117]:في الأصل: عليها.
[36118]:في ظ: لم.
[36119]:في الأصل وظ: منها.
[36120]:في ظ: الله.
[36121]:في ظ: الله.