معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره } . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عمار ، وذلك أن المشركين أخذوه ، وأباه ياسراً ، وأمه سمية ، وصهيباً ، وبلالاً ، وخباباً ، وسالماً ، فعذبوهم ، فأما سمية : فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قبلها بحربه فقتلت ، وقتل زوجها ياسر ، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام ، وأما عمار : فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً . قال قتادة : أخذ بنو المغيرة عماراً ، وغطوه في بئر ميمون ، وقالوا له : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك ، وقلبه كاره ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كفر فقال : كلا ، إن عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما وراءك ؟ قال : شر يا رسول الله ، نلت منك وذكرت آلهتهم ، قال : كيف وجدت قلبك ؟ قال : مطمئناً بالإيمان ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت " ، فنزلت هذه الآية . قال مجاهد : نزلت في ناس من أهل مكة ، آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هاجروا ، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش في الطريق فكفروا كارهين . وقال مقاتل : نزلت في جبر ، مولى عامر بن الحضرمي ، أكرهه سيده على الكفر فكفر مكرهاً . { وقلبه مطمئن بالإيمان } ، ثم أسلم مولى جبر ، وحسن إسلامه ، وهاجر جبر مع سيده . { ولكن من شرح بالكفر صدراً } ، أي : فتح صدره للكفر بالقبول واختاره ، { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } . وأجمع العلماء على : أن من أكره على كلمة الكفر ، يجوز له أن يقول بلسانه ، وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفراً ، وإن أبى أن يقول حتى يقتل كان أفضل . واختلف أهل العلم في طلاق المكره . فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقع .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

90

ثم ينتقل السياق إلى بيان أحكام من يكفر بعد الإيمان :

( من كفر بالله من بعد إيمانه - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم . ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، وأن الله لا يهدي القوم الكافرين . أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وأولئك هم الغافلون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون )

ولقد لقي المسلمون الأوائل في مكة من الأذى ما لا يطيقه إلا من نوى الشهادة ، وآثر الحياة الأخرى ، ورضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال .

والنص هنا يغلظ جريمة من كفر بالله من بعد إيمانه . لأنه عرف الإيمان وذاقه ، ثم ارتد عنه إيثارا للحياة الدنيا على الآخرة . فرماهم بغضب من الله ، وبالعذاب العظيم ، والحرمان من الهداية ؛ ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والأبصار ؛ وحكم عليهم بأنهم في الآخرة هم الخاسرون . . ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة ، وحساب للربح والخسارة . ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات هذه الأرض ؛ فللأرض حساب ، وللعقيدة حساب ولا يتداخلان . وليست العقيدة هزلا ، وليست صفة قابلة للأخذ والرد فهي أعلى من هذا وأعز . ومن ثم كل هذا التغليظ في العقوبة ، والتفظيع للجريمة .

واستثنى من ذلك الحكم الدامغ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان . أي من أظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه من الهلاك ، وقلبه ثابت على الإيمان مرتكن إليه مطمئن به . وقد روى أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر .

روى ابن جرير - بإسناده - عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبي [ ص ] فقال النبي [ ص ] " كيف تجد قلبك ؟ " قال : مطمئنا بالإيمان . قال النبي [ ص ] : " إن عادوا فعد " . . فكانت رخصة في مثل هذه الحال .

وقد أبى بعض المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظة باللسان . كذلك صنعت سمية أم ياسر ، وهي تطعن بالحرية في موضع العفة حتى تموت وكذلك صنع أبوه ياسر .

وقد كان بلال - رضوان الله عليه - يفعل المشركون به الأفاعيل حتى ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ، ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم وهو يقول : أحد . أحد . ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها .

وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله . فيقول : نعم . فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع ! فلم يزل يقطعه إربا إربا ، وهو ثابت على ذلك .

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي - أحد الصحابة رضوان الله عليهم - أنه أسرته الروم ، فجاءوا به إلى ملكهم ، فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي . فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك و جميع ما تملكه العرب أن أرجع عن دين محمد [ ص ] طرفة عين ما فعلت . فقال : إذن أقتلك ، فقال : أنت وذاك . قال : فأمر به فصلب ، وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى . ثم أمر به فأنزل . ثم أمر بقدر . وفي رواية : بقرة من نحاس فأحميت ، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح . وعرض عليه فأبى ، فأمر به أن يلقى فيها . فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى . فطمع فيه ودعاه . فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله ، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله .

وفي رواية أنه سجنه ، ومنع عنه الطعام والشراب أياما ، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير ، فلم يقربه ، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما إنه قد حل لي ، ولكن لم أكن لأشمتك في . فقال له الملك : فقبل رأسي وأنا أطلقك . فقال : تطلق معي جميع أسارى المسليمن . فقال : نعم . فقبل رأسه ، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده . فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا ابدأ . فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما .

ذلك أن العقيدة أمر عظيم ، لا هوادة فيها ولا ترخص ، وثمن الاحتفاظ بها فادح ، ولكنها ترجحه في نفس المؤمن ، وعند الله . وهي أمانة لا يؤتمن عليها إلا من يفديها بحياته وهانت الحياة وهان كل ما فيها من نعيم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلََكِن مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

اختلف أهل العربية في العامل في «مَن » من قوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ } ، ومن قوله : { وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرا } ، فقال بعض نحويي البصرة : صار قوله : { فَعَلَيْهِمْ } ، خبرا لقوله : { وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرا } ، وقوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدَ إيمانِهِ } ، فأخبر لهم بخبر واحد ، وكان ذلك يدلّ على المعنى . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما هذان جزءان اجتمعا ، أحدهما منعقد بالآخر ، فجوابهما واحد ، كقول القائل : من يأتنا فمن يحسن نكرمه ، بمعنى : من يحسن ممن يأتنا نكرمه . قال : وكذلك كلّ جزاءين اجتمعا الثاني منعقد بالأوّل ، فالجواب لهما واحد . وقال آخر من أهل البصرة : بل قوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ } ، مرفوع بالردّ على «الذين » في قوله : { إنّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بآياتِ اللّهِ } ، ومعنى الكلام عنده : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره من هؤلاء وقلبه مطمئنّ بالإيمان . وهذا قول لا وجه له ، وذلك أن معنى الكلام لو كان كما قال قائل هذا القول ، لكان الله تعالى ذكره قد أخرج ممن افترى الكذب في هذه الآية الذين وُلدوا على الكفر وأقاموا عليه ولم يؤمنوا قطّ ، وخصّ به الذين قد كانوا آمنوا في حال ، ثم راجعوا الكفر بعد الإيمان والتنزيل يدلّ على أنه لم يخصص بذلك هؤلاء دون سائر المشركين الذين كانوا على الشرك مقيمين ، وذلك أنه تعالى أخبر خبر قوم منهم أضافوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراء الكذب ، فقال : { وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللّهُ أعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُوا إنمَا أنْتَ مُفْترٍ ، بَلْ أكْثرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، وكذّب جميع المشركين بافترائهم على الله ، وأخبر أنهم أحقّ بهذه الصفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { إنما يَفْتَرِي الكَذِبَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بآياتِ اللّهِ وأُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ } . ولو كان الذين عنوا بهذه الآية هم الذين كفروا بالله من بعد إيمانهم ، وجب أن يكون القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت مفتر حين بدّل الله آية مكان آية ، كانوا هم الذين كفروا بالله بعد الإيمان خاصة دون غيرهم من سائر المشركين ؛ لأن هذه في سياق الخبر عنهم ، وذلك قول إن قاله قائلٌ فبين فساده ، مع خروجه عن تأويل جميع أهل العلم بالتأويل .

والصواب من القول في ذلك عندي أن الرافع ل «من » الأولى والثانية ، قوله : { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ } ، والعرب تفعل ذلك في حروف الجزاء إذا استأنفت أحدهما على آخر .

وذكر أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم ، فثبت على الإسلام بعضهم وافتتن بعض . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ . . . } إلى آخر الآية . وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذّبوه ، ثم تركوه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّثه بالذي لقي من قريش والذي قال ، فأنزل الله تعالى ذكره عذره : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ . . . } إلى قوله : { ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ } ، قال : ذُكر لنا أنها نزلت في عمار بن ياسر ، أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره ، فأنزل الله تعالى ذكره : { إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرا } : أي من أتى الكفر على اختيار واستحباب ، { فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر ، فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كَيْفَ تَجدُ قَلْبَكَ ؟ » قال : مطمئنا بالإيمان . قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فإنْ عادُوا فَعُدْ » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : { إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإِيمَانَ } قال : نزلت في عمار بن ياسر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : لما عذّب الأعبد أعطوهم ما سألوا إلا خباب بن الأرت ، كانوا يضجعونه على الرضف فلم يستقلوا منه شيئا .

فتأويل الكلام إذن : من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، موقن بحقيقته ، صحيح عليه عزمه ، غير مفسوح الصدر بالكفر ، لكن من شرح بالكفر صدرا فاختاره وآثره على الإيمان وباح به طائعا ، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ورد الخبر عن ابن عباس .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإيمَانِ } ، فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه ، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم . فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه ، فلا حرج عليه ؛ لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

و { من } ، في قوله : { من كفر } ، بدل من قوله : { هم الكاذبون } ، ولم يجز الزجاج غير هذا الوجه ؛ لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام ، فعلقه بما قبله ، والذي أبى الزجاج سائغ على ما أورده الآن إن شاء الله .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يتأكد بما روي من أن قوله : { وأولئك هم الكاذبون } ، يراد به عبد الله بن أبي سرح ، ومقيس بن صبابة وأشباههما ، ممن كان آمن برسول الله ثم ارتد ، فلما بين في هذه الآية أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان ، أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنون المعذبون بمكة ، وهم بلال وعمار وسمية أمه ، وخباب وصهيب وأشباههم ، وذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء الضعفة ، يعذبونهم ليرتدوا ، فربما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول ، يروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله في هذه الآية ، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده ، ثم ابتدأ الإخبار : «أن من شرح صدراً بالكفر فعليهم » ، وهذا الضمير على معنى " من " ، لا على لفظها .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا من الاعتراض أن أمر ابن أبي سرح وأولئك إنما كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، والظاهر من هذه الآية أنها مكية . وقالت فرقة : { من } في قوله : { من كفر } ، ابتداء ، وقوله : { من شرح } ، تخصيص منه ، ودخل الاستثناء لما ذكرنا من إخراج عمار وشبهه ، وردنا من الاستثناء إلى المعنى الأول الاستدراك ب { ولكن } ، وقوله : { فعليهم } ، خبر { من } الأولى والثانية ؛ إذ هو واحد بالمعنى ؛ لأن الإخبار في قوله : { من كفر } ، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر{[7419]} ، و { صدراً } ، نصب على التمييز ، وقوله : { شرح بالكفر صدراً } ، معناه : انبسط إلى الكفر باختياره ، ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب ، وما سامع به من القول ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف تجد قلبك ؟ قال : أجده مطمئناً بالإيمان ، قال فأجبهم بلسانك ، فإنه لا يضرك ، وإن عادوا فعد{[7420]} .

قال القاضي أبو محمد : ويتعلق بهذه الآية شيء من مسائل الإكراه ؛ أما من عذبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه ، وكان العذاب يؤدي إلى قتله فله الإجابة باللسان ، قوْلاً واحداً فيما أحفظ ، فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى صنم ونحو ذلك ففي هذا اختلاف ، فقالت فرقة هي الجمهور : يجيب بحسب التقية ، وقالت فرقة : لا يجيب ويسلم نفسه ، وقالت فرقة : إن كان السجود نحو القبلة أجاب ، واعتقد السجود لله .

قال القاضي أبو محمد : وما أحراه أن يسجد لله حينئذ حيثما توجه ، وهذا مباح في السفر لتعب النزول عن الدابة في التنفل ، فكيف لهذا ، وإذا احتجت فرقة المنع بقول ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلماً به ، فقصر الرحمة على القول ، ولم يذكر الفعل .

قال القاضي أبو محمد : وليس هذا بحجة ؛ لأنه يحتمل أن جعل الكلام مثالاً وهو يريد أن الفعل في حكمه ، فأما الإكراه على البيع والأيمان والطلاق والعتق والفطر في رمضان ، وشرب الخمر ونحو هذا من المعاصي التي بين العبد والله عز وجل ، فلا يلزم المكره شيء من ذلك ، قاله مطرف ، ورواه عن مالك ، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ ، وروياه عن ابن القاسم عن مالك ، وفرق ابن عباس بين ما هنا قول ، كالعتق والطلاق ، فجعل فيها التقية ، وقال : لا تقية فيما كان فعلاً ، كشرب الخمر والفطر في رمضان ، ولا يحل فعلها لمكره ، فأما المظلوم يضغط حتى يبيع متاعه فذلك بيع لا يجوز عليه ، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن ، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم ، فإن أفات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه ، قال مطرف : ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب ، وأما من لا يعلم فلا يضمن العروض والحيوان ، وإنما يضمن ما كان تلفه بسببه مثل طعام أكله أو ثوب لبسه ، والغلة إذا علم أو لم يعلم ليست له بحال ، هو لها ضامن كالغاصب ، وقاله أصبغ وابن عبد الحكم ، قال مطرف : وكل ما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره ، وله أخذ متاعه ، وأما الإكراه على قتل مسلم أو جلده أو أخذ ماله أو بيع متاعه فلا عذر فيه ، ولا استكراه في ركوب معصية تنتهك مثل حد ، كالزنا والقتل أو نحوه ، قال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم : لا يفعل أحد ذلك ، وإن قتل إن لم يفعله ، فإن فعل فهو آثم ، ويلزمه الحد والقود ، قال مالك : والقيد إكراه ، والسجن إكراه ، والوعيد المخوف إكراه ، وإن لم يقع ، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإِنفاذه لما يتوعد .

قال القاضي أبو محمد : ويعتبر الإكراه عندي بحسب همة المكره وقدره في الدين ، وبحسب قدر الشيء الذي يكره عليه ، فقد يكون الضرب إكراهاً في شيء دون شيء ، فلهذه النوازل فقه الحال ، وأما يمين المكره كما قلنا فهي غير لازمة ، قال ابن الماجشون : وسواء حلف فيما هو لله طاعة ، أو فيما هو لله معصية ، أو فيما ليس في فعله طاعة ولا معصية ، فاليمين فيه ساقطة ، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلاً فاسقاً فيكرهه أن يحلف بالطلاق أن لا يشرب خمراً أو لا يفسق أو لا يغش في عمله ، أو الوالد يحلف ولده في مثل هذا تأديباً له ، فإن اليمين تلزم ، وإن كان المكره قد أخطأ فيما تكلف من ذلك ، وقال به ابن حبيب ، وأما إن أكره رجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المسكن وظلمة السعاة وأهل الاعتداء ، فقال مطرف : لا تقية في ذلك ، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا عن ماله ، وقال ابن الماجشون : لا يحنث ، وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه ، وقال ابن القاسم بقول مطرف ، ورواه عن مالك ، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ وابن حبيب ، قال مطرف وابن الماجشون : وإن بدر الحالف يمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من بدنه وماله فحلف له فإنه يلزمه ، قاله ابن عبد الحكم وأصبغ ، وقال أيضاً ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب ، وإنما حلف خوفاً من ضربه أو قتله أو أخذ ماله ، فإن كان إنما يتبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه ، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث ، وإذا اتهم الوالي أحداً بفعل أمر فقال لا بد من عقوبتك إلا أن تحلف لي ، فإن كان ذلك الأمر مما لذلك المكروه فعله إما أن يكون طاعة وإما أن يكون لا طاعة ولا معصية ، فالتقية في هذا ، وأما إن كان ذلك الأمر مما لا يحل لذلك الرجل فعله ، ويكون نظر الوالي فيه صواباً فلا تقية في اليمين ، وهو حانث ، قاله مالك وابن الماجشون .

قال القاضي أبو محمد : فهذه نبذة من مسائل الإكراه .


[7419]:عقب أبو حيان على هذا بقوله: "وهذا وإن كان كما ذكر فهاتان جملتان شرطيتان وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك، فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على انفراده لا يشتركان فيه، فتقدير الحذف أحرى على صناعة الإعراب، وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله: {فسلام لك من أصحاب اليمين} وقوله: {فروح وريحان} جواب ل[أما] ول [إن]، هذا وهما أداتا شرط إحداهما تلي الأخرى.
[7420]:أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: تفرقوا عني، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض فألحقوا بي، فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت، فأصبحوا بمكة، فأخذهم المشركون وأبو جهل، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى، فجعلوا يصنعون درعا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه، فإذا ألبسوها إياه قال: أحد أحد، وأما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد، ثم مدها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بالذي كان من أمرهم، واشتد على عمار الذي كان تكلم به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحا بالذي قلت أم لا؟ قال: لا، قال: وأنزل الله : {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.