{ مَن كَفَرَ بالله } أي بكلمة الكفر { مِن بَعْدِ إيمانه } به تعالى . وهذا بحسب الظاهر ابتداء كلام لبيان حال من كفر بآيات الله تعالى بعدما آمن بها بعد بيان حال من لم يؤمن بها رأساً و { مِنْ } موصولة محلها الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } الآتي عليه وحذف مثل ذلك كثير في الكلام ، وجوز أيضاً الرفع وكذا النصب على القطع لقصد الذم أي هم أو أذم من كفر والقطع للذم والمدح وإن تعورف في النعت ، و { مِنْ } لا يوصف بها لكن لا مانع من اعتباره في غيره كالبدل وقد نص عليه سيبويه . نعم قال أبو حيان : إن النصب على الذم بعيد . وأجاز الحوفي . والزمخشري كونها بدلاً من { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } [ النحل : 104 ] وقوله تعالى : { وَأُوْلئِكَ هُمُ الكاذبون } [ النحل : 105 ] اعتراض بينهما . واعترضه أبو حيان . وغيره بأنه يقتضي أن لا يفتري الكذب إلا من كفر بعد إيمانه والوجود يقتضي أن من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن مطلقاً وهم أكثر المفترين . وأيضاً البدل هو المقصود والآية سيقت للرد على قريش وهم كفار أصليون . ووجه ذلك الطيبي بأن يراد بقوله تعالى : { مِن بَعْدِ إيمانه } من بعد تمكنه منه كقوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] وذكر أن فيه ترشيحاً لطريق الاستدراج وتحسيراً لهم على ما فاتهم من التصديق وما اقترفوه من نسبته عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء وفيه كما في «الكشف » أن قوله سبحانه : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } لا يساعد عليه ، وحمل التمكن منه على ما هو أعم من التمكن في إحداثه وبقائه لا يخفى ما فيه .
وقال المدقق : الأولى في التوجيه أن يجعل المعنى من وجد الكفر فيما بينهم تعييراً على الارتداد أيضاً وأن من وجد فيهم هذه الخصلة لا يبعد منهم الافتراء ويجعل ذلك ذريعة إلى أن ينعى عليهم ما كانوا يفعلونه مع المؤمنين من المثلة ويدمج فيه الرخصة بإجراء كلمة الكفر على اللسان على سبيل الإكراه وتفاوت ما بين صاحب العزيمة والرخصة ، ولا يخفى ما فيه أيضاً وأنه غير ملائم لسبب النزول ، وقال الخفاجي : لك أن تقول : الأقرب أن يبقى الكلام على ظاهره من غير تكلف وأن هذا تكذيب لهم على أبلغ وجه كما يقال لمن قال : إن الشمس غير طالعة في يوم صاح هذا ليس بكذب لأن الكذب يصدر فيما قد تقبله العقول ويكون هذا على تقدير أن يكون المراد في { لاَ يَهْدِيهِمُ الله } لا يهديهم إلى الحق فالله تعالى لما لم يهدهم إلى الحق والصدق وختم على حواسهم نزلوا منزلة من لم يعرفه حتى يساعده لسانه على النطق به فقبح إنكارهم له أجل من أن يسمى كذباً وإنما يكذب من تعمد ذلك ونطق به مرة ، فتكون الآية الأولى للرد على قريش صريحاً والأخرى دلالة على أبلغ وجه انتهى ، ولعمري إنه نهاية في التكلف ، ومثل هذا الإبدال الإبدال من { أولئك } [ النحل : 105 ] والإبدال من { الكاذبون } [ النحل : 105 ] وقد جوزهما الزمخشري أيضاً ؛ وجوز الحوفي الأخير أيضاً ولم يجوز الزجاج غيره .
وجوز غير واحد كون { مِنْ } شرطية مرفوعة المحل على الابتداء واستظهره في «البحر » والجواب محذوف لدلالة الآتي عليه كما سمعت في الوجه الأول ، والكلام في خبر من الشرطية مشهور ، وظاهر صنيع الزمخشري اختيار الإبدال وهو عندي غريب منه . وفي «الكشف » أن كون { مِنْ } شرطية مبتدأ وجه ظاهر السداد إلا أن الذي حمل جار الله على إيثار كون { مِنْ } بدلاً طلب الملاءمة بين أجزاء النظم الكريم لا أن يكون ابتداء بيان حكم ، ولا يخفى ما في هذا العذر من الوهن ، والظاهر أن استثناء { مَنْ أُكْرِهَ } أي على التلفظ بالكفر بأمر يخاف منه على نفسه أو عضو من أعضائه ممن كفر استثناء متصل لأن الكفر التلفظ بما يدل عليه سواء طابق الاعتقاد أولاً .
قال الراغب : يقال كفر فلان إذا اعتقد الكفر ويقال إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد ، فيدخل هذا المستثنى في المستثنى منه المذكور ، وقيل : مستثنى من الخبر الجواب المقدر ، وقيل : مستثنى مقدم من قوله تعالى : { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } وليس بذاك ، والمراد إخراجه من حكم الغضب والعذاب أو الذم ؛ وقوله سبحانه : { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } حال من السمثتنى ، والعامل كما في إرشاد العقل السليم هو الكفر الواقع بالإكراه لا نفس الإكراه لأن مقارنة اطمئنان القلب بالإيمان للإكراه لا تجدي نفعاً وإنما المجدي مقارنته للكفر الواقع به أي إلا من كفر بإكراه أو إلا من أكره فكفروا لحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته ، وأصل معنى الاطمئنان سكون بعد انزعاج ، والمراد هنا السكون والثبات على ما كان عليه بعد إزعاج الإكراه ، وإنما لم يصرح بذلك العامل إيماءً إلى أنه ليس بكفر حقيقة .
واستدل بالآية على أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار ليس ركناً فيه كما قيل . واعترض بأن من جعله ركناً لم يرد أنه ركن حقيقي لا يسقط أصلاً بل أنه دال على الحقيقة التي هي التصديق إذ لا يمكن الاطلاع عليها فلا يضره عند سقوطه لنحو الإكراه والعجز فتأمل .
{ ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي اعتقده وطاب به نفساً و { صَدْرًا } على معنى صدره إذ البشر في عجز عن شرح صدر غيره ، ونصبه كما قال الإمام على أنه مفعول به لشرح وجوز بعضهم كونه على التمييز ، و { مِنْ } إما شرطية أو موصولة لكن إذا جعلت شرطية قال أبو حيان لا بد من تقدير مبتدأ قبلها لأن لكن لا تليها الجمل الشرطية ، والتقدير هنا ولكن هم من شرح بالكفر صدراً أي منهم ومثله قوله :
ولكن متى تسترفد القوم أرفد . . . أي ولكن أنا متى تسترفد الخ . وتعقب بأنه تقدير غير لازم ، وقوله تعالى : { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } جواب الشرط على تقدير شرطية { مِنْ } وهي على التقديرين مبتدأ وهذا خبرها على تقدير الموصولية وكذا على تقدير الشرطية في رأي والخلاف مشهور ، وجعله بعضهم خبراً لمن هذه ولمن الأولى للاتحاد في المعنى إذ المراد بمن كفر الصنف الشارح بالكفر صدراً . وتعقبه في «البحر » بأن ههنا جملتين شرطيتين وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على حدة فتقدير الحذف أحرى في صناعة الإعراب .
وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في إدعائه أن قوله تعالى : { فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين } [ الواقعة : 91 ] وقوله سبحانه : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقعة : 89 ] جواب لأما ولأن هذا وهماً أداتا شرط تلي إحداهما الأخرى ، ويبعد بهذا عندي جعله خبراً لهما على تقدير الموصولية والاستدراك من الإكراه على ما قيل ؛ ووجه بأن قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } يوهم أن المكره مطلقاً مستثنى مما تقدم ، وقوله سبحانه : { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } لا ينفي ذلك الوهم فاحتيج إلى الاستدراك لدفعه وفيه بحث ظاهر ، وقيل : المراد مجرد التأكيد كما في نحو قولك : لو جاء زيد لأكرمتك لكنه لم يجىء . وأنت تعلم ما في ذلك فتأمل جداً ، وتنوين { غَضَبَ } للتعظيم أي غضب عظيم لا يكتنه كنهه كائن { مِنَ الله } جل جلاله { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } لعظم جرمهم فجوزوا من جنس عملهم ، وفي اختيار الاسم الجليل من تربية المهابة وتقوية وتعظيم العذاب ما فيه ، والجمع في الضميرين المجرورين لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد في المستكن في الصلة لرعاية جانب اللفظ . روي أن قريشاً أكرهوا عماراف وأبويه ياسراً وسمية على الارتداد فأبوا فربطوا سمية بين بعيرين ووجىء بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسراً وهما أول قتيلين في الإسلام ، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه فقيل يا رسول الله إن عماراً كفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : مالك إن عادوا فعد لهم بما قلت ، وفي رواية أنهم أخذوه فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : ما وراءك ؟ قال : شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئن بالإيمان قال صلى الله عليه وسلم إن عادوا فعد فنزلت هذه الآية ، وكأن الأمر بالعود في الرواية الأولى للترخيص بناءً على ما قال النسفي أنه أدنى مراتبه وكذا الأمر في الرواية الثانية أن اعتبر مقيداً بما قيد به في الرواية الأولى ، وأما إن اعتبر مقيداً بطمأنينة القلب كما في الهداية أي عد إلى جعلها نصب عينيك وأثبت عليها فالأمر للوجوب ، والآية دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عن ذلك إعزازاً للدين ولو تيقن القتل كما فعل ياسر وسمية وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة بل هو كالقتل في الغزو كما صرحوا به .
وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وعبد الرازق في تفسيره عن معمر أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله قال : فما تقول في ؟ فقال : أنا أصم فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد ذلك في جوابه فقتله فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى ، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له . وفي أحكام الجصاص أنه يجب على المكره على الكفر إخطار أنه لا يريده فإن لم يخطر بباله ذلك كفر . وفي «شرح المنهاج » لابن حجر لا توجد ردة مكره على مكفر قلبه مطمئن بالإيمان للآية ، وكذا إن تجرد قلبه عنهما فيما يتجه ترجيحه لإطلاقهم أن المكره لا يلزمه التورية فافهم ، وقال القاضي : يجب على المكره تعريض النفس للقتل ولا يباح له التلفظ بالكفر لأنه كذب وهو قبيح لذاته فيقبح على كل حال ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل الله سبحانه الكذب لها وحينئذٍ لا يبقى وثوق بوعده تعالى ووعيده لاحتمال أنه سبحانه فعل الكذب لرعاية المصلحة التي لا يعلمها إلا هو ، ورده ظاهر ، وهذا الخلاف فيما إذا تعين على المكره إما التزام الكذب وإما تعريض النفس للتلف وإلا فمتى أمكنه نحو التعريض أو إخراج الكلام على نية الاستفهام الإنكاري لم يجب عليه تعريض النفس لذلك إجماعاً . واستدل بإباحة التلفظ بالكفر عند الإكراه على إباحة سائر المعاصي عنده أيضاً وفيه بحث ، فقد ذكر الإمام أن من المعاصي ما يجب فعله عند الإكراه كشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير فإن حفظ النفس عن الفوات واجب فحيث تعين الأكل سبيلاً ولا ضرر فيه لحيوان ولا إهانة لحق الله تعالى وجب لقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] ومنها ما يحرم كقتل إنسان محترم أو قطع عضو من أعضائه وفي وجوب القصاص على المكره قولان للشافعي عليه الرحمة ، وذكر أن من الأفعال ما لا يقبل الإكراه ومثل بالزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة فحيث دل الزنا في الوجود علمنا أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه ، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله .