{ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } ، اختلف النحاة في العامل في ( من ) في قوله : ( من كفر ) ومن يؤله ولكن من شرح بالكفر صدراً .
فقال نحاة الكوفة : جوابهما جميعاً في قوله : { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } ، إنمّا هذان جزءان إن اجتمعا أحدهما منعقد بالآخر ، فجوابهما واحد ، كقول القائل : من يأتنا فمن يحسن نكرمه ، بمعنى من يحسن ممن يأتينا نكرمه .
وقال أهل البصرة : بل قوله : ( من كفر ) ، مرفوع بالرد على الذي في قوله : { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } ، ومعنى الكلام : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، ثمّ استثنى فقال : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } .
قال ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في عمار ، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر ، وأُمه سمية ، وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم ، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قبلها بحربة ، وقيل : لما أسلمت من أجل الرجال ، فقتلت وقتل زوجها ياسر ، وهما أول قتيلين في الاسلام ، رحمة الله ورضوانه عليهما ، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً .
قال قتادة : " أخذ بنو المغيرة عماراً وغطوه في بئر مصون وقالوا له : اكفر بمحمد ، [ ولم يتعمد ] ذلك ، وقلبه كان مطمئناً ، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كفر . فقال : " كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه " .
فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ، وقال : " مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت " " .
وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في ناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض أصحاب محمّد : أن هاجروا إلينا ، فإنا [ لا نرى أنكم ] منّا حتّى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركهم قريش بالطريق ففتنوهم ، فكفروا كارهين .
وروى ابن عون عن محمّد بن سيرين قال : تحدثنا أن هذه الآية نزلت في شأن عياش بن أبي ربيعة ، وكان عياش من المهاجرين الأولين ، [ وألجأ يضربه ] أن يكون بلغ مابلغ أصحابه هذه [ الفعلة ] ، وكان قدم مهاجراً ، وكان براً بأُمه ، فحلفت أن لا تأكل خبزاً ولا تستظل بظل حتّى يرجع إليها ابنها قال : فقدم عليه أبو جهل وكان أخاه لأُمه ، ورجل آخر ، فأراد أن يرجع معه ، فقال له أبو جهل : أُمك [ لو قد جاعت ما أكلت ولو قد شمست ] ما استظلت ، فقال ابنها : بلى ألقاها ثمّ أرجع . فقال : أما إذا أتيت فلا [ تعطين راحلتك ] أحداً ، فإنه لا يزال لك من أمرك النصف ما لم تعط راحلتك أحداً ، فانطلق هو وأبو جهل والرجل ، فلما كانوا ببعض الطريق قال أبو جهل : لو تحوّل كل واحد منا على راحلة صاحبه ، فتحول كل واحد منهم على راحلة صاحبه فساروا . وضربه أبو جهل بالسوط على رأسه ، وحلّفه باللات والعزى ، فلم يزل به حتّى أعطاه الذي أراد بلسانه ، ثمّ انطلق فرجع ، وفيه نزلت هذه الآية : { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } .
وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في جبر مولى عامر بن الحضرمي ، أكرهه سيّده على الكفر فكفر مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان ، وأسلم مولى جبر وحسُن إسلامه وهاجر جبر مع سيده . { وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } ، أي : فتح صدراً وكفر بالقبول ، وأتى على اختيار واستحباب . { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، وفي هذه الآية دليل على أن حقيقة الإيمان والكفر تتعلق بالقلب دون اللسان ، وأن اللسان هو المعبّر والترجمان .
اتفق الفقهاء على أن المكره على الكفر ، وعلى شتم الرسول صلى الله عليه وسلم والأصحاب ، وترك الصلاة ، وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات ، وارتكاب الشبهات ، بوعيد متلف ، أو ضرب شديد لا يحتمله ، إن له أن يفعل ما أكره عليه ، وإن أبى ذلك حتى يغضب في الله فهو أفضل له .
وأما الإكراه على الطلاق فاختلفوا فيه :
فأجاز أهل العراق الطلاق المكره ، وكذلك قالوا في الإكراه على النذور والأيمان [ والرجعة ] ونحوها ، رأوا ذلك [ جائزاً ] ، ورووا في ذلك أحاديثاً واهية الأسانيد .
وأما مالك والأوزاعي والشافعي : فإنهم أبطلوا طلاق المكره وقالوا : لما وجدنا الله سبحانه وتعالى عذر المكره على شيء ، ليس [ وراءه ] في الشر مذهب وهو الكفر ، ولم يحكم به مع الإكراه ، علمنا أن ما دونه أولى بالبطول وأجرى في العذر .
وهو قول عمر بن الخطاب وابنه ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الله بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن المسيب ، والقاسم بن مخيمرة ، وعبيد بن عمير ، وللشافعي في هذه المقالة مذهب ثالث : وهو أنه أجاز طلاق المكره إذا كان الإكراه من السلطان ، ولم يجوّز ذلك إذا كان الإكراه من غير السلطان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.