قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ، نزلت في عمار بن ياسر ، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمه سمية ، وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم ليرجعوا عن الإسلام ، فأما سمية أم عمار فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة ، فقتلت ، وقتل زوجها ياسر فهما أول قتيلين قتلا في الإسلام ، وأما عمار فإنه أعطاهم بعض ما أرادوا بلسانه مكرهاً . قال قتادة أخذ بنو المغيرة عمار وغطوه في بئر ميمون وقالوا له : اكفر بمحمد فبايعهم على ذلك وقلبه كاره ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عماراً كفر . فقال « كلا ، إن عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما وراءك ؟ قال : شر يا رسول الله نلت منك وذكرت . فقال : كيف وجدت قلبك قال : مطمئناً بالإيمان ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه . وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت » فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد : نزلت في أناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن هاجروا إلينا فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا ، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم عن دينهم فكفروا كارهين ، وهذا القول ضعيف ؛ لأن الآية مكية وكان هذا في أول الإسلام قبل أن يؤمروا بالهجرة ، وقال مقاتل : نزلت في جبر مولى عامر ابن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر ، فكفر مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان ثم أسلم عامر بن الحضرمي مولى جبر ، وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة والأولى أن يقال إن الآية عامة في كل من أكره على الكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، وإن كان السبب خاصاً . فإن قلت : المكره على الكفر ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر ، فما معنى هذا الاستثناء فيه إلا من أكره . قلت : المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما شابه ما يظهر من الكافر طوعا صح هذا الاستثناء لهذه المشابهة والمشاكلة والله أعلم .
فصل في حكم الآية : قال العلماء : يجب أن يكون الإكراه الذي يجوز له أن يتلفظ معه بكلمة الكفر أن يعذب بعذاب لا طاقة له به ، مثل التخويف بالقتل والضرب الشديد والإيلامات القوية ، مثل التحريق بالنار ونحوه . قال العلماء : أول من أظهر الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة : أبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وأبوه ياسر وأمه سمية ، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمنعه الله من أذى المشركين بعمه أبي طالب . وأما أبو بكر ، فمنعه قومه وعشيرته . وأخذ الآخرون ، وألبسوا أدراع الحديد وأجلسوا في حر الشمس بمكة ، فأما بلال فكانوا يعذبونه ، وهو يقول أحد أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه . وقتل ياسر وسمية كما تقدم .
وقال خباب : لقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري . وأجمعوا على أن من أكره على الكفر لا يجوز له أن يتلفظ بكلمة تصريحاً بل يأتي بالمعاريض ، وبما يوهم أنه كفر ، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان غير معتقد ، ما يقوله من كلمة الكفر ولو صبر حتى قتل كان أفضل ؛ لأن ياسراً وسمية قتلا ولم يتلفظا بكلمة الكفر ؛ ولأن بلالاً صبر على العذاب ولم يلم على ذلك . قال العلماء : من الأفعال ما يتصور الإكراه عليها كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، والميتة ونحوها فمن أكره بالسيف أو القتل على أن يشرب الخمر أو يأكل الميتة أو لحم الخنزير أو نحوها ، جاز له ذلك لقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ، وقيل : لا يجوز له ذلك ولو صبر كان أفضل ، ومن الأفعال ما لا يتصور الإكراه عليه كالزنا ؛ لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد ، وذلك يمنع انتشار الآلة فلا يتصور فيه الإكراه ، واختلف العلماء في طلاق المكره ، فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه وأكثر العلماء : لا يقع طلاق المكره . وقال أبو حنيفة : يقع . حجة الشافعي ومن وافقه قوله سبحانه وتعالى : { لا إكراه في الدين } ، ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته ؛ لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره ، والمعنى : أنه لا أثر له ولا عبرة به ، وقوله تعالى : { وقلبه مطمئن بالإيمان } ، فيه دليل على أن محل الإيمان هو القلب ، { ولكن من شرح بالكفر صدراً } ، يعني : فتحه ووسعه لقبول الكفر واختاره ورضي به ، { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } ، يعني : في الآخرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.