السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

ولما ذكر تعالى الذين لا يؤمنون مطلقاً أتبعهم صنفاً منهم هم أشدّ كفراً بقوله تعالى : { من } ، أي : أيّ مخلوق وقع له أنه { كفر بالله } ، أي : الذي له صفات الكمال بأن قال أو عمل ما يدل على الكفر ، { من بعد إيمانه } بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، { إلا من أكره } ، أي : على التلفظ بالكفر فتلفظ به ، { وقلبه مطمئن بالإيمان } ، فلا شيء عليه ؛ لأنّ محل الإيمان هو القلب . روي أنّ قريشاً أكرهوا عماراً وأباه ياسراً وأمّه سمية على الارتداد ، فربطوا سمية بين بعيرين وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال ، فقتلت وقتل ياسر ، وهما أوّل قتيل في الإسلام ، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرهاً ، وهو كاره بقلبه ، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه كفر ، فقال صلى الله عليه وسلم : «كلا إنّ عماراً امتلأ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول : ما لك ! إن عادوا لك فقل لهم مثل ما قلت » .

تنبيه : في الآية دليل على إباحة التلفظ بالكفر ، وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازاً للدين كما فعله أبواه . ولما روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله . قال : فما تقول فيّ ؟ قال : أنت أيضاً ، فخلاه . وقال للآخر : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله . قال : فما تقول فيّ ؟ قال : أنا أصمّ . فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له » . واختلف الأئمة في وقوع الطلاق بالإكراه ، فقال الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى : لا يقع طلاق المكره . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : يقع . واستدل الشافعي بقوله تعالى : { لا إكراه في الدين } [ البقرة ، 256 ] ، ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته ؛ لأنّ ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره ، أي : لا أثر له ولا عبرة به . وقال عليه الصلاة والسلام : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » . وقال أيضاً : «لا طلاق في إغلاق » ، أي : إكراه . وتمسك أبو حنيفة بقوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحلّ له } [ البقرة ، 230 ] وهذا قد طلقها . وأجيب بأنّ الآية مخصوصة بغير ذلك جمعاً بين الأدلة . { ولكن من شرح بالكفر صدراً } ، أي : فتحه ووسعه لقبول الكفر واختاره ورضي به ، { فعليهم غضب } ، أي : غضب لم تبين جهة عظمه لكونه { من الله } ، أي : الملك الأعظم ، { ولهم } ، أي : بظواهرهم وبواطنهم { عذاب عظيم } ، في الآخرة ؛ لارتدادهم على أعقابهم .