تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

الآية : 106 وقوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ، قوله : { من كفر بالله من بعد إيمانه } ، يحتمل وجهين :

أحدهما {[10517]} : { من كفر بالله } ، في زعم المكره ؛ لأنه أكرهه به ؛ ففي زعمه ( أنه ){[10518]} كافر بالله لطلبه ذلك منه ، وهو كقوله : { فراغ إلى آلهتهم } ( الصافات : 91 ) ، في زعمهم ( أنها آلهة ، وهي لم تكن ){[10519]} ، وكقوله : { وانظر إلى إلهك } ( طه : 97 ) ، سماه إلها ؛ لأنه ( إله ) {[10520]} في زعم السَامِري .

والثاني : { من كفر بالله } ، شارحا صدره بالكفر ، فهو{[10521]} الكافر به . وأما من أظهر الكفر بلسانه بالإكراه ، وقلبه معتقد بالإيمان على ما كان مطمئنا به ، فهو ليس بكافر .

وأصله أن من اعتقد مذهبا ودينا فإنه يعتقده بخصال ثلاث :

أحدها : يقلد آخر لما رآه أبصر وأحذق وأعلم فيه ، وهو لا يبلغ ذلك ، فيقلده لفضل بصره وعلمه فيه ورأيه .

والثاني : يعتقده{[10522]} للشبهة لما تراءى عنده أنه الحق ، فيعتقده لتلك الشبهة التي ذكرنا .

والثالث : يتضح له الحق ، فيعتقده .

فلهذه الوجوه الثلاثة يعتقد من يعتقد ( دينا ومذهبا . فأما أن يعتقد ) {[10523]} الإنسان مذهبا مجانا على الجُزاف ( فلا ، فإذا ){[10524]} كان إظهار كفر هذا لأكراه من أكرهه لم يصر كافرا .

وأصله أن الإيمان والكفر إنما يكونان بالاختيار . فالإكراه يزيل الاختيار اختيار الكفر . لذلك يبقى على الإيمان على ما كان لما لم يوجد منه اختيار الكفر .

فإن قيل : أليس أمرنا أن نقاتل أهل الكفر ليسلموا ، وذلك إسلام بإكراه ، وعلى ذلك نطق الكتاب ، وهو قوله : { تقاتلونهم أو يسلمون } ( الفتح : 16 ) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) ( البخاري : 25 ) ، ثم إذا أسلم لخوف السيف كان إسلامه إسلاما في الظاهر ؟ ما منع كذلك أنه إذا أكره على الكفر ، فأجرى كلمة الكفر ، فكان{[10525]} كفره كفرا في الظاهر ، فيحكم بحكمه كما حكم في الإسلام على الإكراه ، فما الفرق فيه ؟

قيل : كذلك كان يجيء ، إلا أن الله تعالى عفا عباده عن ذلك ، فأبقاهم على الإيمان وحكمه ، وإن أظهروا بلسانهم كلام الكفر بعد أن تكون قلوبهم مطمئنة بذلك فضلا منه ونعمة . وإلا القياس أن يحكم بحكم الكفر إذا تكلم بكلام الكفر .

وأما الطلاق والعتاق والنكاح ( ونحو ذلك فظاهر ) {[10526]} على ما تكلم به عامل واقع ؛ لأن الطلاق والعتاق ونحوهما مما تعلق بالكلام نفسه لا غيره ، فهو ، وإن أُكرِهَ على ذلك فهو مختار للتكلم به ، قاصد {[10527]} له ؛ لأن المكره لو أحب أن يستعمل لسانه بالتكلم بما ذكر ما قدر عليه . دل أنه على الاختيار يتكلم .

وأما البيع والشراء ( ونحوهما فلم يتعلقا ) {[10528]} بالكلام نفسه ، إذ قد يكون الأخذ والتسليم دون التكلم به . لذلك عمل الإكراه في إبطاله ( وأبقى المكره ) {[10529]}على الإيمان وحكمه ، وإن أظهر بلسانه كلام الكفر بعد أن يكون قلبه مطمئنا بذلك .

وعلى ذلك ما روي عن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم حين{[10530]} قال : ( وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) ( ابن ماجة : 2045 ) ، وذلك في الكفر ، ليس في غيره ؛ لأن الإكراه على الكفر كان ظاهرا يومئذ ، ولم يكن في غيره من طلاق وغيره .

وأما قتالنا إياهم ليسلموا فهو يحتمل ( وجهين :

أحدهما {[10531]} : على المجاوزة كقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } ( التوبة : 36 ) ، فنقاتلهم ليظهروا على الإسلام ، وإن لم تعرف حقيقته على المجازاة .

والثاني : قبلنا منهم الإسلام على الإكراه لنقربهم{[10532]} / 293 – ب / في ما بين المسلمين ، فيرون الإسلام ، ويتعلمون منهم حقيقته .

ألا ترى أنه قال : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } ، سماهن مؤمنات ، ثم أمرنا بامتحانهن بقوله : { فامتحنوهن } ( الممتحنة : 10 ) ، فإنما يمتحن ليظهر حقيقة إيمانهن ، وإلا لم ( يكن ){[10533]} للامتحان معنى لولا ذلك .

وأصله أن الله جعل حقيقة الإيمان والكفر بالقلب دون اللسان وغيره من الجوارح ؛ لأن غيره من الجوارح يجوز استعماله {[10534]} بإكراه . وأما القلب فإنه لا يملك أحد سواه استعماله ، وذلك لفضله ومنه . ( وقوله تعالى ){[10535]} : { ولكن من شرح بالكفر صدرا } ، فهو كافر به إن كان ذلك على الإكراه ، لما ذكرنا أنه باختياره{[10536]} الكفر ينشرح له الصدر لما لا يعمل {[10537]} الإكراه على القلب ، { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } ، ظاهر .


[10517]:أدرج قبلها في الأصل: ذكر من كفر بالله، وأدرج قبلها في م: حيث ذكر كفر بالله.
[10518]:ساقطة من الأصل وم.
[10519]:في الأصل وم: لأنهم لم يكونوا.
[10520]:ساقطة من الأصل وم.
[10521]:الفاء ساقطة من الأصل وم.
[10522]:الهاء ساقطة من الأصل وم.
[10523]:من م، ساقطة من الأصل.
[10524]:في الأصل وم: فلانا إذا.
[10525]:الفاء ساقطة من الأصل وم.
[10526]:في الأصل وم: ونحوه ظاهر.
[10527]:في الأصل وم: قاصدا.
[10528]:في الأصل وم: ونحوه لم يتعلق.
[10529]:في الأصل وم: وأبقاهم.
[10530]:حيث.
[10531]:في الأصل وم: وجوها.
[10532]:في الأصل وم: لنقرهم.
[10533]:ساقطة من الأصل وم.
[10534]:في الأصل وم: استعمالها.
[10535]:ساقطة من الأصل وم.
[10536]:الهاء ساقطة من الأصل.
[10537]:من م، في الأصل: يعلم.