قوله تعالى : { ليس عليك هداهم } . قال الكلبي سبب نزول هذه الآية أن ناساً من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار في اليهود ، وكانوا ينفقون عليهم قبل أن يسلموا ، فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم ، وأردوهم على أن يسلموا ، وقال سعيد بن جبير : كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة ، فلما كثر فقراء المسلمين ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق على المشركين . كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزل قوله : ( ليس عليك هداهم ) فتمنعهم الصدقة ليدخلوا الإسلام حاجة منهم إليها .
قوله تعالى : { ولكن الله يهدي من يشاء } . وأراد به هداية التوفيق ، أما هدى البيان والدعوة فكان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطوهم بعد نزول الآية .
قوله تعالى : { وما تنفقوا من خير } . أي مال .
قوله تعالى : { فلأنفسكم } . أي تنفقونه لأنفسكم .
قوله تعالى : { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } . لفظه جحد ، ومعناه نهي : أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله .
قوله تعالى : { وما تنفقوا من خير } . شرط كالأول ولذلك حذف النون منهما .
قوله تعالى : { يوف إليكم } . أي يوفر لكم جزاؤه ، ومعناه : يؤدي إليكم ، ولذلك أدخل فيه إلى .
قوله تعالى : { وأنتم لا تظلمون } . لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً ، وهذا في صدقة التطوع ، أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة ، فأما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين ، وهم أهل السهمان المذكورون في سورة التوبة .
ومن ثم لفتة من خطاب الذين آمنوا إلى خطاب الرسول [ ص ] لفتة لتقرير جملة حقائق كبيرة ، ذات أثر عميق في إقامة التصور الإسلامي على قواعده ، وفي استقامة السلوك الإسلامي على طريقه :
( ليس عليك هداهم ، ولكن الله يهدي من يشاء . وما تنفقوا من خير فلأنفسكم . وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله . وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) . .
روى ابن أبي حاتم - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي [ ص ] أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية : ليس عليك هداهم . . إلى آخرها . . فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين . .
إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله - ولو كان هو رسول الله [ ص ] إنه من أمر الله وحده . فهذه القلوب من صنعه ؛ ولا يحكمها غيره ، ولا يصرفها سواه ، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله . وما على الرسول إلا البلاغ . فأما الهدى فهو بيد الله ، يعطيه من يشاء ، ممن يعلم - سبحانه - أنه يستحق الهدى ، ويسعى إليه . وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حس المسلم ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده ، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده . . ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين ، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم ؛ ويعطف عليهم ، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدي ، وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد .
( ليس عليك هداهم ، ولكن الله يهدي من يشاء ) . .
فلتفسح لهم صدرك ، ولتفض عليهم سماحتك ، ولتبذل لهم الخير والعون ما احتاجوا إليه منك . وأمرهم إلى الله . وجزاء المنفق عند الله .
ومن هنا نطلع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوب المسلمين إليها ، ويروضهم عليها . . إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده ؛ ولا ينهى عن الإكراه على الدين فحسب . إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله . يقرر السماحة الإنسانية المستمدة من توجيه الله - سبحانه - يقرر حق المحتاجين جميعا في أن ينالوا العون والمساعدة - ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة - دون نظر إلى عقيدتهم . ويقرر أن ثواب المعطين محفوظ عند الله على كل حال ، ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله . وهي وثبة بالبشرية لا ينهض بها إلا الإسلام ؛ ولا يعرفها على حقيقتها إلا أهل الإسلام :
( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله . وما تنفقوا من خير يوف إليكم ، وأنتم لا تظلمون ) . .
ولا يفوتنا أن ندرك مغزى هذه اللفتة الواردة في الآية عن شأن المؤمنين حين ينفقون :
( وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ) . .
إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه . إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله . لا ينفق عن هوى ولا عن غرض . لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون ! لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ ! لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أو ليكافئه بنيشان ! لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله . خالصا متجردا لله . . ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته ؛ ويطمئن لبركة الله في ماله ؛ ويطمئن لثواب الله وعطائه ؛ ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله . ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بعد في هذه الأرض . وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل !
{ لّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلََكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام ، فتمنعهم صدقة التطوّع ، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها ، ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له ، فلا تمنعهم الصدقة . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن شعبة ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يتصدّق على المشركين ، فنزلت : وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّهِ فتصدّق عليهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو داود ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين ، فنزلت : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، قال : كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين حتى نزلت : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكَنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .
حدثنا محمد بن بشار وأحمد بن إسحاق ، قالا : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانوا لا يرضخون لأنسبائهم من المشركين ، فنزلت : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فرخص لهم .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير ، وكانوا يتقون أن يتصدّقوا عليهم ، ويريدونهم أن يسلموا ، فنزلت : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ . . . الآية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، وذكر لنا أن رجالاً من أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أنتصدّق على من ليس من أهل ديننا ؟ فأنزل الله في ذلك القرآن : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ قال : كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج فلا يتصدّق عليه يقول : ليس من أهل ديني ، فأنزل الله عزّ وجلّ : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ . . . الآية .
حدثني محمد ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَءَلانْفُسِكُمْ أما «ليس عليك هداهم » فيعني المشركين ، وأما النفقة فبين أهلها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا يعقوب القُمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : كانوا يتصدّقون . . .
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يُوَفّ إِلَيْكُمْ وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ قال : هو مردود عليك ، فمالك ولهذا تؤذيه وتمنّ عليه ، إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله ، والله يجزيك .
{ ليس عليك هداهم } لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين ، وإنما عليك الإرشاد والحث على المحاسن ، والنهي عن المقابح كالمن والأذى وإنفاق الخبيث . { ولكن الله يهدي من يشاء } صريح بأن الهداية من الله تعالى وبمشيئته ، وإنها تخص بقوم دون قوم . { وما تنفقوا من خير } من نفقة معروفة . { فلأنفسكم } فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا عليه ولا تنفقوا الخبيث . { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } حال ، وكأنه قال وما تنفقون من خير فلأنفسكم غير منفقين إلا لابتغاء وجه الله وطلب ثوابه . أو عطف على ما قبله أي وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجهه فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث . وقيل : نفي في معنى النهي . { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } ثوابه أضعافا مضاعفة ، فهو تأكيد للشرطية السابقة ، أو ما يخلف للمنفق استجابة لقوله عليه الصلاة والسلام " اللهم اجعل لمنفق خلفا ، ولممسك تلفا " روي : أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار ورضاع في اليهود ، وكانوا ينفقون عليهم ، فكرهوا لما أسلموا أن ينفعوهم فنزلت . وهذا في غير الواجب أما الواجب فلا يجوز صرفه إلى الكفار . { وأنتم لا تظلمون } أي لا تنقصون ثواب نفقاتكم .
استئناف معترض به بين قوله { إن تبدوا الصدقات } [ البقرة : 271 ] وبين قوله : { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } ، ومناسبته هنا أنّ الآيات المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس : منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ومنهم الذين يبطلون صدقاتهم بالمَنّ والأذى ، ومنهم الذين يتيمّمون الخبيث منه ينفقون ، ومنهم من يعَدهم الشيطان الفقرَ ويأمرهم بالفحشاء . وكان وجود هذه الفرق مما يَثقل على النبي صلى الله عليه وسلم فعقّب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هُداهم ولكن عليه البلاغ . فالهُدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدي في قلوبهم ، وأما الهدى بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النَّبِيء ، ونظائر هذا في القرآن كثيرة . فالضمير رَاجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى وأشدّهم المشركون والمنافقون ، وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين ، روي أنّه كان لأسماء ابنةِ أبي بكر أمٌّ كافرة وجَدٌّ كافر فأرادت أسماء عام عمرة القضية أن تواسيهما بمال ، وأنّه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة ، فنهَى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الصدقة على الكفّار ، إلجاء لأولئك الكفّار على الدّخول في الإسلام ، فأنزل الله تعالى : { ليس عليك هداهم } الآيات ، أي هدى الكفّار إلى الإسلام ، أي فرخّص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفرة .
فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب . فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئاً عن نزول آيات الأمر بالإنفاق والصدقة ، فتكون الآيات المتقدمة سببَ السبب لنزول هذه الآية .
والمعنى أنْ ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد ، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء ؛ إذ لا هادي لمن يضلل الله ، وليس مثل هذا بميسّر للهُدى .
والخطاب في { ليس عليك هداهم } ظاهره أنّه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم . ويجوز أن يكون خطاباً لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول ، أي ليس عليك أيها المتردّد في إعطاء قريبك .
و ( على ) في قوله { عليك } للاستعلاء المجازي ، أي طلب فعل على وجه الوجوب . والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول ، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنّه أدّى واجب التبليغ ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيّها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء .
وتقديم الظرف وهو { عليك } على المسند إليه وهو { هُداهم } إذا أجرى على ما تقرّر في علم المعاني من أنّ تقديم المسند الذي حقّه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند ، وكان ذلك في الإثبات بيّناً لا غبار عليه نحو { لكم دينكم ولي ديني } [ الكافرون : 6 ] وقولِه : { لها ما كسبت عليها ما اكتسبت } [ البقرة : 286 ] ، فهو إذا وقع في سياق النفي غير بيّن لأنّه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيداً للحصر اقتضى أنّه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار ؛ لأنّ الجملة المكيّفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيَّدة نسبتُها بقيد الانحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها . فإذا دخل عليها النفي كان مقتضياً نفي النسبة المقيّدة ، أي نفي ذلك الانحصارِ ، لأنّ شأن النفي إذا توجّه إلى كلام مقيَّد أن ينْصَبّ على ذلك القيد . لكنّ أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سَوّوا فيها بين الإثبات كما ذكرنا وبين النفي نحْو { لا فيها غَوْل } [ الصافات : 47 ] ، فقد مثل به في « الكشاف » عند قوله تعالى : { لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] فقال : « قصد تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا » ، وقال السيد في شرحه هنالك « عُدّ قصراً للموصوف على الصفة ، أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعدّاه إلى عدم الحصول فيما يقابلها ، أو عَدمُ الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور » . وقد أحلتُ عند قوله تعالى : { لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] على هذه الآية هنا ، فبِنَا أن نبيِّن طريقة القصر بالتقديم في النفي ، وهي أنّ القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيداً لفظياً بحيث يتوجّه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي ، فنحو { لا فيها غول } يفيد قصر الغَول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد نفي قصر الغول على الكون في خمور الجنة . وإلى هذا أشار السيّد في شرح « الكشاف » عند قوله { لا ريب فيه } إذ قال « وبالجملة يجعل حرف النفي جزءاً أو حرفاً من حروف المسند أو المسند إليه » . وعلى هذا بنى صاحب « الكشاف » فجعل وجه أن لم يقدّمْ الظرفُ في قوله : { لا ريب فيه } كما قدم الظرف في قوله : { لا فيها غول } لأنّهُ لو أوّل لقُصد أنّ كتاباً آخر فيه الريب ، لا في القرآن ، وليس ذلك بمراد .
فإذا تقرر هذا فقوله : { ليس عليك هداهم } إذا أجرى على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك ، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب ، أي إبطال انتفاء كونه على الله ، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يُعتقد الأول ولا الثاني . فالوجه : إما أن يكون التقديم هنا لِمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري :
ما فيه من عيب سوى أنّه *** يوم النَّدى قِسمته ضيزى
بنفي كون هداهم حقاً على الرسول تهوينا للأمر عليه ، فأما الدلالة على كون ذلك مفوّضاً إلى الله فمن قوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } . وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أنّ إيجاد الإيمان في الكفّار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق ، فقُصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنّه على الله ، فيلزم من ذلك أنّه على الله ، أي مفوّض إليه .
وقوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهمّ إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء ، فمصَبُّ الاستدراك هو الصلة ، أعْني { من يشاء } ؛ أي فلا فائدة في إلجاء من لم يشأ الله هديه . والتقدير : ولكن هداهم بيد الله ، وهو يهدي من يشاء ، فإذا شاء أن يهديهم هداهم .
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } .
عطف على جملة { إن تبدوا الصدقات } [ البقرة : 271 ] ؛ وموقعها زيادة بيان فضل الصدقات كلّها ، وأنّها لما كانت منفعتها لنفس المتصدّق فليختر لنفسه ما هو خير ، وعليه أن يُكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها .
وقوله : { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } جملة حالية ، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر ، أي إنّما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلاّ ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلممٍ وكافر ، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتمَلين في الآية التي قبلها . ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي ، أي لا تنفقوا إلاّ ابتغاء وجه الله . وهذا الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد ، ولذلك خولف فيه أسلوب ما حفّ به من جملة { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وجملة وما تنفقوا من خير يوف إليكم } .
وقوله : { وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } عطف على التي قبلها لبيان أنّ جزاء النفقات بمقدارها وأنّ مَن نُقِص له من الأجر فهو الساعي في نقصه . وكُرّر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب ، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنّه قصد الخبر بمعنى الإنشاء ، أي النهي عن أن ينفقوا إلاّ لابتغاء وجه الله .
وتقديم { وأنتم } على الخَبَر الفعلي لمجرد التقوّي وزيادة التنبيه على أنّهم لا يُظلَمون ، وإنّما يَظْلمون أنفسهم .
وإنما جعلت هاته الأحكام جملاً مستقلاً بعضُها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيَّدة فائدتها بقيود جميع الجمل وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريراً للاهتمام بشأنه ، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني ، فتجري مجرى الأمثال ، وتتناقلها الأجيال .
وقد أخذ من الآيات الأخيرة على أحد التفسيرين جواز الصدقة على الكفّار ، والمراد الكفّار الذي يختلطون بالمسلمين غير مؤذين لهم وهم أهل العهد وأهل الذمّة والجيران . واتفق فقهاء الإسلام على جواز إعطاء صدقة التطوع للكافرين ، وحكمة ذلك أنّ الصدقة من إغاثة الملهوف والكافر من عباد الله ، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان ، ففي الحديث الصحيح : قالوا يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم لأجراً .
فقال : « في كل ذي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ » .
واتفق الفقهاء على أنّ الصدقة المفروضة أعني الزكاة لا تعطى للكفّار ، وحكمة ذلك أنّها إنّما فرضت لإقامة أوَد المسلمين ومواساتهم ، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معيّنة ، ففيه غنَى المسلمين ، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة . واختلفوا في صدقة الفطر ، فالجمهور ألحقوها بالصدقات المفروضة ، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوّع فأجاز إعطاءها إلى الكافر . ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر كان أشْبَه ، فإنّ العيد عيد المسلمين ، ولعله رآها صدقةَ شكر على القدرة على الصيام ، فكان المنظور فيها حال المتصدِّق لا حال المتصدَّق عليه . وقوله الجمهور أصح لأنّ مشروعيتها لكفاية فقراء المسلمين عن المسألة في يوم عيدهم وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالاً منهم في سائر المدة ، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين .