التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (272)

ثم ختمت السورة حديثها عن النفقة والمنفقين ببيان حسن عاقبة من يبذل ماله في سبيل الله ، وبيان صفات بعض المستحقين للصدقة ، وببيان أن هداية البشرإنما هي بيد الله- تعالى - وحده ، فقال - تعالى - :

{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن . . . }

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( 272 ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 273 ) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 274 )

قال القرطبي ما ملخصه : قوله - تعالى - : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } هذا الكلام متصل بذكر الصدقات ، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين . روى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة ، فلما أكثر فقراء المسلمين على من ليس من دين الإِسلام . وروى عن ابن عباس أنه قال : كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قريظة والنضير كانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا فنزلت الآية بسبب أولئك . ثم قال : قال علماؤنا : هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع ، وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، " أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم " .

والمعنى : ليس عليك يا محمد هداية من خالفك في دينك . ولكن الله - تعالى - يهدي من يشاء هداينه إلى نور الإِيمان ، وطريق الحق . وما دام الأمر كذلك فعليك وعلى أتباعك أن تعاملوا غيركم بما يوجبه عليكم إيمانكم من سماحة في الخلق ، وعطف على المحتاجين حتى ولو كانوا من المخالفين لكم في الدين .

وعلى هذا المعنى الذي يؤيده سبب النزول يكون الضمير في قوله : { هُدَاهُمْ } يعود على غير المسلمين .

ومن المفسرين من يرى أن الضمير في قوله : { هُدَاهُمْ } يعود إلى المسلمين المخاطبين في الآيات السابقة ، فيكون المعنى : لا يجب عليك أيها الرسول الكريم أن تجعل المسلمين جميعاً مهديين إلى الإِتيان بما أمروا به ومنتهين عما نهوا عنه من ترك المن والأذى والرياء في صدقتهم ، ولكن الله وحده هو الذي يهدي من يشاء هدايته إلى الاستجابة لتوجيهات هذا الدين الحنيف .

قال الآلوسي : وعلى هذا الرأي تكون الجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال . . ثم قال : " والذي يستدعيه سبب النزول رجوع ضمير { هُدَاهُمْ } إلى الكفار ، وحينئذ لا التفات ، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط . . . "

ثم حض - سبحانه - المؤمنين على الإِنفاق في وجوه الخير فقال : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } أي : ما تقدمونه من مال في وجوه البر - أيها المؤمنون - فإن نفعه سيعود عليكم بالسعادة في الدنيا ، وبالثواب الجزيل في الآخرة ، فكونوا أسخياء في الإِحسان إلى الفقراء ، وابتعدوا عن وسوسة الشيطان الذي { يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } و " ما " شرطية جازمة لتنفقوا ، وهي منتصبة به على المفعولية ، و " من " للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لفعل الشرط والتقدير : أي شيء تنفقوا كائنا من المال فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيرها .

قال الفخر الرازي ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله } يحتمل وجوها :

الأول : أن يكون المعنى : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله ، فقد علم الله هذا من قلوبكم ، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر ، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإِنفاق عليهم .

الثاني : أن هذا وإن كان ظاهره خبراً إلا أن معناه نهى أي : ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله .

الثالث : أن قوله : { وَمَا تُنْفِقُونَ } أي ولا تكونوا منفقين مستحقين الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله . وفي ذكر الوجه تشريف عظيم لأنك إذا قلت : فعلت هذا الشيء لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك : فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ ، وأيضاً فإن قولك : فعلت هذا الفعل لوجهه يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي : أن ما تنفقونه من خير - أيها المؤمنون ستعود عليكم ثماره ومنافعه في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فإنكم بسبب هذا الانفاق تزكو أموالكم ، وتحسن سيرتكم بين الناس ، وأما في الآخرة فإنكم تنالون من خالقكم ورازقكم أجزل الثواب ، وأفضل الدرجات .

وقوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي لا تنقصون شيئاً مما وعدكم الله به على نفقتكم في سبيله .

قال الجمل : وهاتان الجملتان أي قوله - تعالى - { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } وقوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } تأكيد للجملة الشرطية الأولى وهي قوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } وقوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الضمير في { إِلَيْكُمْ } فالعامل فيها { يُوَفَّ } وهي تشبه الحال المؤكدة لأن معناها مفهوم من قوله : { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } لأنهم إذا وفقوا حقوقهم لم يظلموا . ويجوز أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب أخبرهم فيها أنه لا يقع لهم ظلم فيندرج فيه توفية أجورهم بسبب إنفاقهم في طاعة الله - تعالى - اندراجاً أولياً .

هذا ، والذي يتدبر هذه الآية الكريمة يراها من أجمع الآيات التي وردت في الحض على بذل المال في وجوه الخير ، فقدر كرر فيها فعل { تُنْفِقُواْ } ثلاث مرات لمزيد الاهتمام بمدلوله ، وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإِنفاق والثواب ، وجاءت كل جملة منها مستقلة ببعض الأحكام لكي يسهل حفظها وتأملها فتجري على الألسنة مجرى الأمثال وتتناقلها الأمم والأجيال .

ثم بعد هذا التحريض الحكيم على بذل الأموال في وجوه الخير ، خص - سبحانه - بالذكر طائفة من المؤمنين هي أولى الناس بالعون والمساعدة ، ووصف هذه الطائفة بست صفات من شأنها أن تحمل العقلاء على المسارعة في إكرام أفرادها وسد حاجتهم .