المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (272)

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( 272 )

روي عن سعيد بن جبير في سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم » ، فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام( {[2667]} ) ، وذكر النقاش أن النبي عليه السلام أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال : أعطني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ليس لك في صدقة المسلمين من شيء » ، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية ، { ليس عليك هداهم } فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه ، ثم نسخ الله ذلك بآية { إنما الصدقات }( {[2668]} ) [ التوبة : 60 ] وروي عن ابن عباس أنه كان ناس من الأنصار لهم قرابات في بني قريظة والنضير ، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، وحكى بعض المفسرين أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ، ثم امتنعت من ذلك لكونه كافراً ، فنزلت الآية في ذلك ، وذكر الطبري أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين ، فقال الله : { ليس عليك هداهم } قال أبو محمد : وهذه الصدقة التي أبيحت عليهم حسبما تضمنته هذه الآثار( {[2669]} ) إنما هي صدقة التطوع . وأما المفروضة فلا يجزي دفعها لكافر( {[2670]} ) ، وهذا الحكم متصور للمسلمين اليوم مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين . قال ابن المنذر أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئاً ، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك ، ولم يذكر خلافاً ، وقال المهدوي رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة بهذه الآية .

قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود عندي( {[2671]} ) ، والهدى الذي ليس على محمد صلى الله عليه وسلم هو خلق الإيمان في قلوبهم ، وأما الهدى الذي هو الدعاء فهو عليه ، وليس بمراد في هذه الآية ، ثم أخبر تعالى أنه هو : { يهدي من يشاء } أي يرشده( {[2672]} ) ، وفي هذا رد على القدرية وطوائف المعتزلة ، ثم أخبر أن نفقة المرء تأجراً( {[2673]} ) إنما هي لنفسه فلا يراعى حيث وقعت( {[2674]} ) ، ثم بيّن تعالى أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله ، هذا أحد التأويلات في قوله تعالى : { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } وفيه تأويل آخر وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجه الله ، فهو خبر منه لهم فيه تفضيل ، وعلى التأويل الآخر هو اشتراط عليهم ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة ، ونصب قوله { ابتغاء } هو على المفعول من أجله ، ثم ذكر تعالى أن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ، والمعنى في الآخرة ولا يبخسون منه شيئاً ، فيكون ذلك أبخس ظلماً لهم ، وهذا هو بيان قوله : { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم }( {[2675]} ) والخير في هذه الآية المال لأنه اقترن بذكر الإنفاق ، فهذه القرينة تدل على أنه المال ، ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال ، نحو قوله تعالى : { خيراً مستقراً }( {[2676]} ) [ الفرقان : 24 ] وقوله تعالى : { مثقال ذرة خيراً يره }( {[2677]} ) [ الزلزلة : 7 ] إلى غير ذلك ، وهذا الذي قلناه تحرز من قول عكرمة : كل خير في كتاب الله فهو المال .


[2667]:- ما ذكره ابن عطية هنا مبني على أن الآية تتصل بما قبلها من الصدقات فتكون ظاهرة في صرف الصدقات إلى الكفار، وهو ما عليه ابن عطية رحمه الله، وقيل: إن هذه الآية ابتداء كلام، والمعنى: ليس عليك أن تهديهم إلى الإتيان بما أُمروا به، والانتهاء عما نهوا عنه: كالمَنّ والأذى، والإنفاق من الخبيث، والبخل، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو ما عليه جماعة من المفسرين، والحديث الذي روي في هذا المجال مطعون فيه فقد قال الإمام ابن العربي رحمه الله: «هذا حديث باطل».
[2668]:- هي قوله تعالى في سورة التوبة [إنما الصدقات للفقراء]... الخ).
[2669]:- أي الآثار الأربعة السابقة.
[2670]:- لقوله صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم)، وأما عصاة المسلمين فلا خلاف أن صدقة الفرض تصرف إليهم لدخولهم في اسم المسلمين، إلا أنه إذا كان المسلم يترك أركان الإسلام من صلاة وصيام فلا تصرف إليه الصدقة حتى يتوب، انظر ابن العربي في الأحكام.
[2671]:- أي بالإجماع الذي ذكره ابن المنذر، وبغيره من الآثار.
[2672]:- أي يوفقه إلى ذلك، فالهداية المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن كانت مثبتة فمعناها الدعوة، وإن كانت منفية فمعناها خلق الهدى في القلب، وهذ لا يكون إلا لله عز وجل.
[2673]:- أي طلبا للأجر.
[2674]:- في يد مسلم أو كافر، برٍّ أو فاجر، مستحق أو غير مستحق، وسند هذا حديث الصحيحين في الذي تصدق ووضع صدقته في يد زانية أولا، وفي يد غني ثانيا، وفي يد سارق ثالثا، فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت لأن المرء يثاب على قصده وابتغاء وجه الله.
[2675]:- يعني أن قوله تعالى: [وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تُظلمون] بيان وتفسير لقوله تعالى: [وما تنفقوا من خير فلأنفسكم] واعلم أن قوله تعالى: [وما تنفقوا من خير فلأنفسكم] [وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله] [وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون] ليست من باب التكرار والتأكيد، بل لكل واحدة من هذه الآيات وصف يخصه ويميزه.
[2676]:- من قوله تعالى في سورة الفرقان – الآية (24): [أصحاب الجنّة يومئذ خير مستقرا وأحسن مَقيلا].
[2677]:- من قوله تعالى في سورة الزلزلة – الآية (7): [فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره].