قوله تعالى : { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } ، بسط على واحد ، وضيق على الآخر ، وقلل وكثر . { فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } ، من العبيد ، { فهم فيه سواء } ، أي : حتى يستووا هم وعبيدهم في ذلك . يقول الله تعالى : لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقهم سواء ، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني . يلزم به الحجة على المشركين . قال قتادة : هذا مثل ضربه الله عز وجل ، فهل منكم أحد يشركه مملوكه في زوجته وفراشه وماله ؟ أفتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ { أفبنعمة الله يجحدون } ، بالإشراك به ، وقرأ أبو بكر بالتاء ؛ لقوله { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } ، والآخرون بالياء ؛ لقوله : { فهم فيه سواء } .
واللمسة الثانية في الرزق . والتفاوت فيه ملحوظ . والنص يرد هذا التفاوت إلى تفضيل الله لبعضهم على بعض في الرزق . ولهذا التفضيل في الرزق أسبابه الخاضعة لسنة الله . فليس شيء من ذلك جزافا ولا عبثا . وقد يكون الإنسان مفكرا عالما عاقلا ، ولكن موهبته في الحصول على الرزق وتنميته محدودة ، لأن له مواهب في ميادين أخرى . وقد يبدو غبيا جاهلا ساذجا ، ولكن له موهبة في الحصول على المال وتنميته .
والناس مواهب وطاقات . فيحسب من لا يدقق أن لا علاقة للرزق بالمقدرة ، وإنما هي مقدرة خاصة في جانب من جوانب الحياة . وقد تكون بسطة الرزق ابتلاء من الله ، كما يكون التضييق فيه لحكمة يريدها ويحققها بالابتلاء . . وعلى أية حال فإن التفاوت في الرزق ظاهرة ملحوظة تابعة لاختلاف في المواهب - وذلك حين تمتنع الأسباب المصطنعة الظالمة التي توجد في المجتمعات المختلة - والنص يشير إلى هذه الظاهرة التي كانت واقعة في المجتمع العربي ؛ ويستخدمها في تصحيح بعض أوهام الجاهلية الوثنية التي يزاولونها ، والتي سبقت الإشارة إليها . ذلك حين كانوا يعزلون جزءا من رزق الله الذي أعطاهم ويجعلونه لآلهتهم المدعاة . فهو يقول عنهم هنا : إنهم لا يردون جزءا من أموالهم على ما ملكت أيمانهم من الرقيق . [ وكان هذا أمرا واقعا قبل الإسلام ] ليصبحوا سواء في الرزق . فما بالهم يردون جزءا من مال الله الذي رزقهم إياه على آلهتهم المدعاة ؟ ( أفبنعمة الله يجحدون ؟ ) فيجازون النعمة بالشرك ، بدل الشكر للمنعم المتفضل الوهاب ؟ .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ فَضّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىَ بَعْضٍ فِي الْرّزْقِ فَمَا الّذِينَ فُضّلُواْ بِرَآدّي رِزْقِهِمْ عَلَىَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والله أيها الناس فضّل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا ، فما الذين فضّلهم الله على غيرهم بما رزقهم { بِرَادّي رِزْقهِمْ على ما مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ } ، يقول : بمشركي مماليكِهم فيما رزقهم من الأموال والأزواج . فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ، يقول : حتى يستووا هم في ذلك وعبيدهم ، يقول تعالى ذكره : فهم لا يرضَون بأن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء ، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني . وهذا مَثَل ضربه الله تعالى ذكره للمشركين بالله . وقيل : إنما عَنَى بذلك الذين قالوا : إن المسيح ابن الله من النصارى . وقوله : أفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ يقول تعالى ذكره : أفبنعمة الله التي أنعمها على هؤلاء المشركين من الرزق الذي رزقهم في الدنيا ، يجحدون بإشراكهم غير الله من خلقه في سلطانه ومُلكه ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَاللّهُ فَضّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرّزْقِ فَمَا الّذِينَ فُضّلُوا بِرَادّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ } ، يقول : لم يكونوا يشركون عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ؟ فذلك قوله : { أفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : هذه الآية في شأن عيسى ابن مريم ، يعني بذلك نفسه ، إنما عيسى عبد ، فيقول الله : والله ما تشركون عبيدكم في الذي لكم ، فتكونوا أنتم وهم سواء ، فكيف ترضَون لي بما لا ترضون لأنفسكم ؟
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { بِرَادّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ } ، قال : مثل آلهة الباطل مع الله تعالى ذكره .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَاللّهُ فَضّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرّزْقِ فَمَا الّذِينَ فُضّلُوا بِرَادّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أفَبِنَعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } وهذا مثل ضربه الله ، فهل منكم من أحد شارك مملوكه ، في زوجته ، وفي فراشه ، فتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ فإن لم ترض لنفسك هذا ، فالله أحقّ أن ينزّه منه من نفسك ، ولا تعدل بالله أحدا من عباده وخلقه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { فَمَا الّذِينَ فُضّلُوا بِرَادّي رِزْقِهِمْ على ما مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ } قال : هذا الذي فضل في المال والولد ، لا يشرك عبده في ماله وزوجته . يقول : قد رضيت بذلك لله ولم ترض به لنفسك ، فجعلت لله شريكا في ملكه وخلقه .
{ والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق } ، فمنكم غني ومنكم فقير ، ومنكم موال يتولون رزقهم ورزق غيرهم ، ومنكم مماليك حالهم على خلاف ذلك . { فما الذين فُضّلوا برادّي رزقهم } ، بمعطي رزقهم . { على ما ملكت أيمانهم } ، على مماليكهم ، فإنما يردون عليهم رزقهم الذي جعله الله في أيديهم . { فهو فيه سواء } ، فالموالي والمماليك سواء في أن الله رزقهم ، فالجملة لازمة للجملة المنفية أو مقررة لها ، ويجوز أن تكون واقعة موقع الجواب ، كأنه قيل : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا في الرزق ، على أنه رد وإنكار على المشركين ، فإنهم يشركون بالله بعض مخلوقاته في الألوهية ، ولا يرضون أن يشاركهم عبيدهم . فيما أنعم الله عليهم فيساورهم فيه . { أفبنعمة الله يجحدون } ، حيث يتخذون له شركاء ، فإنه يقتضي : أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم ، ويجحدوا أنه من عند الله ، أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعدما أنعم الله عليهم بإيضاحهم ، والباء لتضمن الجحود معنى الكفر . وقرأ أبو بكر : " تجحدون " ، بالتاء لقوله : { خلقكم } ، و{ فضل بعضكم } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.