قوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } ، ليس معنى الكل العموم ، وهو كقوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء } [ النمل – 23 ] . { فاسلكي سبل ربك ذللاً } . قيل : هي نعت الطرق ، يقول : هي مذللة للنحل سهلة المسالك . قال مجاهد : لا يتوعر عليها مكان سلكته . وقال آخرون : الذلل نعت النحل ، أي : مطيعة منقادة بالتسخير . يقال : إن أربابها ينقلونها من مكان إلى مكان ، ولها يعسوب إذا وقف وقفت ، وإذا سار سارت . { يخرج من بطونها شراب } ، يعني : العسل { مختلف ألوانه } ، أبيض وأحمر وأصفر . { فيه شفاء للناس } ، أي : في العسل . وقال مجاهد : أي في القرآن ، والأول أولى .
أنبأنا إسماعيل بن عبد القاهر ، حدثنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن مثنى ، أنبأنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد الخدري قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسقه عسلاً ، فسقاه ثم جاء فقال : إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث مرات ، ثم جاء الرابعة فقال : اسقه عسلاً ، قال : قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق الله وكذب بطن أخيك ، فسقاه فبرأ " . قال ابن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور . وروي عنه أنه قال : عليكم بالشفاءين : القرآن والعسل . { إن في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون } ، فيعتبرون .
والنص على أن العسل فيه شفاء للناس قد شرحه بعض المختصين في الطب . شرحا فنيا . وهو ثابت بمجرد نص القرآن عليه . وهكذا يجب أن يعتقد المسلم استنادا إلى الحق الكلي الثابت في كتاب الله ؛ كما أثر عن رسول الله .
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله [ ص ] فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال له رسول الله [ ص ] : " اسقه عسلا " فسقاه عسلا . ثم جاء فقال : يا رسول الله سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . قال : " اذهب فاسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقا . فقال رسول الله [ ص ] " صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا فبرى ء .
ويروعنا في هذا الأثر يقين الرسول [ ص ] أمام ما بدا واقعا عمليا من استطلاق بطن الرجل كلما سقاه أخوه . وقد انتهى هذا اليقين بتصديق الواقع له في النهاية . وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية وبكل حقيقة وردت في كتاب الله . مهما بدا في ظاهر الأمر أن ما يسمى الواقع يخالفها . فهي أصدق من ذلك الواقع الظاهري ، الذي ينثني في النهاية ليصدقها . .
ونقف هنا أمام ظاهرة التناسق في عرض هذه النعم : إنزال الماء من السماء . وإخراج اللبن من بين فرث ودم . واستخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب . والعسل من بطون النحل . . إنها كلها أشربة تخرج من أجسام مخالفة لها في شكلها . ولما كان الجو جو أشربة فقد عرض من الأنعام لبنها وحده في هذا المجال تنسيقا لمفردات المشهد كله . وسنرى في الدرس التالي أنه عرض من الأنعام جلودها وأصوافها وأوبارها لأن الجو هناك جو أكنان وبيوت وسرابيل فناسب أن يعرض من الأنعام جانبها الذي يتناسق مع مفردات المشهد . . وذلك أفق من آفاق التناسق الفني في القرآن .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنّاسِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم كلي أيتها النحل من الثمرات ، فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ، يقول : فاسلكي طرق ربك ذُلُلاً ، يقول : مُذَلّلَةً لك ، والذّلُل : جمع ذَلُول .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً ، قال : لا يتوعّر عليها مكان سلكته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً ، قال : طُرُقا ذُلُلا ، قال : لا يتوعّر عليها مكان سلكته .
وعلى هذا التأويل الذي تأوّله مجاهد ، الذلل من نعت السبل .
والتأويل على قوله : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً ، الذّلُل لك : لا يتوعر عليكِ سبيل سلكتيه ، ثم أسقطت الألف واللام ، فنصب على الحال .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً : أي مطيعة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ذُلُلاً قال : مطيعة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً قال : الذلول : الذي يُقاد ويُذهب به حيث أراد صاحبه ، قال : فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها ، ويذهبون وهي تتبعهم . وقرأ : أوَلمْ يَرَوْا أنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعاما فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ وَذلّلْناها لَهُمْ . . . . الاَية .
فعلى هذا القول ، الذّلُل من نعت النحل ، وكلا القولين غير بعيد من الصواب في الصحة وجهان مخرجان ، غير أنا اخترنا أن يكون نعتا للسّبل ؛ لأنها إليها أقرب .
وقوله : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ ، يقول تعالى ذكره : يخرج من بطون النحل شراب ، وهو العسل ، مختلف ألوانه ؛ لأن فيها أبيض وأحمر وأسحر وغير ذلك من الألوان .
قال أبو جعفر : «أسحر » : ألوان مختلفة ، مثل أبيض يضرب إلى الحمرة .
وقوله : فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، اختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التي في قوله : فِيهِ ، فقال بعضهم : عادت على القرآن ، وهو المراد بها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن ليث ، عن مجاهد : فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ قال : في القرآن شفاء .
وقال آخرون : بل أريد بها العسل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، ففيه شفاء كما قال الله تعالى من الأدواء ، وقد كان ينهي عن تفريق النحل وعن قتلها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر أن أخاه اشتكى بطنه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلاً » ثم جاءه فقال : ما زاده إلا شدة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلاً ، فَقَدْ صَدَقَ اللّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ » فسقاه ، فكأنما نُشِط من عِقال .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : شفاءان : العسل شفاء من كلّ داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، العسل .
وهذا القول ، أعني قول قتادة ، أولى بتأويل الآية ؛ لأن قوله : فِيهِ ، في سياق الخبر عن العسل ، فأن تكون الهاء من ذكر العسل ، إذ كانت في سياق الخبر عنه أولى من غيره .
وقوله : إنّ فِي ذلكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ ، يقول تعالى ذكره : إن في إخراج الله من بطون هذه النحل : الشراب المختلف ، الذي هو شفاء للناس ، لدلالة وحجة واضحة على من سخّر النحل وهداها لأكل الثمرات التي تأكل ، واتخاذها البيوت التي تنحت من الجبال والشجر والعروش ، وأخرج من بطونها ما أخرج من الشفاء للناس ، أنه الواحد الذي ليس كمثله شيء ، وأنه لا ينبغي أن يكون له شريك ولا تصحّ الألوهة إلا له .
{ ثم كُلي من كل الثمرات } ، من كل ثمرة تشتهينها مرها وحلوها . { فاسلُكي } ، ما أكلت . { سُبل ربك } ، في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك ، أو { فاسلكي } الطرق التي ألهمك في عمل العسل ، أو فاسلكي راجعة إلى بيوتك { سبل ربك } ، لا تتوعر عليك ولا تلتبس . { ذُللاً } ، جمع ذلول ، وهي حال من السبل ، أي : مذللة ، ذللها الله تعالى وسهلها لك ، أو من الضمير في اسلكي ، أي : وأنت ذلل منقادة لما أمرت به . { يخرج من بطونها } ، كأنه عدل به عن خطاب النحل إلى خطاب الناس ؛ لأنه محل الإنعام عليهم ، والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم . { شراب } ، يعني : العسل ؛ لأنه مما يشرب ، واحتج به من زعم أن النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة فتستحيل في بطنها عسلا ، ثم تقيء ادخارا للشتاء ، ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاء طلية حلوة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار ، وتضعها في بيوتها ادخارا ، فإذا اجتمع في بيوتها شيء كثير منها كان العسل ، فسر البطون بالأفواه . { مختلف ألوانه } ، أبيض وأصفر وأحمر وأسود ، بحسب اختلاف سن النحل والفصل . { فيه شفاء للناس } ، إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية ، أو مع غيره كما في سائر الأمراض ؛ إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه ، مع أن التنكير فيه مشعر بالتبعيض ، ويجوز أن يكون للتعظيم . وعن قتادة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي يشتكي بطنه فقال : " اسقه العسل " ، فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع فقال : " اذهب واسقه عسلا ، فقد صدق الله وكذب بطن أخيك " . فسقاه فشفاه الله تعالى فبرأ فكأنما أنشط من عقال . وقيل : الضمير للقرآن ، أو لما بين الله من أحوال النحل . { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } ، فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر ، علم قطعا أنه لا بد له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه .