قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } . اختلفوا في معنى التوفي ها هنا ، قال الحسن ، والكلبي ، وابن جريح : إني قابضك ورافعك من الدنيا إلي من غير موت يدل عليه قوله تعالى ( فلما توفيتني ) أي قبضتني إلى السماء وأنا حي ، لأن قومه إنما تنصروا بعد رفعه بعد رفعه لا بعد موته ، فعلى هذا التوفي تأويلان ، أحدهما ؛ إني رافعك إلى وافياً ، لم ينالوا منك شيئاً ، من قولهم : توفيت منه ، كذا وكذا ، واستوفيته إذا أخذته تاماً ، والآخر : أني متسلمك من قولهم : توفيت منه كذا أي تسلمته ، وقال الربيع بن انس : المراد بالتوفي النوم ، وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائماً إلى السماء ، معناه أني منيمك ورافعك إلي ، كما قال الله تعالى ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) أي ينيمكم ؛ وقال بعضهم : المراد بالتوفي الموت ، روى علي بن طلحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه أني مميتك يدل عليه قوله تعالى ( قل يتوفاكم ملك الموت ) فعلى هذا له تأويلان : أحدهما ما قاله وهب ، توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ، ثم أحياه ، ثم رفعه الله إليه ، وقال محمد بن إسحاق : إن النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه . والآخر ما قاله الضحاك وجماعة : إن في هذه الآية تقديماً وتأخيراً معناه إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك من السماء .
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفس محمد بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عادلاً يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد " .
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه السلام قال : " وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويهلك الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون " .
وقيل للحسين بن الفضل هل تجد نزول عيسى في القرآن ؟ قال نعم . قوله ( وكهلاً ) وهولم يكتهل في الدنيا ، وإنما معناه وكهلاً بعد نزوله من السماء .
قوله تعالى : { ومطهرك من الذين كفروا } أي مخرجك من بينهم ومنجيك منهم .
قوله تعالى : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } . قال قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي : هم أهل الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينه في التوحيد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم فوق الذين كفروا ظاهرين قاهرين بالعزة والمنعة والحجة ، وقال الضحاك : يعني الحواريين فوق الذين كفروا ، وقيل : هم أهل الروم ، وقيل :أراد بهم النصارى ، أي فهم فوق اليهود إلى يوم القيامة ، فإن اليهود قد ذهب ملكهم وملك النصارى دائم إلى قريب من قيام الساعة ، فعلى هذا يكون الإتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا إتباع الدين .
قوله تعالى : { ثم إلي مرجعكم } في الآخرة .
قوله تعالى : { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } من الدين وأمر عيسى .
لقد أرادوا صلب عيسى - عليه السلام - وقتله . وأراد الله أن يتوفاه ، وأن يرفعه إليه ، وأن يطره من مخالطة الذين كفروا والبقاء بينهم وهم رجس ودنس ، وأن يكرمه فيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . . وكان ما أراده الله . وأبطل الله مكر الماكرين :
( إذ قال الله : يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) .
فأما كيف كانت وفاته ، وكيف كان رفعه . . فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله . ولا طائل وراء البحث فيها . لا في عقيدة ولا في شريعة . والذين يجرون وراءها ، ويجعلونها مادة للجدل ، ينتهي بهم الحال إلى المراء ، وإلى التخليط ، وإلى التعقيد . دون ما جزم بحقيقة ، ودون ما راحة بال في أمر موكول إلى علم الله .
وأما أن الله جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . . فلا يصعب القول فيه . فالذين اتبعوه هم الذين يؤمنون بدين الله الصحيح . . الإسلام . . الذي عرف حقيقته كل نبي ، وجاء به كل رسول ، وآمن به كل من آمن حقا بدين الله . . وهؤلاء فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة في ميزان الله . . كما أنهم كذلك في واقع الحياة كلما واجهوا معسكر الكفر بحقيقة الإيمان ، وحقيقة الأتباع . . ودين الله واحد . وقد جاء به عيسى بن مريم كما جاء به من قبله ومن بعده كل رسول . والذين يتبعون محمدا [ ص ] هم في الوقت ذاته اتبعوا موكب الرسل كلهم . من لدن آدم - عليه السلام - إلى آخر الزمان .
وهذا المفهوم الشامل هو الذي يتفق مع سياق السورة ، ومع حقيقة الدين كما يركز عليها هذا السياق .
فأما نهاية المطاف للمؤمنين والكافرين ، فيقررها السياق في صدد إخبار الله لعيسى عليه السلام :
{ إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
يعني بذلك جل ثناؤه : ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتل عيسى مع كفرهم بالله ، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم ، إذ قال الله جل ثناؤه : { إنّي مُتَوَفّيكَ } ف«إذْ » صلة من قوله : { وَمَكَرَ اللّهُ } يعني : ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى : { إنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ } فتوفاه ورفعه إليه .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الوفاة التي ذكرها الله عزّ وجلّ في هذه الاَية ، فقال بعضهم : هي وفاة نوم ، وكان معنى الكلام على مذهبهم : إني مُنِيمُك ، ورافعك في نومك . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { إنّي مُتَوَفّيكَ } قال : يعني وفاة المنام : رفعه الله في منامه . قال الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود : «إِنّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ ، وَإِنّهُ رَاجِعٌ إِلَيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ » .
وقال آخرون : معنى ذلك : إني قابضك من الأرض ، فرافعك إليّ ، قالوا : ومعنى الوفاة : القبض ، لما يقال : توفيت من فلان ما لي عليه ، بمعنى : قبضته واستوفيته . قالوا : فمعنى قوله : { إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ } : أي قابضك من الأرض حيا إلى جواري ، وآخذك إلى ما عندي بغير موت ، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب ، عن مطر الورّاق في قول الله : { إنّي مُتَوَفّيكَ } قال : متوفيك من الدنيا ، وليس بوفاة موت .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { إنّي مُتَوَفّيكَ } قال : متوفيك من الأرض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { إنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } قال : فرفعه إياه إليه ، توفيه إياه ، وتطهيره من الذين كفروا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح أن كعب الأحبار ، قال : ما كان الله عزّ وجلّ ليميت عيسى ابن مريم ، إنما بعثه الله داعيا ومبشرا يدعو إليه وحده ، فلما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذّبه ، شكا ذلك إلى الله عزّ وجلّ ، فأوحى الله إليه : { إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ } وليس من رفعته عندي ميتا ، وإني سأبعثك على الأعور الدجال ، فتقتله ، ثم تعيش بعد ذلك أربعا وعشرين سنة ، ثم أميتك ميتة الحيّ . قال كعب الأحبار : وذلك يصدّق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : «كيفَ تَهلِكُ أمةٌ أنَا فِي أوّلهَا ، وَعِيسَى فِي آخِرِهَا ؟ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : يا عيسى إني متوفيك : أي قابضك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ } قال : متوفيك : قابضك ، قال : ومتوفيك ورافعك واحد . قال : ولم يمت بعد حتى يقتلَ الدجال ، وسيموت ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ : { وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً } قال : رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلاً ، قال : وينزل كهلاً .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قول الله عزّ وجلّ : { يا عِيسَى إنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إليّ } . . . الاَية كلها ، قال : رفعه الله إليه ، فهو عنده في السماء .
وقال آخرون : معنى ذلك : إني متوفيك وفاة موت . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّي مُتَوَفّيكَ } يقول : إني مميتك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال : توفي الله عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار ، ثم أحياه الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : إذ قال الله يا عيسى ، إني رافعك إليّ ، ومطهرك من الذين كفروا ، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا . وقال : هذا من المقدّم الذي معناه التأخير ، والمؤخر الذي معناه التقديم .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال : معنى ذلك : إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ ، لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الدّجّالَ » ثُمّ يَمْكُثُ فِي الأرْض مُدّةً ذَكَرَها اختلفت الرواية في مبلغها ، ثم يموت ، فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن حنظلة بن عليّ الأسلميّ ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لَيُهْبِطنّ اللّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ حَكَما عَدْلاً وَإِمَاما مُقْسِطا ، يَكْسِرُ الصّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ ، وَيَضَعُ الجِزْيَةَ ، وَيُفِيضُ المالُ حتى لا يَجِدَ مَنْ يَأْخُذُهُ ، وَلَيُسْلَكَنّ الرّوْحَاءَ حاجّا أَوْ مُعْتَمِرا ، أَوْ يَدِينُ بِهِمَا جَمِيعا » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الأنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لعَلاّتٍ ، أمّهاتُهُمْ شَتّى ، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ ، وَأنا أَوْلَى النّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، لأنّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيّ ، وَإِنّهُ خَلِيفَتِي على أُمّتِي ، وإِنّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ ، فَإِنّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الخلْقِ إلى الحُمْرَةِ وَالبَيَاضِ سَبْطُ الشّعْرِ كأنّ شَعْرَهُ يَقْطُرُ ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ بَيْنَ مُمَصّرَتَيْنِ ، يَدُقّ الصّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ ، وَيُفِيضُ المَالُ ، وَيُقَاتِلُ النّاسَ على الإسْلاَمِ حتى يُهْلِكَ اللّهُ فِي زَمَانِهِ المِلَلَ كُلّها ، وَيُهْلِكَ اللّهُ فِي زَمَانِهِ مَسِيخَ الضّلاَلَةِ الكَذّابَ الدّجّالَ وَتَقَعُ فِي الأرْضِ الأمَنَةُ حتى تَرْتَعَ الأسُودُ مَعَ الإبِلِ ، وَالنّمْرُ مَعَ البَقَرِ ، وَالذّئابُ مَعَ الغَنَمِ ، وَتَلْعَبُ الغِلْمَانُ بالحَيّاتِ ، لاَ يَضُرّ بَعْضُهُمْ بَعْضا ، فَيَثْبُتُ فِي الأَرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً ، ثُمّ يُتَوَفّى وَيُصَلّي المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَيَدْفِنُونَهُ » .
قال أبو جعفر : ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عزّ وجلّ لم يكن بالذي يميته ميتة أخرى ، فيجمع عليه ميتتين ، لأن الله عزّ وجلّ إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يميتهم ، ثم يحييهم ، كما قال جل ثناؤه¹ { اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ ثُمّ رَزَقَكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْييكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْء } .
فتأويل الاَية إذا : قال الله لعيسى : يا عيسى إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ ، ومطهرك من الذين كفروا ، فجحدوا نبوتك . وهذا الخبر وإن كان مخرجه مخرج خبر ، فإن فيه من الله عز وجل احتجاجا على الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من وفد نجران ، بأن عيسى لم يقتل ولم يصلب كما زعموا ، وأنهم واليهود الذين أقروا بذلك وادعوا على عيسى كَذَبةٌ في دعواهم وزعمهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ثم أخبرهم يعني الوفد من نجران وردّ عليهم فيما أخبروا هم واليهود بصلبه ، كيف رفعه وطهره منهم ، فقال : { إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ } .
وأما مطهرك من الذين كفروا ، فإنه يعني منظّفك ، فمخلّصك ممن كفر بك وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل غيرها . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } قال : إذ همّوا منك بما همّوا .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن ، في قوله : { وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } قال : طهره من اليهود والنصارى والمجوس ، ومن كفار قومه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } .
( يعني بذلك جل ثناؤه : وجاعل الذين اتبعوك على منهاجك وملتك من الإسلام وفطرته فوق الذين جحدوا نبوتك ، وخالفوا بسبيلهم جميع أهل الملل ، فكذبوا بما جئت به ، وصدوا عن الإقرار به ، فمصيرهم فوقهم ظاهرين عليهم . ) كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } ثم ذكر نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } ثم ذكر نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } قال : ناصر من اتبعك على الإسلام على الذين كفروا إلى يوم القيامة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } أما الذين اتبعوك ، فيقال : هم المؤمنون وليس هم الروم .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفيّ ، عن عباد ، عن الحسن : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } قال : جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، قال : المسلمون من فوقهم ، وجعلهم أعلى ممن ترك الإسلام إلى يوم القيامة .
وقال آخرون : ومعنى ذلك : وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : { وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } قال : الذين كفروا من بني إسرائيل . { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ } قال : الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم ، { فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا } النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة ، قال : فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب ، هم في البلدان كلها مستذلّون .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ إِليّ مَرْجِعُكُمْ فأحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : { ثمّ إليّ } ثم إلى الله أيها المختلفون في عيسى ، { مَرْجِعُكُمْ } يعني مصيركم يوم القيامة ، { فأحْكُمْ بَيْنَكُمْ } يقول : فأقضي حينئذٍ بين جميعكم في أمر عيسى بالحق فيما كنتم فيه تختلفون من أمره . وهذا من الكلام الذي صرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة ، وذلك أن قوله : { ثُمّ إِليّ مَرْجِعُكُمْ } إنما قصد به الخبر عن متبعي عيسى والكافرين به .
وتأويل الكلام : وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، ثم إليّ مرجع الفريقين : الذين اتبعوك ، والذين كفروا بك ، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون . ولكن ردّ الكلام إلى الخطاب لسَبُوقِ القول على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج على وجه الحكاية ، كما قال : { حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } .
{ إذ قال الله } ظرف لمكر الله أو خير الماكرين ، أو المضمر مثل وقع ذلك . { يا عيسى إني متوفيك } أي مستوفي أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمى ، عاصما إياك من قتلهم ، أو قابضك من الأرض من توفيت مالي ، أو متوفيك نائما إذ روي أنه رفع نائما ، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت . وقيل أماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى . { ورافعك إلي } إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي . { ومطهرك من الذين كفروا } من سوء جوازهم أو قصدهم { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } يعاونهم بالحجة أو السيف في غالب الأمر ، ومتبعوه من آمن بنبوته من المسلمين والنصارى وإلى الآن لم تسمع غلبة لليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة . { ثم إليّ مرجعكم } الضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام ومن تبعه ومن كفر به ، وغلب المخاطبين على الغائبين . { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين .