قوله تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه } ، قرأ نافع { ميتاً } ، { ولحم أخيه ميتاً } [ الحجرات :12 ] و{ الأرض الميتة أحييناها } [ يس :33 ] بالتشديد فيهن ، وقرأ الآخرون بالتخفيف { فأحييناه } ، أي : كان ضالاً فهديناه ، كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان . قوله تعالى : { وجعلنا له نوراً } ، يستضيء به .
قوله تعالى : { يمشي به في الناس } ، على قصد السبيل ، قيل : النور هو الإسلام ، لقوله تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] ، وقال قتادة : هو كتاب الله ، بينه من الله مع المؤمن ، بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي .
قوله تعالى : { كمن مثله في الظلمات } ، المثل صلة ، أي : كمن هو في الظلمات .
قوله تعالى : { ليس بخارج منها } ، يعني : من ظلمة الكفر .
قيل : نزلت هذه الآية في رجلين بأعيانهما ، ثم اختلفوا فيهما ، قال ابن عباس : { جعلنا له نوراً } يريد حمزة بن عبد المطلب ، { كمن مثله في الظلمات } يريد أبا جهل بن هشام ، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل ، وهو راجع من قنصه ، وبيده قوس ، وحمزة لم يؤمن بعد ، فأقبل غضبان حتى رمى أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ، ويقول : يا أبا يعلي ، أما ترى ما جاء به ؟ سفه عقولنا ، وسب آلهتنا ، وخالف آباءنا ، فقال حمزة : ومن أسفه منكم ؟ تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فأنزل الله هذه الآية . وقال الضحاك : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل . وقال عكرمة والكلبي : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل .
قوله تعالى : { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } ، من الكفر والمعصية . قال ابن عباس : يريد زين لهم الشيطان عبادة الأصنام .
بعد ذلك يجيء شوط كامل عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان . وعن قدر الله في أن يجعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها . وعن الكبر الذي يحيك في نفوس هؤلاء المجرمين الأكابر . ويمنعهم من الإسلام . ويختم الشوط بالتصوير الرائع الصادق لحالة الإيمان التي يشرح الله لها الصدر ، وحالة الكفر التي يجعل الصدر فيها ضيقاً حرجاً مكروب الأنفاس ! . . فيتصل هذا الشوط كله بموضوع التحريم والتحليل في الذبائح اتصال الأصل القاعدي بالفرع التطبيقي ؛ ويدل على عمق هذا الفرع وشدة علاقته بالأصل الكبير :
( أو من كان ميتاً فأحييناه ، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ؟ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون . وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله . الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون . فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً كأنما يصعد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) .
إن هذه الآيات في تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان إنما تعبر تعبيراً حقيقياً واقعياً عن حقيقة واقعية كذلك . إن ما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة ؛ ولكن العبارة في ذاتها حقيقية .
إن نوع الحقيقة التي تعبر هذه الآيات عنها هو الذي يقتضي هذه الايقاعات التصويرية . فهي حقيقة ، نعم . ولكنها حقيقة روحية وفكرية . حقيقة تذاق بالتجربة . ولا تملك العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة ولكن لمن ذاقها فعلا !
إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت ؛ وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات . حياة يعيد بها تذوق كل شيء ، وتصور كل شيء ، وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة . ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوره الإيمان .
هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ . يعرفها فقط من ذاقها . . والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة . لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها .
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية ، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب . فهو موت . . وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله . . فهو موت . . وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . . فهو موت . .
والإيمان اتصال ، واستمداد ، واستجابة . . فهو حياة . .
إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراق الاستشراف والاطلاع . . فهو ظلمة . . وختم على الجوارح والمشاعر . . فهو ظلمة . . وتيه في التيه وضلال . . فهو ظلمة . .
وإن الإيمان تفتح ورؤية ، وإدراك واستقامة . . فهو نور بكل مقومات النور . .
إن الكفر انكماش وتحجر . . فهو ضيق . . وشرود عن الطريق الفطري الميسر . . فهو عسر . . وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن . . فهو قلق . .
وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود . .
وما الكافر ؟ إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور . . إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود ، فهو منقطع الصلة بالوجود . لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود . في أضيق الحدود . في الحدود التي تعيش فيها البهيمة . حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود !
إن الصلة بالله ، والصلة في الله ، لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد . ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة . . ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان . الموصولة على مدار الزمان . . فهو في ثراء من الوشائج ، وفي ثراء من الروابط . وفي ثراء من " الوجود " الزاخر الممتد اللاحب ، الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ، فتتكشف له حقائق هذا الدين ، ومنهجه في العمل والحركة ، تكشفا عجيبا . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور . . مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه . ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته . إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات . . إنما يبدو " تصميما " واحدا متداخلا متراكبا متناسقا . . متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة ، وفي حب ودود !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ؛ فتتكشف له حقائق الوجود ، وحقائق الحياة ، وحقائق الناس ، وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس . . تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر . . مشهد السنة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر . . ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة . . ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث . . يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته . ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة ، أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة ! ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله ، كأنه يقرأ من كتاب !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ، فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه ! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله ! ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها ، وفي استقبال الأحداث واستدبارها ! ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين !
وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية :
( أو من كان ميتا فأحييناه ، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ؟ ) .
كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين . قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها ، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف . . كانت قلوبهم مواتا . وكانت أرواحهم ظلاما . . ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز ، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء ، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال ، وتلتقط الشارد ، وتطمئن الخائف ، وتحرر المستعبد ، وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد . الإنسان المتحرر المستنير ؛ الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد !
أفمن نفخ الله في روحه الحياة ، وأفاض على قلبه النور . . كمن حاله أنه في الظلمات ، لا مخرج له منها ؟ إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان ! فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض ؟
( كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ) . .
هذا هو السر . . إن هناك تزيينا للكفر والظلمة والموت ! والذي ينشئ هذا التزيين ابتداء هو مشيئة الله التي أودعت فطرة هذا الكائن الإنساني الاستعداد المزدوج لحب النور وحب الظلمة ، تبتليه بالاختيار للظلمة أو النور . فإذا اختار الظلمة زينت له ؛ ولج في الضلال حتى لا يخرج من الظلمة ولا يعود ، ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ، ويزينون للكافرين ما يعملون . . والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور ، يسمع في الظلمة للوسوسة ؛ ولا يرى ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق ! . . وكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
وهذا الكلام من الله جلّ ثناؤه يدلّ على نهيه المؤمنين برسوله يومئذٍ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به ، وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرا ، فهداه جلّ ثناؤه لرشده ووفّقه للإيمان ، فقال لهم : إطاعة من كان ميتا ، يقول : من كان كافرا . فجعله جلّ ثناؤه لانصرافه عن طاعته وجهله بتوحيده وشرائع دينه وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته ، بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها من مكروه نازلة فأحْيَيْنَاهُ يقول : فهديناه للإسلام ، فأنعشناه ، فصار يعرف مضارّ نفسه ومنافعها ، ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه في معاده ، فجعل إبصاره الحقّ تعالى ذكره بعد عماه عنه ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك حياة وضياء يستضيء به ، فيمشي على قصد السبيل ومنهج الطريق في الناس . كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظّلُماتِ لا يدري كيف يتوجه وأيّ طريق يأخذ لشدّة ظلمة الليل وإضلاله الطريق ، فكذلك هذا الكافر الضالّ في ظلمات الكفر لا يبصر رشدا ولا يعرف حقّا ، يعني في ظلمات الكفر . يقول : أفطاعة هذا الذي هديناه للحقّ وبصرناه الرشاد كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردّد لا يعرف المخرج منها في دعاء هذا إلى تحريم ما حرّم الله وتحليل ما أحلّ وتحليل هذا ما حرّم الله وتحريمه ما أحلّ ؟ .
وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت في رجلين بأعيانهما معروفين ، أحدهما مؤمن ، والاَخر كافر .
ثم اختلف أهل التأويل فيهما ، فقال بعضهم : أما الذي كان ميتا فأيحاه الله فعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها : فأبو جهل بن هشام . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا سليمان بن أبي هوذة ، عن شعيب السراج ، عن أبي سنان عن الضحاك ، في قوله : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ قال : عمر بن الخطاب رضي الله عنه . كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظّلُماتِ قال : أبو جهل بن هشام .
وقال آخرون : بل الميت الذي أحياه الله عمار بن ياسر رضي الله عنه وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها : فأبو جهل بن هشام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن بشر بن تيم ، عن رجل ، عن عكرمة : أوْ مَنْ كانَ مَيْتا فَأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي الناسِ قال : نزلت في عمار بن ياسر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن بشر ، عن تيم ، عن عكرمة : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ عمار بن ياسر . كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ أبو جهل بن هشام .
وبنحو الذي قلنا في الاَية قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ قال : ضالاّ فهديناه ، وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي للنّاسِ قال : هدى ، كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها قال : في الضلالة أبدا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فَأحْيَيْناهُ هديناه ، وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ في الضلالة أبدا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ قال : ضالاّ فهديناه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ يعني : من كان كافرا فهديناه ، وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ يعني بالنور : القرآن من صدّق به وعمل به ، كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ يعني بالظلمات : الكفر والضلالة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ يقول : الهدى يمشي به في الناس ، يقول : فهو الكافر يهديه الله للإسلام ، يقول : كان مشركا فهديناه ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ هذا المؤمن معه من الله نور وبينة يعمل بها ويأخذ وإليها ينتهي ، كتاب الله . كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ لَيْسَ بِخارجٍ مِنْها وهذا مثل الكافر في الضلالة متحير فيها متسكع ، لا يجد مخرجا ولا منفذا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ يقول : من كان كافرا فجعلناه مسلما وجلعنا له نورا يمشي به في الناس وهو الإسلام ، يقول : هذا كمن هو في الظلمات ، يعني الشرك .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ قال : الإسلام الذي هداه الله إليه . كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُماتِ ليس من أهل الإسلام . وقرأ : اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظلُماتِ إلى النّورِ قال : والنور يستضيء به ما في بيته ويبصره ، وكذلك الذي آتاه الله هذا النور يستضيء به في دينه ويعمل به في نوره كما يستضيء صاحب هذا السراج . قال : كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظّلُماتِ لا يدري ما يأتي ولا ما يقع عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ زُينَ للكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ .
يقول تعالى ذكره : كما خذلت هذا الكافر الذي يجادلكم أيها المؤمنون بالله ورسوله في أكل ما حرّمت عليكم من المطاعم عن الحقّ ، فزينت له سوء عمله ، فرآه حسنا ليستحقّ به ما أعددت له من أليم العقاب ، كذلك زينت لغيره ممن كان على مثل ما هو عليه من الكفر بالله وآياته ما كانوا يعملون من معاصي الله ، ليستوجبوا بذلك من فعلهم ما لهم عند ربهم من النكال .
وفي هذا أوضح البيان على تكذيب الله الزاعمين أن الله فوّض الأمور إلى خلقه في أعمالهم فلا صنع له في أفعالهم ، وأنه قد سوّى بين جميعهم في الأسباب التي بها يصلون إلى الطاعة والمعصية لأن ذلك لو كان كما قالوا ، لكان قد زين لأنبيائه وأوليائه من الضلالة والكفر نظير ما زين من ذلك لأعدائه وأهل الكفر به . وزين لأهل الكفر به من الإيمان به نظير الذي زين منه لأنبيائه وأوليائه . وفي إخباره جلّ ثناؤه أنه زين لكلّ عامل منهم عمله ما ينبىء عن تزيين الكفر والفسوق والعصيان ، وخصّ أعداءه وأهل الكفر بتزيين الكفر لهم والفسوق والعصيان ، وكرّه إليهم الإيمان به والطاعة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا الكلام من الله جلّ ثناؤه يدلّ على نهيه المؤمنين برسوله يومئذ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به، وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرا، فهداه جلّ ثناؤه لرشده ووفّقه للإيمان، فقال لهم: إطاعة من كان ميتا، يقول: من كان كافرا. فجعله جلّ ثناؤه لانصرافه عن طاعته وجهله بتوحيده وشرائع دينه وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته، بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها من مكروه نازلة "فأحْيَيْنَاهُ "يقول: فهديناه للإسلام، فأنعشناه، فصار يعرف مضارّ نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه في معاده، فجعل إبصاره الحقّ تعالى ذكره بعد عماه عنه ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك حياة وضياء يستضيء به، فيمشي على قصد السبيل ومنهج الطريق في الناس. "كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظّلُماتِ" لا يدري كيف يتوجه وأيّ طريق يأخذ لشدّة ظلمة الليل وإضلاله الطريق، فكذلك هذا الكافر الضالّ في ظلمات الكفر لا يبصر رشدا ولا يعرف حقّا، يعني في ظلمات الكفر. يقول: أفطاعة هذا الذي هديناه للحقّ وبصرناه الرشاد كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردّد لا يعرف المخرج منها في دعاء هذا إلى تحريم ما حرّم الله وتحليل ما أحلّ، وتحليل هذا ما حرّم الله وتحريمه ما أحلّ؟...
"كَذَلِكَ زُينَ للكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ" يقول تعالى ذكره: كما خذلت هذا الكافر الذي يجادلكم أيها المؤمنون بالله ورسوله في أكل ما حرّمت عليكم من المطاعم عن الحقّ، فزينت له سوء عمله، فرآه حسنا ليستحقّ به ما أعددت له من أليم العقاب، كذلك زينت لغيره ممن كان على مثل ما هو عليه من الكفر بالله وآياته ما كانوا يعملون من معاصي الله، ليستوجبوا بذلك من فعلهم ما لهم عند ربهم من النكال.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
جائز أن يكون المثل الذي ضرب الله أن يكون المؤمن والكافر جميعا حيين في الجوهر، لكن المؤمن اكتسب ما به يحيى أبدا من العلم والقرآن والإيمان، والكافر لم يكتسب من ذلك شيئا؛ فهو كالميت الذي لا يبصر، ولا يسمع الحق، ولا يعقل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
مثل الذي هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل والمهتدي والضال بمن كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به، فيميز بعضهم من بعض، ويفصل بين حلاهم، ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص. ومعنى قوله: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} كمن صفته هذه وهي قوله: {فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} بمعنى: هو في الظلمات ليس بخارج منها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
تقدم في هذه الآية السالفة ذكر قوم مؤمنين أمروا بترك [ظاهر] الإثم وباطنه وغير ذلك، وذكر قوم كافرين يضلون بأهوائهم وغير ذلك، فمثل الله عز وجل في الطائفتين بأن شبه الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا، هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وشبه الكافرين وحيرة جهلهم بقوم في ظلمات يترددون فيها ولا يمكنهم الخروج منها ليبين عز وجل الفرق بين الطائفتين والبون بين المنزلتين...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
فلما بين تعالى ما ذكر، ضرب له مثلا يتبين به الفرق بين المؤمنين المهتدين للاقتداء بهم، والكافرين الضالين للتنفير من طاعتهم والحذر من غوايتهم، وبيان أن سببه ما زين للكافرين من أعمالهم فلم يميزوا بين النور والظلمات، وسنة الله في مكر أكابر المجرمين السيئات، فقال: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}.
وجه اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما أنه جاء في الآيات التي قبلها أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون الظن والخرص وأن كثيرا منهم يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم، وأن الشياطين المتمردين العاتين عن أمر ربهم يوحون إلى أوليائهم ما يجادلون به المؤمنين ليضلوهم ويحملوهم على اقتراف الآثام التي نهت تلك الآيات عن ظاهرها وباطنها بل ليحملوهم على الشر أيضا بالذبح لغير الله تعالى والتوسل به إليه وذلك عبادة له معه {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}... والاستفهام للإنكار، وهمزة الاستفهام داخلة على جملة محذوفة للعلم بها من السياق وهو من لطائف الإيجاز، عطف عليها قوله: {ومن كان ميتا} والتقدير أأنتم أيها المؤمنون كأولئك الشياطين أو كأوليائهم الذين يجادلونكم بما أوحوه إليهم من زخرف القول الذي غروهم به، ومن كان ميتا بالكفر والجهل فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نورا يمشي به في الناس وهو نور القرآن وما فيه من العلم الإلهي والهداية بالآيات إلى العلم النظري، كمن مثله أي صفته ونعته الذي يمثل حاله هو أنه خابط في ظلمات الجهل والتقليد الأعمى وفساد الفطرة ليس بخارج منها لأنها قد أحاطت به وألفتها نفسه فلم يعد يشعر بالحاجة إلى الخروج منها إلى النور بل ربما يشعر بالتألم منه فهو بإزاء النور المعنوي كالخفاش بإزاء النور الحسي. هذا التقدير للجملة الاستفهامية المحذوفة هو الذي ارتضاه بعض المدققين في العربية.
ويمكن أن يقدر ما هو أقرب منه إلى المعنى الذي يصل الآية بما قبلها مباشرة وهو قوله تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (الأنعام 121) بأن يقال عن تقدير الكلام: إطاعة هؤلاء المتبعين لوحي الشياطين، كطاعة وحي الله تعالى وهو النور المبين؟ ومن كان ميتا بالكفر والشرك فأحييناه بالإيمان، وكان متسكعا في ظلمات الجهل والغباوة وتقليد أهل الضلال فجعلنا له نورا من آيات القرآن المؤيدة بالحجة والبرهان، يمشي به في الناس على بصيرة من أمره في دينه وآدابه ومعاملاته للناس، كمن مثله المبين لحقيقة حاله كمثل السائر في ظلمات بعضها فوق بعض ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر؟ وفسر بعضهم النور بالدين والإسلام والمصداق واحد، والعبرة في هذا المثل أن يطالب المسلم نفسه بأن يكون حيا عالما على بصيرة في دينه وأعماله وحسن سيرته في الناس، وقدوة لهم في الفضائل والخيرات، وحجة على فضل دينه على جميع الأديان، وعلو آدابه على جميع الآداب.
هذا المثل عام يشمل كل من ينطبق عليه في زمن التنزيل وغيره، وعليه عامة أهل التفسير. وروي أنه نزل في رجلين بأعيانهما، والمراد والله أعلم أنه نزل في ضمن السورة صادقا عليهما ظاهرا فيهما أتم الظهور، فإن السورة نزلت جملة واحدة كما تقدم ومن استثنى منها بعض آيات لم يذكروا هذه الآية منها وإلا لكان شموله من باب قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب...
{كذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي مثل هذا التزيين الذي تضمنه المثل في الجملة السابقة وهو تزيين نور الهدى والدين لمن أحياه الله تلك الحياة المعنوية العالية، وتزيين ظلمات الضلال والكفر لموتى القلوب، قد زين للكافرين ما كانوا يعملونه من الآثام كعداوة النبي صلى الله عليه وسلم وذبح القرابين لغير الله تعالى وتحريم ما لم يحرمه وإحلال من ما حرمه عليهم بمثل تلك الشبهات التي تقدم شرحها في تفسير الآيات السابقة. وقد بني فعل التزيين هنا للمفعول لأن المشبه به حسن وقبيح فالأول تزيين عمل المؤمن للمؤمن والثاني تزيين عمل الكافر للكافر، وإنما لم يذكر في المشبه إلا النوع الثاني لأن السياق له، وإنما ذكر الأول في المثل المشار إليه في التشبيه لبيان قبح الضد بمقابلته بحسن ضده، والذي يزين للكافرين أعمالهم القبيحة هو الشيطان بوسوسته كما قال في خطابه للباري تعالى: {لأزينن لهم في الأرض} (الحجر 39) وسائر شياطين الإنس والجن كما تقدم في تفسير الآية 111 وإن كان كل ما يجري في الكون يسند إلى الله تعالى باعتبار الخلق والتقدير وإقامته نظام الكون بسنن ارتباط الأسباب بالمسببات وتقدم إسناد تزيين الأعمال إلى الشيطان في الآية 43 من هذه السورة. وقد حققنا في تفسير قوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات} (آل عمران 13) ما يسند من التزيين إلى الله تعالى وما يسند منه إلى الشيطان وما يبنى فعله للمجهول بالشواهد من الآيات الكثيرة الواردة في ذلك. فليراجع في الجزء الثالث من التفسير ومنه يعلم ضعف استدلال بعض المفسرين والمتكلمين بالآية على مذاهبهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... إن هذه الآيات في تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان إنما تعبر تعبيراً حقيقياً واقعياً عن حقيقة واقعية كذلك. إن ما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة؛ ولكن العبارة في ذاتها حقيقية. إن نوع الحقيقة التي تعبر هذه الآيات عنها هو الذي يقتضي هذه الايقاعات التصويرية. فهي حقيقة، نعم. ولكنها حقيقة روحية وفكرية. حقيقة تذاق بالتجربة. ولا تملك العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة ولكن لمن ذاقها فعلا! إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت؛ وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات. حياة يعيد بها تذوق كل شيء، وتصور كل شيء، وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة. ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوره الإيمان. هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ. يعرفها فقط من ذاقها.. والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة. لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها. إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب. فهو موت.. وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله.. فهو موت.. وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية.. فهو موت.. والإيمان اتصال، واستمداد، واستجابة.. فهو حياة.. إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراق الاستشراف والاطلاع.. فهو ظلمة.. وختم على الجوارح والمشاعر.. فهو ظلمة.. وتيه في التيه وضلال.. فهو ظلمة.. وإن الإيمان تفتح ورؤية، وإدراك واستقامة.. فهو نور بكل مقومات النور.. إن الكفر انكماش وتحجر.. فهو ضيق.. وشرود عن الطريق الفطري الميسر.. فهو عسر.. وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن.. فهو قلق.. وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود.. وما الكافر؟ إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور.. إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود، فهو منقطع الصلة بالوجود. لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود. في أضيق الحدود. في الحدود التي تعيش فيها البهيمة. حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود! إن الصلة بالله، والصلة في الله، لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد. ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة.. ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان. الموصولة على مدار الزمان.. فهو في ثراء من الوشائج، وفي ثراء من الروابط. وفي ثراء من "الوجود "الزاخر الممتد اللاحب، الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود. ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فتتكشف له حقائق هذا الدين، ومنهجه في العمل والحركة، تكشفا عجيبا.. إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور.. مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه. ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته. إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات.. إنما يبدو "تصميما" واحدا متداخلا متراكبا...
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب. فهو موت.. وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله.. فهو موت.. وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية.. فهو موت.. والإيمان اتصال، واستمداد، واستجابة.. فهو حياة...
. متناسقا.. متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة، وفي حب ودود! ويجد الإنسان في قلبه هذا النور؛ فتتكشف له حقائق الوجود، وحقائق الحياة، وحقائق الناس، وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس.. تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر.. مشهد السنة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر.. ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة.. ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً. ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث.. يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته. ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة، أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة! ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله، كأنه يقرأ من كتاب! ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله! ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها، وفي استقبال الأحداث واستدبارها! ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين! وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية: (أو من كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟). كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين. قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف.. كانت قلوبهم مواتا. وكانت أرواحهم ظلاما.. ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف، وتحرر المستعبد، وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد. الإنسان المتحرر المستنير؛ الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد! أفمن نفخ الله في روحه الحياة، وأفاض على قلبه النور.. كمن حاله أنه في الظلمات، لا مخرج له منها؟ إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان! فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض؟ (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون).. هذا هو السر.. إن هناك تزيينا للكفر والظلمة والموت! والذي ينشئ هذا التزيين ابتداء هو مشيئة الله التي أودعت فطرة هذا الكائن الإنساني الاستعداد المزدوج لحب النور وحب الظلمة، تبتليه بالاختيار للظلمة أو النور. فإذا اختار الظلمة زينت له؛ ولج في الضلال حتى لا يخرج من الظلمة ولا يعود، ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ويزينون للكافرين ما يعملون.. والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور، يسمع في الظلمة للوسوسة؛ ولا يرى ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق!.. وكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الواو في قوله: {أو من كان ميتاً} عاطفة لجملة الاستفهام على جملة: {وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون} [الأنعام: 121] لتضمّن قوله: {وإن أطعتموهم} أنّ المجادلة، المذكورة من قَبْلُ، مجادلة في الدّين: بتحسين أحوال أهل الشّرك وتقبيح أحكام الإسلام الّتي منها: تحريم الميتة، وتحريم ما ذُكر اسم غير الله عليه. فلمّا حَذر الله المسلمين من دسائس أولياء الشّياطين ومجادلتهم بقوله: {وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون} [الأنعام: 121] أعقَب ذلك بتفظيع حال المشركين، ووصَفَ حسن حالة المسلمين حين فارقوا الشّرك، فجاء بتمثيلين للحالتين، ونفَى مساواة إحداهما للأخرى: تنبيها على سوء أحوال أهل الشّرك وحسننِ حال أهل الإسلام.
والهمزة للاستفهام المستعمل في إنكار تَماثل الحالتين: فالحالة الأولى: حالة الّذين أسلموا بعد أن كانوا مشركين، وهي المشبّهة بحال مَن كان ميّتاً مودَعاً في ظلمات، فصار حيّاً في نورٍ واضحٍ، وسار في الطّريق الموصّلة للمطلوب بين النّاس، والحالة الثّانية: حالةُ المشرك وهي المشبّهة بحالة من هو في الظلمات ليس بخارج منها، لأنَّه في ظلمات.
وفي الكلام إيجازُ حذفٍ، في ثلاثة مواضع، استغناء بالمذكور عن المحذوف: فقوله: {أو من كان ميتاً} معناه: أَحَال مَن كان ميّتاً، أو صِفة مَن كان ميّتاً. وقوله: {وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} يدلّ على أنّ المشبّه به حال مَن كان ميّتاً في ظُلمات. وقوله: كمن مثله في الظلمات تقديره: كمن مثله مثَل ميّت فما صدْق (مَن) ميّت بدليل مقابلته بميّت في الحالة المشبّهة، فيعلم أنّ جزء الهيئة المشبّهة هو الميّت لأنّ المشبّه والمشبّه به سواء في الحالة الأصليّة وهي حالة كون الفريقين مشركين. ولفظ (مثَل) بمعنى حالة. ونفيُ المشابهة هنا معناه نفي المساواة، ونفي المساواة كناية عن تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى تفضيلاً لا يلتبس، فذلك معنى نفي المشابهة كقوله: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنّور} [الرعد: 16] وقوله {أفمَن كان مؤمناً كَمَن كان فاسقاً لا يستوون} [السجدة: 18]. والكاف في قوله: {كمن مثله في الظلمات} كاف التّشبيه، وهو تشبيه منفي بالاستفهام الإنكاري.
والكلام جار على طريقة تمثيل حال من أسْلَم وتخلَّص من الشرك بحال من كان ميّتا فأُحْيِي، وتمثيل حال من هو باق في الشرك بحال ميت باق في قبره. فتضمّنت جملة: {أو من كان ميتاً} إلى آخرها تمثيل الحالة الأولى، وجملة: {كمن مثله في الظلمات} الخ تمثيلَ الحالة الثّانية، فهما حالتان مشبّهتان، وحالتان مشبَّهٌ بهما، وحصل بذكر كاف التّشبيه وهمزة الاستفهام الإنكاري أنّ معنى الكلام نفي المشابهة بين من أسلم وبين من بَقي في الشرك...
والمراد: ب {الظّلمات} ظلمةُ القبر لمناسبته للميِّت، وبقرينة ظاهر {في} من حقيقة الظرفية وظاهر حقيقة فعل الخروج.
ولقد جاء التّشبيه بديعاً: إذ جعل حال المسلم، بعد أن صار إلى الإسلام، بحال من كان عديم الخير، عديم الإفادة كالميّت، فإنّ الشرك يحول دون التّمييز بين الحقّ والباطل، ويصرف صاحبه عن السّعي إلى ما فيه خيره ونجاته، وهو في ظلمة لو أفاق لم يعرف أين ينصرف، فإذا هداه الله إلى الإسلام تغيرّ حاله فصار يميّز بين الحقّ والباطل، ويعلم الصّالح من الفاسد، فصار كالحي وصار يسعى إلى ما فيه الصّلاح، ويتنكّب عن سبيل الفساد، فصار في نور يمشي به في النّاس. وقد تبيّن بهذا التّمثيل تفضيل أهل استقامة العقول على أضدادِهم.
والباء في قوله: {يمشي به} باء السّببيّة. والنّاس المصرح به في الهيئة المشبه بها هم الأحياء الّذين لا يخلو عنهم المجتمع الإنساني. والنّاس المقدّر في الهيئة المشبهة هم رفقاء المسلم من المسلمين. وقد جاء المركب التّمثيلي تاماً صالحاً لاعتبار تشبيه الهيئة بالهيئة، ولاعتبار تشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهِ بها، كما قد علمته وذلك أعلى التّمثيل.
وجملة: {ليس بخارج منها} حال من الضّمير المجرور بإضافة (مَثل)، أي ظلمات لا يرجى للواقع فيها تنوّر بنور ما دام في حالة الإشراك.
وجملة: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} استئناف بياني، لأنّ التّمثيل المذكور قبلها يثير في نفس السّامع سُؤالاً، أن يقول: كيف رضوا لأنفسهم البقاء في هذه الضّلالات، وكيف لم يشعروا بالبَون بين حالهم وحال الّذين أسلموا؛ فإذا كانوا قبل مجيء الإسلام في غفلة عن انحطاط حالهم في اعتقادهم وأعمالهم، فكيف لمّا دعاهم الإسلام إلى الحقّ ونصب لهم الأدلَّة والبراهين بَقُوا في ضلالهم لم يقلعوا عنه وهمْ أهل عقول وفطنة فكان حقيقاً بأن يبيّن له السّبب في دوامهم على الضّلال، وهو أنّ ما عملوه كان تزيّنه لهم الشّياطين، هذا التّزيين العجيب، الّذي لو أراد أحد تقريبه لم يجد ضلالاً مزيَّناً أوضح منه وأعجبَ فلا يشبَّه ضلالُهم إلاّ بنفسه على حدّ قولهم: (والسّفاهة كاسمها).
واسم الإشارة في قوله: {كذلك زين للكافرين} مشار به إلى التّزيين المأخوذ من فعل {زين} أي مثلَ ذلك التّزيين للكافرين العجيب كيداً ودِقَّةً زيّن لهؤلاء الكافرين أعمالهم على نحو ما تقدّم في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} في سورة البقرة (143).
وحُذف فاعل التّزيين فبني الفعل للمجهول: لأنّ المقصود وقوع التّزيين لا معرفة مَن أوقعه. والمزيّن شياطينهم وأولياؤهم، كقوله: {وكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤُهم} [الأنعام: 137]، ولأنّ الشّياطين من الإنس هم المباشرون للتّزيين، وشياطين الجنّ هم المُسَوّلون المزيّنون. والمراد بالكافرين المشركون الّذين الكلام عليهم في الآيات السّابقة إلى قوله: {وإنّ الشّياطين لَيُوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} [الأنعام: 121].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
..إن الموت هنا لا يعني الموت المادي، وهو انعدام الحياة في الجسد، بل هو فراغ الإنسان من حركة الفكر والشعور والإيمان، وذلك عندما يعيش بدون فكرةٍ أو قضيّةٍ، ولا يعرف ما يريد، ولا ماذا يراد به، فلا مجال لأيّة حركة للحياة في أعماقه ولا من حوله، لأن قضية الحياة والموت في الجانب الروحي والفكري في الإنسان تتمثّل في ما ينطلق به من آفاقٍ وأوضاعٍ وأفكار ومشاريع وعلاقاتٍ، فإذا كان الإنسان مؤمناً، بالمعنى الواسع للإيمان، فإنه ينفتح على الله، وعلى كل المعاني الخيّرة، والقيم الكبيرة، والآفاق الروحية، في حركة الامتداد والعمق، أمّا إذا كان كافراً، فإنه ينغلق على ذاته، ولا ينفتح على أيّ شيءٍ آخر، إلا من خلال المادة، فهي ساحة الحركة الضيقة عنده، لأنه لا يملك الفكرة الكبيرة التي تربطه بتلك الافاق، فالمادّة هي كل طموحاته، وكل شيءٍ في الحياة يخضع للحسابات المادية، حتى العواطف والمشاعر والعلاقات، فلا يعطي إلا بمقدار ما يأخذ. إنه يستمر في الدوران حول نفسه، فيختنق في النهاية داخل ذاته...
وفي هذه الآية إيحاءٌ للإنسان بأن عليه أن يثير الحياة في نفسه، ويخرجها من الموت الفكري والروحي الذي يجرّه إلى تخيّل أنّ قيمة الإنسان في أطماعه وشهواته، وذلك بأن يعيش الإيمان بعمقٍ ليشعر بامتداد الحياة في نفسه إلى كل شيءٍ حوله، من خلال إحساسه بالمسؤولية عن الأرض والناس، وعن النبات وغير ذلك في المدى الذي تتسع فيه قدرته.. وبهذا يحصل الإنسان على نوعٍ ٍفريدٍ من التفاعل بين الإيمان وسعة الشخصية. فكلّما عاش الإيمان أكثر، كلما تحركت شخصيته في الجانب السليم أكثر. أمّا إذا غفل عن إيمانه، واستسلم لما حوله ولمن حوله، فإنه يستسلم للجانب السلبيّ من حركة الواقع في ما يعيشه من حالة القلق والضياع والارتباك والتخبّط التي تفرزها مفاهيم الكفر في عقل الإنسان. وهذا هو العنصر الذي يقود إلى الخبث والمكر والجريمة، وغير ذلك من المعاني التي تتمثل في الشخصيات التي تعيش لذاتها، فلا تتفتق عبقريتها إلا عن أفكار الشرّ، ولا تتحرك قوتها إلا في طريق الصدّ عن الخير وعن سبيل الله فيفسدون الحياة بمكرهم، ولكن القضية ترتدُّ عليهم في نهاية المطاف، لأن الله لم يجعل لهم السلطة المطلقة التي يحققون فيها لأنفسهم ما يشتهون وما يريدون، بل وضع لهم حداً مقيداً يقفون فيه، حيث تقف حدود قدرتهم، وحيث تبدأ العناصر الآخرى في الساحة بمواجهة فسادهم مواجهةً قويّةً حاسمة...