قوله تعالى : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } ، الآية . قال مسروق ، وقتادة ، والضحاك : أراد ليس بأمانيكم أيها المسلمون ، ولا أماني أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى ، وذلك أنهم افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نبينا خاتم الأنبياء ، وكتابنا يقضي على الكتب ، وقد آمنا بكتابكم ، ولم تؤمنوا بكتابنا ، فنحن أولى . وقال مجاهد : أراد بقوله : { ليس بأمانيكم } يا مشركي أهل الكتاب ، وذلك أنهم قالوا : لا بعث ولا حساب ، وقال أهل الكتاب { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } [ البقرة : 80 ] { ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } [ البقرة :111 ] فأنزل الله تعالى : { ليس بأمانيكم } . أي : ليس الأمر بالأماني ، وإنما الأمر بالعمل الصالح .
قوله تعالى : { من يعمل سوءا يجز به } . وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وجماعة : الآية عامة في حق كل عامل ، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين ، وقالوا : يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءاً غيرك فكيف الجزاء ؟ قال : " منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ، ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر ، وبقيت له تسع حسنات ، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره " . وأما من يكون جزاؤه في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته ، فيلقى مكان كل سيئة حسنة ، وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة ، فيؤتي كل ذي فضل فضله .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد العبدوسي ، ثنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد ، ثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان والحارث بن محمد قالا : ثنا روح هو ابن عبادة ، ثنا موسى بن عبيدة ، أخبرني مولى بن سباع قال : سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : " كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه هذه الآية : { من يعمل سوءاً يجز به }
قوله تعالى : { ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ، ألا أقرئك آية أنزلت علي ؟ قال : قلت بلى ، قال : فأقرأنيها ، قال : ولا أعلم إلا أني وجدت انفصاماً في ظهري ، حتى تمطيت لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك يا أبا بكر ؟ فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، وأينا لم يعمل سوءاً ، إنا لمجزيون بكل سوء عملناه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا ، حتى تلقوا الله وليست لكم ذنوب . وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة .
ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء . . إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني . إنه يرجع إلى أصل ثابت ، وسنة لا تتخلف ، وقانون لا يحابي . قانون تستوي أمامه الأمم - فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر - وليس أحد تخرق له القاعدة ، وتخالف من أجله السنة ، ويعطل لحسابه القانون . . إن صاحب السوء مجزى بالسوء ؛ وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة . ولا محاباة في هذا ولا مماراة :
( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . من يعمل سوءا يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا . . ومن يعمل من الصالحات - من ذكر أو أنثى وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ، ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله - وهو محسن - واتبع ملة إبراهيم حنيفا ، واتخذ الله إبراهيم خليلاً ) .
ولقد كان اليهود والنصارى يقولون : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) . . وكانوا يقولون : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) . . وكان اليهود ولا يزالون يقولون : إنهم شعب الله المختار !
ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس . وأن الله متجاوز عما يقع منهم . . بما أنهم المسلمون . .
ولقد شق على المسلمين قول الله لهم :
( ومن يعمل سوء ا يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا ) . .
فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية ؛ ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءا . مهما صلحت ، ومهما عملت من حسنات .
كانوا يعرفون النفس البشرية - كما هي في حقيقتها - وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم . . لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها ؛ ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها ؛ ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحيانا ، ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه . ومن ثم ارتجفت نفوسهم ، وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به . ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلا ويلامسها ، وهذه كانت ميزتهم . أن يحسوا الآخرة على هذا النحو ، ويعيشوا فيها فعلا بمشاعرهم كأنهم فيها . لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب ! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد !
قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالله بن نمير ، حدثنا إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير ، قال : " أخبرت أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال : " يا رسول الله ، كيف الفلاح بعد هذه الآية ؟ ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءا يجز به ) . . فكل سوء عملناه جزينا به . . فقال النبى [ ص ] : " غفر الله لك يا أبا بكر . ألست تمرض ؟ ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ " قال بلى ! قال : " فهو مما تجزون به " . . [ ورواه الحاكم عن طريق سفيان الثورى عن إسماعيل . ]
وروى أبو بكر بن مردويه - بإسناده - إلى ابن عمر ، يحدث عن أبى بكر الصديق . قال : كنت عند النبى [ ص ] فنزلت هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا )فقال رسول الله [ ص ] : " يا أبا بكر ، ألا أقرئك آية نزلت علي ؟ " قال : قلت يا رسول الله فأقرأنيها . . فلا أعلم أني قد وجدت انفصاما في ظهري ، حتى تمطيت لها ! فقال رسول الله [ ص ] : " مالك يأ أبا بكر ؟ " فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! وأينا لم يعمل السوء ، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ! فقال رسول الله [ ص ] : " أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا ، حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب . وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة " . [ وكذا رواه الترمذي ] .
وروى ابن أبى حاتم - بإسناده - عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله إنى لأعلم أشد آية في القرآن . فقال : " ما هي يا عائشة ؟ " قلت : ( من يعمل سوءا يجز به )فقال . " ما يصيب العبد المؤمن ، حتى النكبة ينكبها " . [ ورواه ابن جرير ] .
وروى مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة - بإسناده - عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : لما نزلت : ( من يعمل سوءا يجز به )شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله [ ص ] : " سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة . حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها " . .
على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء . ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية ، واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى . ولقد هزت هذه الآية كيانهم ، ورجفت لها نفوسهم ، لأنهم كانوا يأخذون الأمر جدا . ويعرفون صدق وعد الله حقا . ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.