التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا} (123)

قوله تعالى : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) .

ثمة روايات عديدة ومختلفة في سبب نزول هذه الآية . فقد قيل إن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيّين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله ، فأنزل الله : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) .

وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال : تخاصم أهل الأديان ، فقال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب ونبيّنا خير الأنبياء ، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك ، وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام وكتابنا نسخ كل كتاب ونبيّنا خاتم النبيين وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى الله بينهم وقال : ( ليس بأمانيكم . . . ) {[838]} الأمانيّ مفردها الأمنية ومعناها البغية أو ما يُتمنى من الأمور . وفي الآية بيان حاسم يفصل بين هؤلاء المتجادلين في غير مجاملة أو محاباة أو هوادة ، والأصل في ذلك أن الإسلام لا يقيم وزنا للنعرات العصبية الفارغة ، أو المفاخرة بالآباء والأجداد ولا المباهاة بالأشخاص والعناوين وكل المظاهر الشكلية ، لا يعبأ الإسلام بشيء من ذلك ، إنما يعبأ بالعقيدة الصحيحة المستقيمة والإيمان الساطع المستنير ليزن الأمور والأشخاص جميعا بميزان الإيمان الصحيح والعمل المخلص النافع المتواصل وكفى ، والله سبحانه يحسم الخلاف هنا ليبين للمتخاصمين أن النجاة لا تكون بالتمني ولا بإطلاق الأماني من غير عمل مخلص مشروع ، فإن الذي يعمل السوء لسوف يلقى جزاءه كيفما كانت ملّته التي يدين بها ، فلا يسرع بالمرء نحو الفوز والنجاة إلا عمله الصالح ، وليس في مجرّد تمنّيه من غير عمل إلا ما يبطئ به دون النجاة والخلاص .

ويبدو أن ثمة إشكالا في قوله تعالى : ( من يعمل سوءا يجز به ) فإن هذا المفهوم يفيد العموم من غير تخصيص كما يفهم من ظاهر الآية فليس من أحد يقارف سيئة أو محظورا إلا وهو مسؤول عنه ومجازى ، وكأن التوبة من العبد لا تؤثر في إذهاب الجزاء عنه ! .

وخير ما جاء في ذلك فيما يزيل الإشكال هو ما قاله جمهور المفسرين : وهو أن لفظ الآية عام وأن كلا من الكافر والمؤمن يجازى بعمل السوء ، فأما مجازاة الكافر فالنار ؛ وذلك لكفره الذي أورده أشدّ الجزاء ، وأما مجازاة المؤمن فتتحصل له بما يمسه من ضروب الشقاء والمتاعب كالفقر والمرض والحزن والنصب وغير ذلك مما يقع الإنسان في الدنيا . ومثل هذه المصاب والمتاعب تتكفّر بسببها سيئات المؤمن وخطاياه لينجو في الآخرة . وهي نفسها الجزاء المقرر للمؤمن في حياته في مقابلة ما ارتكب من تقصير وخطيئات .

فقد أخرج الإمام أحمد عن أبي بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ! كيف الفلاح بعد هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ) فكل سوء عملناه جزينا به ، فقال النبي ( ص ) : " غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ؟ ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ " قال : بلى قال : " فهو ما تجزون به " .

وفي حديث آخر أخرجه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال : لما نزلت : ( من يعمل سوءا يجز به ) شق ذلك على المسلمين ، فقال لهم رسول الله ( ص ) : " سدّدوا وقاربوا ، فإن كل ما يصاب به المسلم كفارة ، حتى الشوكة يشاكها ، والنكبة ينكبها " .

وفي رواية أخرى عن أبي هريرة أنه قال عقيب نزول هذه الآية : بكينا وحزنّا وقلنا يا رسول الله ( ص ) ما أبقت هذه الآية من شيء قال : " أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسدّدوا ، فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلا كفّر الله بها من خطيئته ، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه " .

قوله : ( ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) لا ينفع أحدا أن يتمنى ولا ينجيه من العذاب أن يطلق التمنيات بغير حساب من عمل صالح . فإن ما يجتاز به العبد صراط الحساب هو العمل الخالص لوجه الله ، وهو في أية حال ليس له من دون الله أي معين أو مجير أو نصير ، يستوي في هذا الحكم أن يكون العبد مؤمنا أو كافرا .


[838]:- روح المعاني جـ 5 ص 152.