تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب}، نزلت في المؤمنين واليهود والنصارى، قالت اليهود: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن أهدى وأولى بالله منكم. وقالت النصارى: نبينا كلمة الله وروح الله وكلمته، وكان يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وفي كتابنا العفو، وليس فيه قصاص، فنحن أولى بالله منكم معشر اليهود ومعشر المسلمين. فقال المسلمون: كذبتم، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وآمنا بنبيكم وكتابكم، وكذبتم نبينا وكتابنا، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا، فنحن أهدى منكم وأولى بالله منكم، فأنزل عز وجل: {ليس بأمانيكم} معشر المؤمنين {ولا أماني أهل الكتاب} {من يعمل سوءا يجز به}، نزلت في المؤمنين مجازات الدنيا تصيبهم في النكبة بحجر، والضربة واختلاج عرق أو خدش عود، أو عثره قدم فيدميه أو غيره، فبذنب قدم، وما يعفو الله عنه أكبر، فذلك قوله سبحانه: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى: 30). ثم قال: {ولا يجد له من دون الله وليا}، يعني قريبا ينفعه، {ولا نصيرا} يعني ولا مانعا يمنعه من الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}؛ فقال بعضهم: عُني بقوله {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ}: أهل الإسلام. عن مسروق، قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم قال: فأنزل الله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}.
عن قتادة، قال: ذُكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبيّنا خاتم النبيين، وكتابنا يقضى على الكتب التي كانت قبله. فأنزل الله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}... إلى قوله: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا} فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
وقال آخرون: بل عنى الله بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}: أهل الشرك به من عبدة الأوثان. عن مجاهد، في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} قال: قريش قالت: لن نُبعث ولن نُعذّب.
أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصيبا مِنَ الكِتابِ}... إلى آخر الآية، قال: جاء حيي بن أخطب إلى المشركين، فقالوا له: يا حُيَيّ إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال: أنتم خير منه. فذلك قوله: {ألَمْ تَرَ إَلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}... إلى قوله: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصيرا}. ثم قال للمشركين: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} فقرأ حتى بلغ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرا}. قال: ووعد الله المؤمنين أن يكفّر عنهم سيئاتهم، ولم يَعِد أولئك، وقرأ: {وَالّذِين آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أحْسَنَ الّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ}.
وقال آخرون: عُني به أهل الكتاب خاصة.
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، ما قال مجاهد من أنه عنى بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} مشركي قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} وإنما جرى ذكر أمانيّ نصيب الشيطان المفروض، وذلك في قوله: {وَلأُمَنّيَنّهُمْ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ} وقوله: {يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ} فإلحاق معنى قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} بما قد جري ذكره قبل أحقّ وأولى من ادّعاء تأويل فيه لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من أهل التأويل. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية إذن: ليس الأمر بأمانيكم يا معشر أولياء الشيطان وحزبه التي يمنيكموها وليكم عدوّ الله من إنقاذكم ممن أرادكم بسوء، ونصرتكم عليه، وإظفاركم به، ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارا بالله وبحلمه عنهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاء عمله، من يعمل منكم سوء، أو من غيركم يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة.
ومما يدلّ أيضا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأنه عُني بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} مشركو العرب كما قال مجاهد: إن الله وصف وعد الشيطان ما وعد أولياءه، وأخبر بحال وعده، الصادق بقوله: {وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْ خِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدا وَعْدَ اللّهِ حَقّا} وقد ذكر جلّ ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه، وتمنيته إياهم الأماني بقوله: {يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ} كما ذكر وعد إياهم، فالذي هو أشبه أن يتبع تمنيته إياهم من الصفة، بمثل الذي أتبع عدّته إياهم به من الصفة. وإذ كان ذلك كذلك صحّ أن قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ...}، إنما هو خبر من الله عن أمانيّ أولياء الشيطان وما إليه صائرة أمانيهم مع سيئ أعمالهم من سوء الجزاء، وما إليه صائرة أعمال أولياء الله من حسن الجزاء. وإنما ضمّ جلّ ثناؤه أهل الكتاب إلى المشركين في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} لأن أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنيهموها بقوله: {وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ ولآمُرْنّهُمْ}.
{مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: عنى بالسوء: كلّ معصية لله، وقالوا: معنى الآية: من يرتكب صغيرة أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي الله، يجازه الله بها... عن الربيع بن زياد، قال: قلت لأبيّ بن كعب، قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} والله إن كان كل ما عملنا جزينا به هلكنا! قال: والله إن كنت لأراك أفقه مما أرى! لا يصيب رجلاً خدش ولا عثرة إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، حتى اللدغة والنفحة.
عن أبي المهلب، قال: دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الآية: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قالت: ذاك ما يصيبكم في الدنيا.
وقال آخرون: معنى ذلك: من يعمل سوءا من أهل الكفر يجز به... عن الضحاك: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} يعني بذلك: اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.
وقال آخرون: معنى السوء في هذا الموضع: الشرك. قالوا: وتأويل قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}: من يشرك بالله يجز بشركه ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا.
وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الآية، التأويل الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب وعائشة، وهو أن كل من عمل سوءا صغيرا أو كبيرا من مؤمن أو كافر، جوزي به. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لعموم الآية كل عامل سوء، من غير أن يخص أو يستثنى منهم أحد، فهي على عمومها إذ لم يكن في الآية دلالة على خصوصها ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: وأين ذلك من قول الله: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} وكيف يجوز أن يجازي على ما قد وعد تكفيره؟ قيل: إنه لم يعد بقوله: {نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} ترك المجازاة عليها، وإنما وَعَد التكفير بترك الفضيحة منه لأهلها في معادهم، كما فضح أهل الشرك والنفاق. فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب ليكفرها عنهم بها ليوافوه ولا ذنب لهم، يستحقون المجازاة عليه، فإنما وفي لهم بما وعدهم بقوله: {نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} وأنجز لهم ما ضمن لهم بقوله: {والّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنْدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ}.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو كريب، وسفيان بن وكيع ونصر بن عليّ وعبد الله بن أبي زياد القَطَواني، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن محيصن، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} شقّت على المسلمين، وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكَوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «قَاربوا وسَدّدُوا، ففي كل ما يُصَابُ به المسلم كَفّارَةٌ، حتّى النّكْبَة يُنْكَبُها، أو الشوكة يُشَاكّها».
حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي، قالا: حدثنا يزيد بن حيان، قالا: حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي، قال: حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ، عن عائشة، عن أبي بكر، قال: لما نزلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر: يا رسول الله، كلّ ما نعمل نؤاخذ به؟ فقال: «يا أبا بَكْرٍ ألَيْس يُصِيبُك كَذَا وكَذَا؟ فَهُوَ كَفّارتُهُ».
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا أبو عامر الخراز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قلت: إني لأعلم أيّ آية في كتاب الله أشدّ! فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أيّ آية؟» فقلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: «إنّ المؤمِنَ ليُجَازَى بأَسْوَإ عَمَلِهِ في الدّنْيا»، ثم ذكر أشياء منهنّ المرض والنصب، فكان آخره أن ذكر النكبة، فقال: «كُلّ ذِي عمل يُجْزَى بِعَمَلِهِ يا عائِشَةُ، إنّهُ لَيْسَ أحَدٌ يُحاسَبُ يَوْمَ القِيامَةِ إلاّ يُعَذّبُ». فقلت: أليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابا يَسِيرا}؟ فقالَ: «ذَاكِ عِنْدَ العَرْض، إنّهُ مِنْ نُوقِشَ الحِسابَ عُذّبَ»، وقال بيده على إصبعه كأنه ينكت.
{وَلا يَجِدِ} الذي يعمل سوءا من معاصي الله وخلاف ما أمره به، {مِنْ دُونِ اللّهِ}: من بعد الله وسواه، {وَلِيّا} يلي أمره، ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة الله، {وَلا نَصِيرا} يعني: ولا ناصرا ينصره مما يحلّ به من عقوبة الله وأليم نكاله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} أخبر عز وجل أن الأمر ليس بالأماني، ولكن إلى الله عز وجل، فهو، والله أعلم، يحتمل أن يكون بالمنزلة والقدر عند الله...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
في الكلام مضمر محذوف وتقديره ليس الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، أي لا يستحق بالأماني وإنما يستحق بالأعمال الصالحة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
في {لَّيْسَ} ضمير وعد الله، أي ليس ينال ما وعد الله من الثواب {بأمانيكم وَلا} ب {أَمَانِي أَهْلِ الكتاب} والخطاب للمسلمين لأِنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به، وكذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان بوعد الله. وعن الحسن: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل، إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا في الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظنّ بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظنّ بالله لأحسنوا العمل له...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
قوله: {ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً} قال ابن عباس: يريد ولياً يمنعه ولا نصيراً ينصره فإن قلنا إن هذه الآية خاصة في حق الكفار فتأويلها ظاهر وإن قلنا إنها في حق كل عامل سوء من مسلم وكافر فإنه لا ولي لأحد من دون الله يوم القيامة ولا ناصر. فالمؤمنون لا ولي لهم غير الله وشفاعة الشافعين تكون بإذن الله فليس يمنع أحد أحداً عن الله...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
المعنى في هذه الآية: أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، وليس كُلّ من ادعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال:"إنه هو المُحق" سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان؛ ولهذا قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي: ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام؛ ولهذا قال بعده: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} كقوله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
الأَمَانِيُّ: جمع أُمْنِيَّة، وهي ما يتشهَّاهُ المَرْءُ، ويُطَمِّعُ نفسه فيه،... قال جمهورُ النَّاس: لفظ الآية عَامٌّ، فالكافر، والمؤمنُ مُجَازًى، فأما مُجازاتُ الكافر، فالنَّار، وأما مُجَازاةُ المؤمِنِ، فبِنَكَبَاتِ الدُّنْيَا، فَمَنْ بقي له سُوءٌ إلى الآخرة، فهو في المشيئة يغفر اللَّه لِمَنْ يشاء، ويجازِي مَنْ يشاء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر تعالى عما أعد لهم ولمن أضلهم من العقاب وعما أعد للمؤمنين من الثواب، وكانوا يمنون أنفسهم الأماني الفارغة من أنه لا تبعة عليهم في التلاعب بالدين، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ويشجعهم على ذلك أهل الكتاب ويدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، لا يؤاخذهم بشيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى أو من شفعوا فيه، ونحو هذه التكاذيب... لما كان ذلك قال تعالى راداً على الفريقين: {ليس} أي ما وعده الله وأوعده {بأمانيكم} أي أيها العرب {ولا أماني أهل الكتاب} أي التي يمنيكم جميعاً بها الشيطان. ولما كانت أمانيهم أنهم لا يجازون بأعمالهم الخبيثة، أنتج ذلك لا محالة قوله: {ومن يعمل سوءاً يجز به} أي بالمصائب من الأمراض وغيرها، عاجلاً إن أريد به الخير، وآجلا إن أريد به الشر، وما أحسن إيلاؤها لتمنيه الشيطان المذكورة في قوله {يعدهم ويمنيهم} [النساء: 120] فيكون الكلام وافياً بكشف عوار شياطين الجن ثم الإنس في غرورهم لمن خف معهم مؤيساً لمن قبل منهم، وما أبدع ختامها بقوله: {ولا يجد له} ولما كان كل أحد قاصراً عن مولاه، عبر بقوله: {من دون الله} أي الذي حاز جميع العظمة {ولياً} أي قريباً يفعل معه ما يفعل القريب {ولا نصيراً *} أي ينصره في وقت ما! وما أشد التئامها بختام أول الآيات المحذرة منهم {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة} [النساء: 44] إلى قوله {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} [النساء: 45] إشارة إلى أن مقصود المنافقين من مشايعة أهل الكتاب ومتابعتهم إنما هو الولاية والنصرة، وأنهم قد ضيعوا منيتهم فاستنصروا بمن لا نصرة له، وتركوا من ليست النصرة إلا له...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
يقال في سبب النزول أنه اجتمع نفر من المسلمين واليهود والنصارى وتكلم كل في تفضيل دينه فنزل قوله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} الآية والمعنى بناء على ذلك: ليس شرف الدين وفضله ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم: إن ديني أفضل وأكمل، وأحق وأثبت، وإنما عليه إذا كان موقنا به أن يعمل بما يهديه إليه، فإن الجزاء إنما يكون على العمل لا على التمني والغرور، فلا أمر نجاتكم أيها المسلمون منوطا بأمانيكم في دينكم، ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطا بأمانيهم في دينهم، فإن الأديان ما شرعت للتفاخر والتباهي، ولا تحصل فائدتها بمجرد الانتماء إليها والتمدح بها بلوك الألسنة والتشدق في الكلام، بل شرعت للعمل.
قال: والآية مرتبطة بما قبلها سواء صح ما روي في سبب نزولها أم لم يصح لأن قوله تعالى: {يعدهم ويمنيهم} في الآيات التي قبلها يدخل فيه الأماني التي كان يتمناها أهل الكتاب غرورا بدينهم إذ كانوا يرون أنهم شعب الله الخاص ويقولون أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وغير ذلك مما يقولون ويدعون، وإنما سرى هذا الغرور إلى أهل الأديان من اتكالهم على الشفاعات، وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء لذاتهم، فهم بكرامتهم يدخلون الجنة وينجون من العذاب لا بأعمالهم، فحذرنا الله أن نكون مثلهم، وكانت هذه الأماني قد دبت إلى المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى في سورة الحديد {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل} [الحديد:16] الآية فهذا خطاب للذين كانوا ضعفاء الإيمان من المسلمين في العصر الأول ولأمثالهم في كل زمان، والله عليم بما كانوا عليه حين أنزل هذه الموعظة وبما آل وما يؤول إليه أمرهم بعد ذلك، ولو تدبروا قوله لما كان لأمثال هذه الأماني عليهم من سلطان فقد بين لهم طرق الغرور ومداخل الشيطان فيها. وقد روي حديث عن الحسن "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل "وقال الحسن: إن قوما غرتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب ولو صدقوا لأحسنوا العمل.
ثم ذكر الأستاذ الإمام بعد هذا حال مسلمي هذا العصر في غرورهم وأمانيهم ومدح دينهم وتركهم العمل به وبين أصنافهم في ذلك. ومما قاله:
إن كثيرا من الناس يقولون تبعا لمن قبلهم في أزمنة مضت: إن الإسلام أفضل الأديان، أي دين أصلح إصلاحه؟ أي دين أرشد إرشاده؟ أي شرع كشرعه في كماله؟ ولو سئل الواحد منهم: ماذا فعل الإسلام؟ وبماذا يمتاز على غيره من الأديان؟ لا يحير جوابا. وإذا عرضت عليه شبهة على الإسلام وسئل كشفها حاص حيصة الحمر وقال: أعوذ بالله، أعوذ بالله. والضال يبقى على ضلاله، والطاعن في الدين يتمادى في طعنه، والمغرور يسترسل في غروره، فالكلام كثير ولا علم ولا عمل يرفع شأن الإسلام والمسلمين. اه ما قاله الأستاذ الإمام بإيضاح لبعض الجمل واختصار في بيان ضروب الغرور وأصناف المغترين.
{من يعمل سوءا يجز به} هذا بيان من الله لحقيقة الأمر في المسألة فإنه لما نفى أن يكون الأمر منوطا بالأماني والتشهيات وغرور الناس بدينهم كان من يسمع هذا النفي جديرا بأن يتشوف إلى استبانة الحق والوقوف على حكم الله فيه، ويجعله موضوع السؤال، فبينه عز وجل بصيغة العموم، والمعنى أن كل من يعمل سوءا يلق جزاءه لأن الجزاء بحسب سنة الله تعالى أثر طبيعي للعمل لا يتخلف في أتباع بعض الأنبياء وينزل بغيرهم كما يتوهم أصحاب الأماني والظنون فعلى الصادق في دينه المخلص لربه أن يحاسب نفسه على العمل بما هداه إليه كتابه ورسوله ويجعله معيار سعادته لا كون ذلك الكتاب أكمل، وذلك الرسول أفضل فإن من كان دينه أكمل تكون الحجة عليه في التقصير أقوى، وقد روي في التفسير المأثور أن هذه الكلية العامة: "من يعمل سوءا يجز به" راعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأخافته فسأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عنها وقال: من ينج مع هذا يا رسول الله؟ فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) (أما تحزن أما تمرض أما يصيبك البلاء؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: (هو ذاك).
وأورد السيوطي في الدر المنثور أحاديث في الجزاء الدنيوي على الأعمال وجعلها تفسيرا للآية. وبعض ما ورد في ذلك مطلق عام ويؤخذ من بعضه أنه خاص بالمؤمنين أو كمَلَتِهم كأبي بكر، وهذا هو الذي مال إليه الأستاذ في الدرس. وإذا طبقنا المسألة على سنة الله التي لا تبديل لها ولا تحويل علمنا أن مصائب الدنيا تكون جزاء على ما يقصر فيه الناس من السير على سنن الفطرة وطلب الأشياء من أسبابها، واتقاء المضرات باجتناب عللها {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى:30] ومن ذلك التقصير ما هو معصية شرعية كشرب الخمر الذي هو علة أمراض كثيرة ومنها ما ليس كذلك. ولما كان عمل السوء يدسي النفس ويدنس الروح كان سببا طبيعيا للجزاء في الآخرة كما تكون الخمر سببا للجزاء في الدنيا بتأثيرها في الكبد والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي بل والمجموع العصبي. فهل يكون المرض الناشئ عن شرب الخمر كفارة للجزاء على شربها في الآخرة ويكون ذلك داخلا في معنى كون مصائب الدنيا كفارات للذنوب وأن من لم يصب بمرض ولا مصيبة بسبب ذنبه يعاقب عليه في الآخرة ويحرم من مثل هذه الكفارة كما إذا شرب الخمر مرة أو مرات لم تؤثر في بدنه تأثيرا شديدا؟ أم المصائب تكون كفارات للذنوب التي هي مسببة عنها ولغيرها مطلقا؟ وكيف ينطبق هذا التكفير على سنة الله في الجزاء الأخروي؟.
الحق في المسألة أنه لا يشذ شيء عن سنن الله تعالى، وأن المصيبة في الدنيا إنما تكون كفارة في الآخرة إذا أثرت في تزكية النفس تأثيرا صالحا وكانت سببا لقوة الإيمان أو ترك السوء والتوبة منه لظهور ضرره في الدين أو الدنيا، أو الرغبة في عمل صالح بما تحدثه من العبرة، ومن شأن المؤمن المهتدي بكتاب الله تعالى أن يستفيد من المصائب والنوائب فتكون مربية لعقله ونفسه كما بيناه في التفسير وغير التفسير مرارا. ولا يعقل أن تكون كل مصيبة كفارة لذنب أو لعدة ذنوب بل ربما كانت المصيبة سببا لمضاعفة الذنوب واستحقاق أشد العذاب، كالمصائب التي تحمل أهل الجزع ومهانة النفس وضعف الإيمان دع الكفر على ذنوب لم يكونوا ليقترفوها لولا المصيبة. والكلام في الآية على جزاء الآخرة بالذات كما يدل عليه مقابله في الآية الأخرى.
أما قوله تعالى: {ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا} فمعناه أن من يعمل السوء ويستحق الجزاء عليه بحسب سنن الله تعالى في تأثير عمل السوء تأثيرا تكون عاقبته شرا منه كما قال في سورة أخرى: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء} [الروم:10] لا يجد له وليا غير الله يتولى أمره، ويدفع الجزاء عنه، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحل به، لا من الأنبياء الذين تفاخر ويتفاخر أصحاب الأماني بالانتساب إليهم، ولا من غيرهم من المخلوقات التي اتخذها بعض البشر آلهة وأربابا، لا على معنى أنها هي الخالقة بل على معنى أنها شافعة وواسطة، فكل تلك الأماني في الشفعاء كأضغاث الأحلام، برق خلب وسحاب جهام، وإنما المدار في النجاة على الإيمان والأعمال، كما صرح به فقال: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا}
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
إن مجرد الانتساب إلى أي دين كان، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ْ} وهذا شامل لجميع العاملين، لأن السوء شامل لأي ذنب كان. من صغائر الذنوب وكبائرها، وشامل أيضا لكل جزاء قليل أو كثير، دنيوي أو أخروي...
وقوله: {وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ْ}... فليس له ولي يحصل له المطلوب، ولا نصير يدفع عنه المرهوب، إلا ربه ومليكه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء.. إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني. إنه يرجع إلى أصل ثابت، وسنة لا تتخلف، وقانون لا يحابي. قانون تستوي أمامه الأمم -فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر- وليس أحد تخرق له القاعدة، وتخالف من أجله السنة، ويعطل لحسابه القانون.. إن صاحب السوء مجزى بالسوء؛ وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة. ولا محاباة في هذا ولا مماراة:
(ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب. من يعمل سوءا يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا.. ومن يعمل من الصالحات -من ذكر أو أنثى وهو مؤمن- فأولئك يدخلون الجنة، ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله -وهو محسن- واتبع ملة إبراهيم حنيفا، واتخذ الله إبراهيم خليلاً).
ولقد كان اليهود والنصارى يقولون: (نحن أبناء الله وأحباؤه).. وكانوا يقولون: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة).. وكان اليهود ولا يزالون يقولون: إنهم شعب الله المختار!
ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس. وأن الله متجاوز عما يقع منهم.. بما أنهم المسلمون..
ولقد شق على المسلمين قول الله لهم:
(ومن يعمل سوء ا يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا)..
فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية؛ ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءا. مهما صلحت، ومهما عملت من حسنات.
كانوا يعرفون النفس البشرية -كما هي في حقيقتها- وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم.. لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها؛ ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها؛ ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحيانا، ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه. ومن ثم ارتجفت نفوسهم، وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به. ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلا ويلامسها، وهذه كانت ميزتهم. أن يحسوا الآخرة على هذا النحو، ويعيشوا فيها فعلا بمشاعرهم كأنهم فيها. لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد!
قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن نمير، حدثنا إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير، قال:"أخبرت أن أبا بكر -رضي الله عنه- قال:" يا رسول الله، كيف الفلاح بعد هذه الآية؟ (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجز به).. فكل سوء عملناه جزينا به.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لك يا أبا بكر. ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ "قال بلى! قال: "فهو مما تجزون به".. [ورواه الحاكم عن طريق سفيان الثورى عن إسماعيل.]...
على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء. ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية، واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى. ولقد هزت هذه الآية كيانهم، ورجفت لها نفوسهم، لأنهم كانوا يأخذون الأمر جدا. ويعرفون صدق وعد الله حقا. ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم وضح كتاب الله مبدأ من المبادئ الأساسية في العقيدة الإسلامية، وهي أن الجزاء من جنس العمل، والجزاء الحسن مرتبط بالعمل الصالح، وأن مجرد الأماني دون سعي ولا عمل ولا اكتساب للخير لا ينفع المسلمين كما لا ينفع أهل الكتاب، سواء بسواء، ولذلك فإن من يعمل سوءا يجز به ومن يعمل صالحا يجز به، في الدنيا أولا، وفي الآخرة أخيرا، سواء كان العامل ذكرا أو كان أنثى، وذلك قوله تعالى في خطابه للمؤمنين: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (123)، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)}...
وروى علي بن أبي طالب عن ابن عباس تعقيبا على قوله تعالى: {ولاَ يَجِد لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِياًّ وَلا َنَصِيراً}: إلا أن يتوب فيتوب الله عليه...
وقوله تعالى (نقيرا) المراد بالنقير النقرة التي في ظهر نواة التمرة، ومما يتصل به لفظ (القطمير)، والمراد به اللفافة التي على نواة التمرة، ولفظ (الفتيل)، والمراد به الخيط الذي في شق النواة، وهذه الألفاظ الثلاثة كلها وردت في القرآن الكريم...
فكلمة "النقير "وردت في القرآن مرتين إحداهما في هذا الربع {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} والثانية في الربع الثاني من الحزب التاسع من هذه السورة {أَم لَهُم نَصِيبٌ مِنَ المُلكِ فَإِذاً لاَّ يُوتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} وكلمة "الفتيل" وردت في القرآن ثلاث مرات، مرتين في هذه السورة سورة النساء، وذلك في قوله تعالى: {بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظلَمُونَ فَتِيلاً} وفي قوله تعالى {قُل مَتَاعُ الدُنيَّا قَلِيلٌ، والآخرة خَيرٌ لِمَن اتَّقَى، ولا َتُظلَمُونَ فَتِيلاُ}. وكلمة "القطمير" وردت في القرآن مرة واحدة في سورة فاطر {والذينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَملِكُونَ مِن قِطمِيرٍ}...
والأمنية كما عرفنا هي أن يطمح الإنسان إلى شيء ممتع مسعد بدون رصيد من عمل، إن الحق سبحانه وتعالى حينما استخلف الإنسان في الأرض طلب منه أن يستقبل كل شيء صالح في الوجود استقبال المحافظ عليه، فلا يفسد الصالح بالفعل وإن أراد الإنسان طموحا إلى ما يسعد، فعليه أن يزيد الصالح صلاحا. فكم من أناس يعبرون الدنيا وتنقضي حياتهم فيها ولا يصنعون حسنة، فإذا قيل لهم: ولماذا تعيشون الحياة بلا عمل؟ يقولون: أحسنا الظن بالله. ونسمع الحسن البصري يقول لهؤلاء: ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا: نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل له. وسبحانه يقول لهؤلاء:"ليس بأمانيكم" أما إن كان الخطاب موجها لغير المؤمنين فالحق لم يمنع عطاء الدنيا لمن أخذ بالأسباب حتى ولو لم يؤمن، أما جزاء الآخرة فهو وعد منه سبحانه للمؤمنين الذين عملوا صالحا وهو الوعد الحق هذا الوعد الحق ليس بالأماني بل إن الوصول إلى هذا الوعد يكون بالعمل.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
يوحي لكل أتباع الأديان أن لا يستسلموا للأماني الذاتية بأن انتسابهم إليه يحقق لهم النتائج الجيدة على مستوى النعيم والفوز بالجنة في الآخرة، بعيداً عن العمل في هذا الاتجاه، فالله يريد للحياة أن تتحرك في الخطوط التي خططها في رسالاته، ويريد للإنسان أن يكون خليفته في الأرض من خلال ما يقوم به من بناء الحياة في نفسه وفي نفوس الآخرين وفي كل ما يتعلق بمسؤوليته الفردية والاجتماعية؛ فإذا لم يتحقق ذلك، كان هذا دليلاً على فقدانه للصدق في الإيمان، وبالتالي على خسرانه لكل نتائجه الإيجابية على مستوى المصير. ويتفرع عن ذلك، أن الإنسان المؤمن لا يخضع في تقييمه للعلاقات الإيمانية لمجرد الانتماء إلى الدين، بل يحاول أن يرتكز على العمل كأساس للتقييم، لأن المبدأ الذي تتحدث عنه الآية ليس مجرد مبدأ يتصل بتعامل الله مع الإنسان، بل يتصل بالصفة الحقيقية للانتماء؛ وفي ضوء ذلك يمكن أن تكون الآية واردة في الإشارة إلى قصة المسلم الذي سرق وأراد قومه تبرئته وإلصاق التهمة باليهودي، على أساس أن انتماءه للإسلام يبرّر ذلك؛ فجاءت الآيات هنا لتقول لهم: إن قيمة الانتماء إلى الإسلام تتحدد بمقدار الإخلاص العملي له، وذلك بالالتزام بالأمانة، وعدم الدفاع عن الخائنين، وعدم اتهام الناس بدون حق، أيّاً كان دينهم وعقيدتهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد بيّنت هذه الآية واحداً من أهم أعمدة أو أركان الإِسلام، هو أنّ القيمة الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب، لا تمت بصلة إِلى دعاوى وأُمنيات هذا الإِنسان مطلقاً، بل أن تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإِنسان وإِيمانه وأنّ هذا مبدأ ثابت، وسنّة غير قابلة للتغيير، وقانون تتساوى الأُمم جميعها أمامه، ولذلك تقول الآية في بدايتها: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب...) وتستطرد فتقول: (من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً)...