قوله تعالى : { وتحسبهم أيقاظاً } أي : منتبهين جمع يقظ ، ويقظ ، { وهم رقود } نيام ، جمع راقد مثل قاعد وقعود ، وإنما اشتبه حالهم لأنهم كانوا مفتحي الأعين يتنفسون ولا يتكلمون . { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } ، مرة للجنب الأيمن ومرة للجنب الأيسر . قال ابن عباس : كانوا يقلبون في السنة مرة من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم . وقيل كان يوم عاشوراء يوم تقلبهم . وقال أبو هريرة : كان لهم في كل سنة تقلبتان . { وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد } ، أكثر أهل التفسير على أنه كان من جنس الكلاب . وروي عن ابن جريج : أنه كان أسداً وسمي الأسد كلباً ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك " فافترسه أسد . والأول أصح . قال ابن عباس : كان كلباً أغر . ويروى عنه : فوق القلطى ودون الكرزي ، والقلطي : كلب صيني . وقال مقاتل كان أصفر . وقال القرظي : كان شدة صفرته تضرب إلى الحمرة . وقال الكلبي : لونه كالخلنج . وقيل : لون الحجر . قال ابن عباس : كان اسمه قطمير . عن علي : اسمه ريان . وقال الأوزاعي : يثور . وقال السدي : بور . وقال كعب صهبا . قال خالد بن معدان : ليس في الجنة شيء من الدواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعام . قوله { بالوصيد } قال مجاهد و الضحاك : والوصيد : فناء الكهف . وقال عطاء : الوصيد عتبة الباب . قوال السدي : الوصيد الباب ، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس . فإن قيل : لم يكن للكهف باب ولا عتبة ؟ قيل : معناه موضع الباب والعتبة ، كان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهم . قال السدي : كان أصحاب الكهف إذا انقلبوا انقلب الكلب معهم ، وإذا انقلبوا إلى اليمين كسر الكلب أذنه اليمنى ورقد عليها ، وإذا انقلبوا إلى الشمال كسر أذنه اليسرى ورقد عليها . { لو اطلعت عليهم } يا محمد { لوليت منهم فراراً } ، لما ألبسهما الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد ، حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقظهم الله تعالى من رقدتهم ، { ولملئت منهم رعباً } خوفاً ، قرأ أهل الحجاز بتشديد اللام والآخرون بتخفيفها . واختلفوا في أن الرعب كان لماذا : قيل من وحشة المكان . وقال الكلبي : لأن أعينهم كانت مفتحة ، كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم ، وهم نيام . وقيل : لكثرة شعورهم ، وطول أظفارهم ، ولتقلبهم من غير حس ولا شعور . وقيل : إن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يراهم أحد . وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف ، فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم . فقال ابن عباس رضي الله عنهم : لقد منع ذلك من هو خير منك ، فقال : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً فبعث معاوية ناساً فقال : اذهبوا فانظروا ، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم .
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } أي : تحسبهم أيها الناظر إليهم [ كأنهم ]{[486]} أيقاظ ، والحال أنهم نيام ، قال المفسرون : وذلك لأن أعينهم منفتحة ، لئلا تفسد ، فالناظر إليهم يحسبهم أيقاظا ، وهم رقود ، { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } وهذا أيضا من حفظه لأبدانهم ، لأن الأرض من طبيعتها ، أكل الأجسام المتصلة بها ، فكان من قدر الله ، أن قلبهم على جنوبهم يمينا وشمالا ، بقدر ما لا تفسد الأرض أجسامهم ، والله تعالى قادر على حفظهم من الأرض ، من غير تقليب ، ولكنه تعالى حكيم ، أراد أن تجري سنته في الكون ، ويربط الأسباب بمسبباتها .
{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } أي : الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف ، أصابه ما أصابهم من النوم وقت حراسته ، فكان باسطا ذراعيه بالوصيد ، أي : الباب ، أو فنائه ، هذا حفظهم من الأرض . وأما حفظهم من الآدميين ، فأخبر أنه حماهم بالرعب ، الذي نشره الله عليهم ، فلو اطلع عليهم أحد ، لامتلأ قلبه رعبا ، وولى منهم فرارا ، وهذا الذي أوجب أن يبقوا كل هذه المدة الطويلة ، وهم لم يعثر عليهم أحد ، مع قربهم من المدينة جدا ، والدليل على قربهم ، أنهم لما استيقظوا ، أرسلوا أحدهم ، يشتري لهم طعاما من المدينة ، وبقوا في انتظاره ، فدل ذلك على شدة قربهم منها .
وقوله { وتحسبهم } الآية ، صفة حال قد نقضت وجاءت أفعالها مستقبلة تجوزاً واتساعاً و { أيقاظاً } جمع يقظ كعضد وأعضاد ، وهو المنتبه قال أهل التفسير : كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون ، فلذلك كان الرائي يحسبهم { أيقاظاً } .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير ، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم ، ورب نائم على أحوال لم يتغير عن حالة اليقظة فيحسبه الرائي يقظاناً وإن كان مسدود العينين ، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ ، وقرأ الجمهور «ونقلبهم » بنون العظمة ، وقرأ الحسن «وَتَقلُّبُهم » بالتاء المفتوحة وضم اللام والباء ، وهو مصدر مرتفع بالابتداء ، قاله أبو حاتم ، وحكى ابن جني القراءة عن الحسن بفتح التاء وضم اللام وفتح الباء ، وقال هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال وترى أو تشاهد تقلبهم{[8]} .
وأبو حاتم أثبت ، ورأت فرقة أن التقلب هو الذي من أجله كان الرائي يحسبهم { أيقاظاً } وهذا وإن كان التقلب لمن صادف رؤيته دليلاً على ذلك ، فإن ألفاظ الآية لم تسقه إلا خبراً مستأنفاً ، وقال أبو عياض : كان هذا التقليب مرتين في السنة ، وقالت فرقة كل سبع سنين مرة ، وقالت فرقة إنما قلبوا في التسع الأواخر ، وأما في الثلاثمائة فلا ، وذكر بعض المفسرين أن تقلبهم إنما كان حفظاً من الأرض ، وروي عن ابن عباس أنه قال لو مستهم الشمس لأحرقتهم ، ولولا التقليب لأكلتهم الأرض .
قال القاضي أبو محمد : وآية الله في نومهم هذه المدة الطويلة وحياتهم دون تغد أذهب في الغرابة من حفظهم مع مس الشمس ولزوم الأرض ولكنها روايات تجلب . وتتأمل بعد{[7767]} ، وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان بأمر الله وفعل ملائكته ، ويحتمل أن يكون ذلك بإقدار الله إياهم على ذلك وهم في غمرة النوم لا ينتبهون كما يعتري كثيراً من النوام ، لأن القوم لم يكونوا موتى . وقوله { وكلبهم } أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة كان لصيد أحدهم فيما روي ، وقيل كان لراع مروا عليه فصحبهم وتبعه الكلب .
قال القاضي أبو محمد : وحدثني أبي رضي الله عنه ، قال : سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله ، وقيل كان أنمر{[7768]} ، وقيل أحمر ، وقالت فرقة كان رجلاً طباخاً لهم حكاه الطبري ولم يسم قائله ، وقالت فرقة : كان أحدهم وكان قعد عند باب الغار طليعة لهم .
قال القاضي أبو محمد : فسمي باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس ، كما سمي النجم التابع للجوزاء كلباً لأنه منها كالكلب من الإنسان ، ويقال له كلب الحيار : أما أن هذا القول يضعفه بسط الذراعين ، فإنهما في العرف من صفة الكلب حقيقة ومنه قول النبي عليه السلام : «ولا يبتسط أحدكم ذراعيه في السجود ابتساط الكلب »{[7769]} ، وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرىء «وكالبهم باسط ذراعيه » فيحتمل أن يريد ب «الكالب » هذا الرجل ، على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الربيئة{[7770]} ، المستخفي بنفسه ، ويحتمل أن يريد ب «الكالب » الكلب ، وقوله { باسط ذراعيه } أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي لأنها حكاية حال ، ولم يقصد الإخبار عن فعل الكلب ، و «الوصيد » العتبة لباب الكهف أو موضعها حيث ليست . وقال ابن عباس ومجاهد وابن جبير «الوصيد » الفناء ، وقال ابن عباس أيضاً «الوصيد » الباب ، وقال ابن جبير أيضاً «الوصيد » التراب ، والقول الأول أصح ، والباب الموصد هو المغلق ، أي قد وقف على وصيده ، ثم ذكر الله عز وجل ما حفهم من الرعب واكتنفهم من الهيبة ، وقرأ «لوِ اطلعت » بكسر الواو جمهور القراء ، وقرأ الأعمش وابن وثاب «لوُ اطلعت » بضمها . وقد ذكر ذلك عن نافع وشيبة وأبي جعفر ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عباس وأهل مكة والمدينة «لملّئت » بشد اللام على تضعيف المبالغة أي ملئت ثم ملئت ثم ملئت ، وقرأ الباقون «لمُلِئت » بتخفيف اللام والتخفيف أشهر في اللغة ، وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي : [ الطويل ]
وإذ فتك النعمان بالناس محرماً . . . فملىء من كعب بن عوف سلاسله{[7771]}
وقالت فرقة إنما حفهم هذا الرعب لطول شعورهم وأظفارهم ، ذكره المهدوي والزجاج ، وهذا قول بعيد ، ولو كانت حالهم هكذا ، لم يقولوا { لبثنا يوماً أبو بعض يوم } [ الكهف : 19 ] وإنما الصحيح في أمرهم ، أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها ، لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية ، فلم يبل لهم ثوب ، ولا تغيرت صفة ، ولا أنكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء ، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم ، ولروي ذلك ، وقرأ الجمهور «رعْباً » بسكون العين ، وقرأ «رعُباً » بضمها أبو جعفر وعيسى ، قال أبو حاتم : هما لغتان .