اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا} (18)

قوله : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً } أي : لو رأيتهم ، لحسبتهم .

وقال شهاب الدِّين : لا حاجة إلى هذا التقدير .

{ أَيْقَاظاً } : جمع " يَقُظٍ " بضم القاف ، وبجمع على يقاظٍ ، ويقظ وأيقاظ ، كعضدٍ وأعضادٍ ، ويقظ ويقاظ ، كرجلٍ ورجالٍ ، وظاهرُ كلام الزمخشريِّ أنه يقال : " يقظٌ " بالكسر ؛ لأنه قال : وأيقاظٌ جمع " يقظٍ " كأنكاد في " نكدٍ " .

وقال الأخفش ، وأبو عبيدة ، والزجاج : أيقاظٌ جمع يقظٍ ويقظان .

وأنشدوا [ لرؤبة ]{[20879]} : [ الرجز ]

ووَجدُوا إخْوانَهُم أيْقَاظا *** . . . . . . . . . . . . . {[20880]}

وقال البغوي{[20881]} : أيقاظاً جمع يقيظ ويقظ ، واليقظة : الانتباه عند النَّوم .

قال الواحديُّ{[20882]} : وإنما يحسبون أيقاظاً ؛ لأنَّ أعينهم مفتحةٌ ، وهم نيامٌ .

وقال الزجاج : لكثرة تقلبهم يظنُّ أنهم أيقاظٌ ؛ لقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } والرقود جمع راقدٍ ، كقاعدٍ وقعود .

فصل في مدة تقليبهم

اختلفوا في مقدار مدَّة التَّقليب{[20883]} :

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : " أنَّ لهم في كلِّ عام تَقْليبَتَيْنِ " {[20884]} وعن مجاهدٍ : يمكثون رقوداً على أيمانهم تسع سنينَ ، ثم ينقلبون على شمائلهم ، فيمكثون رقوداً تسع سنين{[20885]} .

وقيل : لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء .

قال ابن الخطيب{[20886]} : وهذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ، والقرآن لا يدل عليها ، وما جاء فيه خبر صحيح ، فكيف يعرف ؟ وقال ابن عباس : فائدة تقليبهم ؛ لئلا تأكل الأرض لحومهم وتبليهم{[20887]} .

قال ابن الخطيب{[20888]} : عجبت من ذلك ؛ لأنَّ الله تعالى قدر على أن يمسك حياتهم ثلاثمائة سنة وأكثر ، فلم لا يقدر على حفظ أجسامهم من غير تقليب ؟ ! .

قوله : " ونُقلِّبهُم " قرأ العامة " نُقلِّبهُم " مضارعاً مسنداً للمعظِّم نفسه .

وقرئ{[20889]} أيضاً بالياء من تحت ، أي : الله أو الملك ، وقرأ الحسن : " يُقلِبُهمْ " بالياء من تحت ساكن القاف ، مخفف اللام ، وفاعله ، إمَّا الله أو الملكُ .

وقرأ أيضاً " وتَقَلُّبَهُم " بفتح التاء ، وضمِّ اللام مشددة مصدر تقلَّب كقوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } [ الشعراء : 219 ] ونصب الباء ، وخرَّجه أبو الفتح على إضمار فعل ، أي : ونرى تقلُّبهم ، أو نشاهد تقلُّبهم ، وروي عنه أيضاً رفع الباء على الابتداءِ ، والخبر الظرف بعده ، ويجوز أن يكون محذوفاً ، أي : آية عظيمة . وقرأ{[20890]} عكرمة " وتقلبُهمْ " بتاء التأنيث مضارع " قَلبَ " مخفَّفاً ، وفاعله ضمير الملائكةِ المدلولِ عليهم بالسِّياق .

وقوله : " ذَاتَ " منصوب على الظَّرف ، لأنَّ المعنى : ونُقلِّبُهمْ من ناحية اليمين أو على ناحية " اليمين " كما تقدَّم في قوله : { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين } [ الكهف : 17 ] .

وقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } .

قرأ العامة " وكَلْبُهمْ " وقرأ جعفر{[20891]} الصادق " كَالبُهمْ " أي : صاحب كلبهم كلابنٍ وتامر ، ونقل أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلبٍ " وكَالِئُهُمْ " بهمزة مضمومة اسم فاعل من كَلأ يَكْلأُ أي : حفظ يحفظُ .

و " باسطٌ " اسم فاعل ماض ، وإنما عمل على حكاية الحال ، والكسائي يعمله ، ويستشهد بالآية .

والوَصِيدُ : الباب ؛ قاله ابن عبَّاس والسديُّ . وقيل : العَتبَةُ .

والكهفُ لا يكون له بابٌ ، ولا عتبة ، وإنما أراد موضع الباب .

وقال الزجاج : الوصيد فناءُ البيت ، وفناء الدَّار .

وقيل : الصَّعيدُ والتُّراب .

قال الشاعر : [ الطويل ]

بأرْضِ فَضاءٍ لا يسدُّ وصيدُها *** عَليَّ ومَعرُوفِي بها غَيْرُ مُنْكرِ{[20892]}

وجمعه : وصائد ووصدٌ .

وقيل : الوصيدُ : الصَّعيدُ والتراب .

قال يونس ، والأخفش ، والفراء : الأصيدُ والوصيدُ لغتان ؛ مثل : الوكاف والإكاف .

وقال مجاهدٌ ، والضحاك : " الوَصِيدُ " : الكهف{[20893]} .

وأكثر المفسرين على أنَّ الكلب كان من جنس الكلاب .

وروي عن ابن جريج : أنه كان أسداً ، وسمِّي الأسد كلباً{[20894]} ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهبٍ ، فقال : " اللَّهُم سلِّط عليه كلباً من كِلابِكَ " فافترسه الأسدُ{[20895]} .

قال ابن عباس : كان كلباً أغرَّ ، واسمه قطميرٌ ، وعن عليِّ : اسمه " ريَّان " {[20896]} .

وقال الأوزاعي : يشور{[20897]} قال السدي : يور{[20898]} .

وقال كعبٌ : صهباً{[20899]} .

وقال مقاتل : كان كلباً أصفر{[20900]} .

وقال الكلبيُّ : لونه كالحليج{[20901]} ، وقيل غير ذلك .

قال خالد بن معدان : ليس في الجنَّة من الدوابِّ إلاَّ كلب أصحاب الكهف ، وحمار بلعام{[20902]} .

قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هربوا من ملكهم فمرُّوا براعٍ ، معه كلبٌ ، فتبعهم على دينهم ، ومعه كلبه{[20903]} .

وقال الكلبيُّ : مرُّوا بكلبٍ فنبح عليهم ، فطردوه ، فعاد ، ففعلوا ذلك مراراً ، فقال لهم الكلب : لا تخشوا جانبي ؛ فإنِّي أحبُّ أحبَّاء الله ، فناموا ؛ حتَّى أحرسكم{[20904]} .

فصل

قال عبيد بن عميرٍ : كان ذلك كلب صيدهم ، ومعنى { بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } ، أي : ألقاها على الأرض مبسوطتين ، غير مقبوضتين .

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " اعتدلوا في السُّجودِ ، ولا يَبْسُط أحدكم ذِرَاعيْهِ انْبسَاطَ الكلْبِ " {[20905]} .

قال المفسرون : كان الكلب قد بسط ذراعيه ، وجعل وجهه عليهما .

قوله : { لَوِ اطلعت } العامَّة على كسر الواو من " لَو اطَّلعْتَ " على أصل التقاء الساكنين ، وقرأها{[20906]} مضمومة أبو جعفرٍ ، وشيبة ، ونافع ، وابن وثَّاب ، والأعمش ؛ تشبيهاً بواوِ الضمير ، وتقدَّم تحقيقه .

قوله : { لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً } لما ألبسهم الله من الهيبة ؛ حتَّى لا يصل إليهم أحدٌ ؛ حتى يبلغ الكتاب أجله ، فيوقظهم الله من رقدتهم .

" فِرَاراً " يجوز أن يكون منصوباً على المصدر من معنى الفعل قبله ؛ لأنَّ التولِّي والفرارَ من وادٍ واحدٍ ، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحالِ ، أي : فارًّا ، ويكون حالاً مؤكدة ، ويجوز أن يكون مفعولاً له .

قوله : { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } قرأ ابن كثير{[20907]} ، ونافع " لمُلِّئْتَ " بالتشديد على التكثير . وأبو جعفرٍ ، وشيبة كذلك ، إلا أنه بإبدال الهمزة ياء ، والزهري بتخفيف اللام والإبدال ، وهو إبدال قياسي والباقون بتخفيف اللام ، و " رُعباً " مفعول ثانٍ : وقيل : تمييزٌ .

قال الأخفش : الخفيفة أجود في كلام العربِ .

يقولون : ملأتنِي رعباً ، ولا يكادون يعرفون ملأتنِي ؛ ويدل على هذا أكثر استعمالهم ؛ كقوله : [ الوافر ]

فَتَمْلأ بَيْتنَا أقِطاً وسَمْنَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . {[20908]}

وقول الآخر : [ الطويل ]

3502أ- ومن مالِئٍ عَيْنَيْهِ مِنْ شيءِ غَيْرِهِ *** إذَا رَاحَ نحو الجمْرَةِ البِيضُ كالدُّمَى

وقال الآخر : [ الرجز ]

3502ب- لا تَمْلأ الدَّلْو وعَرِّقْ فيها{[20909]}

وقال الآخر : [ الرجز ]

امْتَلأ الحَوضُ وقَالَ قَطْنِي{[20910]} *** وقد جاء التثقيل أيضاً ، أنشدوا للمخبَّل السعديِّ : [ الطويل ]

وإذْ قتل النُّعْمانُ بالنَّاسِ مُحرِمَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . {[20911]}

وقرأ ابن عامر والكسائي " رُعباً " بضمِّ العين في جميع القرآن ، والباقون بالإسكان .

فصل في سبب الرعب

اختلفوا في ذلك الرُّعب{[20912]} كان لماذا ؟ فقيل : من وحشة المكان ، وقال الكلبي : لأنَّ أعينهم مفتَّحة ، كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلَّم ، وهم نيامٌ{[20913]} .

وقيل : لكثرة شعورهم ، وطول أظفارهم ، وتقلُّبهم من غير حسٍّ ، كالمستيقظ .

وقيل : إنَّ الله تعالى ، منعهم بالرُّعب ؛ لئلاَّ يراهم أحدٌ .

ورُوِيَ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاس ، قال : غزونا مع مُعاويةَ نحو الرُّوم ، فمَررْنَا بالكَهْفِ الذي فِيهِ أصْحابُ الكهفِ ، فقال مُعاوِيةُ : لو كُشِفَ لنَا عنْ هؤلاءِ ، لنَظَرْنَا إليْهِمْ ، فقَال ابْنُ عبَّاسٍ : قَدْ مَنَعَ الله ذلِكَ مَنْ هُو خَيْرٌ مِنْكَ : { لو اطَّلعْتَ عَليْهِم لولَّيتَ مِنهُم فراراً } ، فبعث معاوية ناساً ، فقال : اذهبوا ، فانظروا ، فلمَّا دخلوا الكهف ، بعث الله عليهم ريحاً ، أخرجتهم{[20914]} .


[20879]:في أ: ذو الرمة.
[20880]:صدر بيت وعجزه: وسيف غياظ لهم غياظا ينظر: مجاز القرآن 1/397، والشطران في ديوان العجاج 81 ـ 82، ومعاني القرآن وإعرابه 3/274، والطبري 8/194، والرازي 21/85.
[20881]:ينظر: معالم التنزيل 3/154.
[20882]:ينظر: الفخر الرازي 21/86.
[20883]:ينظر: الفخر الرازي 21/86.
[20884]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/154) عن أبي هريرة ومثله عن ابن عباس ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/391) عزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[20885]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/391) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وينظر: تفسير الرازي (21/86).
[20886]:ينظر: الفخر الرازي 21/86.
[20887]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/354) والرازي (21/86) والقرطبي (10/241).
[20888]:ينظر : الفخر الرازي 21/86.
[20889]:ينظر في قراءتها: المحتسب 2/26، والإتحاف 2/211، والشواذ 78، والكشاف 2/709، والبحر 6/105، والدر المصون 4/442.
[20890]:نسبها في الإتحاف 2/211 إلى الحسن.
[20891]:ينظر: البحر 6/105، والدر المصون 4/441.
[20892]:البيت لزهير ينظر: البحر المحيط 6/92، والكشاف (2/710)، القرطبي 10/243، روح المعاني 15/226، العمدة 2/81، الدر المصون 4/443.
[20893]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/195) عن مجاهد وقتادة.
[20894]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/391) وعزاه إلى ابن المنذر.
[20895]:تقدم تخريجه.
[20896]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/154) والقرطبي (10/241).
[20897]:ينظر: المصدر السابق.
[20898]:ينظر: المصدر السابق.
[20899]:ينظر: المصدر السابق.
[20900]:ينظر: المصدر السابق.
[20901]:ينظر: المصدر السابق.
[20902]:ينظر: تفسير البغوي (3/154)، القرطبي (10/241).
[20903]:ينظر: المصدر السابق.
[20904]:ينظر: المصدر السابق.
[20905]:تقدم تخريجه.
[20906]:ينظر: الإتحاف 2/211، والقرطبي 10/243، والبحر 6/106، والدر المصون 4/443.
[20907]:ينظر في قراءتها: السبعة 389، والحجة 413، والنشر 2/310، والتيسير 143، والإتحاف 2/211، والحجة للقراء السبعة 5/134، والبحر 6/106.
[20908]:صدر البيت لامرىء القيس وروايته: فتوسِع أهلها................................ وحسبك من غنى شبع وري ينظر: ديوانه (137)، والرازي 21/86.
[20909]:ينظر: الرازي 21/87.
[20910]:صدر بيت وعجزه: مهلا رويدا قد ملأت بطني ينظر: إصلاح المنطق ص 57، 342، والإنصاف ص 130، وأمالي المرتضى 2/309؛ وتخليص الشواهد ص 111؛ وجواهر الأدب ص 151؛ والخصائص 1/23؛ ورصف المباني ص 362؛ وسمط اللآلي ص 475، وشرح الأشموني 1/57؛ وشرح المفصل 1/82، 2/131، 3/125؛ وكتاب اللامات ص 140؛ ولسان العرب (قطط)، (قطن)؛ ومجالس ثعلب ص 189؛ والمقاصد النحوية 1/361، والرازي 21/87.
[20911]:صدر بيت وعجزه: فملىء من عوف بن كعب سلاسله ينظر: اللسان (حرم) وفيه "فتك" بدلا من "قتل" ، والرازي 21/87.
[20912]:ينظر: معالم التنزيل 3/155.
[20913]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/155).
[20914]:ذكره الماوردي من "تفسيره" (3/293).