معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

قوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } . القرض : اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه ، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له رجاء ما أعد لهم من الثواب قرضاً ، لأنهم يعملونه لطلب ثوابه ، قال الكسائي : القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيء ، وأصل القرض في اللغة القطع ، سمي به القرض لأنه يقطع به من ماله شيئا يعطيه ليرجع إليه مثله ، وقيل : في الآية اختصار مجازه من ذا الذي يقرض عباد الله ، والمحتاجين من خلقه ، كقوله تعالى : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله ) أي يؤذون عباد الله ، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يقول يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي " . وقوله عز وجل : ( يقرض الله ) أي ينفق في طاعة الله ( قرضاً حسناً ) قال الحسين بن علي الواقدي : يعني محتسباً ، طيبة بها نفسه ، وقال ابن المبارك : من مال حلال وقيل لا يمن به ولا يؤذي .

قوله تعالى : { فيضاعفه له } . قرأ ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب ، فيضعفه ، وبابه بالتشديد ، ووافق أبو عمرو في سورة الأحزاب وقرأ الآخرون فيضاعفه بالألف مخففاً وهما لغتان ، ودليل التشديد قوله ( أضعافاً كثيرة ) لأن التشديد للتكثير ، وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب الفاء ، وكذلك في سورة الحديد على جواب الاستفهام ، وقيل بإضمار أن ، وقرأ الآخرون برفع الفاء نسقاً على قوله : { يقرض } .

قوله تعالى : { أضعافاً كثيرة } . قال السدي هذا التضعيف لا يعلم إلا الله عز وجل ، وقيل سبعمائة ضعف .

قوله تعالى : { والله يقبض ويبسط } . قرأ أهل البصرة وحمزة يبسط ، هاهنا وفي الأعراف ، بسطة ، بالسين كنظائرهما ، وقرأهما الآخرون بالصاد قيل : يقبض بإمساك الرزق والنفس والتقتير ويبسط بالتوسيع وقيل : يقبض بقبول التوبة والصدقة ويبسط بالخلف والثواب ، وقيل : هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ، ومن مد له في عمره فقد بسط له ، وقيل : هذا في القلوب ؟ لما أمرهم الله تعالى بالصدقة أخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه ، قال : يقبض بعض القلوب فلا ينشط بخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيراً كما جاء في الحديث " القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء " الحديث .

قوله تعالى : { وإليه ترجعون } . أي إلى الله تعودون فيجزيكم بأعمالكم ، قال قتادة : " الهاء " راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور ، أي من التراب خلقهم وإليه يعودون .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

ولما كان القتال فى سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذلك ، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغب فيه ، وسماه قرضا فقال : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } فينفق ما تيسر من أمواله في طرق الخيرات ، خصوصا في الجهاد ، والحسن هو الحلال المقصود به وجه الله تعالى ، { فيضاعفه له أضعافا كثيرة } الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، بحسب حالة المنفق ، ونيته ونفع نفقته والحاجة إليها ، ولما كان الإنسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى هذا الوهم بقوله : { والله يقبض ويبسط } أي : يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عمن يشاء ، فالتصرف كله بيديه ومدار الأمور راجع إليه ، فالإمساك لا يبسط الرزق ، والإنفاق لا يقبضه ، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله ، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملا موفرا مضاعفا ، فلهذا قال : { وإليه ترجعون } فيجازيكم بأعمالكم .

ففي هذه الآيات دليل على أن الأسباب لا تنفع مع القضاء والقدر ، وخصوصا الأسباب التي تترك بها أوامر الله . وفيها : الآية العظيمة بإحياء الموتى أعيانا في هذه الدار . وفيها : الأمر بالقتال والنفقة في سبيل الله ، وذكر الأسباب الداعية لذلك الحاثة عليه ، من تسميته قرضا ، ومضاعفته ، وأن الله يقبض ويبسط وإليه ترجعون .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

وقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيله ، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع . وفي حديث النزول [ أنه يقول تعالى ]{[4207]} " من يقرض غير عديم ولا ظلوم " وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : " نعم يا أبا الدحداح " قال : أرني يدك يا رسول الله . قال : فناوله يده قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي . قال : وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها . قال : فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أم الدحداح . قالت : لبيك قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل . وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر مرفوعًا بنحوه{[4208]} .

وقوله : { قَرْضًا حَسَنًا } روي عن عمر وغيره من السلف : هو النفقة في سبيل الله . وقيل : هو النفقة على العيال .

وقيل : هو التسبيح والتقديس وقوله : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } كما قال : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } الآية [ البقرة : 261 ] . وسيأتي الكلام عليها .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد{[4209]} أخبرنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي ، قال : أتيت أبا هريرة فقلت له : إنه بلغني أنك تقول : إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة . فقال : وما أعجبك من ذلك ؟ لقد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة " {[4210]} .

هذا حديث غريب ، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير ، لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال :

حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب ، حدثنا يونس بن محمد المؤدب ، حدثنا محمد بن عقبة الرباعي{[4211]} عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي ، قال : لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني فقدم قبلي حاجا قال : وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة " فقلت : ويحكم ، والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني ، فما سمعت هذا الحديث . قال : فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث ، فلقيته لهذا فقلت : يا أبا هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك ؟ قال : ما هو ؟ قلت : زعموا أنك تقول : إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة . قال : يا أبا عثمان وما تعجب{[4212]} من ذا والله يقول : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } ويقول : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة " {[4213]} .

وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار عن سالم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دخل سوقًا من الأسواق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة " الحديث{[4214]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام حدثنا أبو إسماعيل المؤدب ، عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر قال : لما نزلت { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } [ البقرة : 261 ] إلى آخرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رب زد أمتي " فنزلت : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } قال : رب زد أمتي . فنزل : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] . {[4215]} .

وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن كعب الأحبار : أنه جاءه رجل فقال : إني سمعت رجلا يقول : من قرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] مرة واحدة بنى الله له عشرة{[4216]} آلاف ألف غرفة من در وياقوت في الجنة أفأصدق بذلك ؟ قال : نعم ، أو عجبت من ذلك ؟ قال : نعم وعشرين ألف ألف وثلاثين ألف ألف وما يحصي ذلك إلا الله ثم قرأ { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } فالكثير من الله لا يحصى .

وقوله : { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } أي : أنفقوا ولا تبالوا فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين ، له الحكمة البالغة في ذلك { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : يوم القيامة .


[4207]:زيادة من و.
[4208]:جزء الحسن بن عرفة برقم (87) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (417) تحقيق الدكتور الحميد، ومن طريقه رواه الطبراني في المعجم الكبير (22/301) عن خلف به نحوه، وحميد الأعرج ضعيف، لكن للحديث شواهد من حديث أنس وعمر رضي الله عنهما.
[4209]:في جـ: "يزيد بن هارون".
[4210]:المسند (2/296).
[4211]:كذا في أ، و، هـ. وفي الجرح لابن أبي حاتم (4/1/36): "محمد بن عقبة، روى عن زياد الجصاص، وروى عنه يونس بن محمد المؤدب. حدثنا عبد الرحمن قال: سألت أبي عنه فقال: شيخ. قلت: فإن يونس بن محمد يقول: الرفاعي. قال: ليس هو الرفاعي، هو من قبيلة أخرى"، مستفادا من هامش ط. الشعب.
[4212]:في جـ: "وما يعجبك".
[4213]:ورواه أحمد في المسند (5/521) من طريق علي بن زيد، عن أبي عثمان به.
[4214]:سنن الترمذي برقم (3429) وقال: "عمرو بن دينار هذا هو شيخ بصري، وقد تكلم فيه بعض أصحاب الحديث من غير هذا الوجه".
[4215]:ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1648) "موارد" من طريق حفص المقرئ، عن أبي إسماعيل المؤدب به.
[4216]:في جـ: "عشر".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 245 )

ثم قال تعالى : { من ذا الذي يقرض الله } الآية ، فدخل في ذلك المقاتل في سبيل الله فإنه يقرض رجاء الثواب ، كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة ، ويروى أن هذه الآية لما نزلت قال أبو الدحداح( {[2358]} ) : «يا رسول الله أَوَ إن الله يريد منا القرض ؟ » قال : «نعم ، يا أبا الدحداح » ، قال : فإني قد أقرضت الله حائطي « : لحائط فيه ستمائة نخلة ، ثم جاء الحائط وفيه أم الدحداح ، فقال : اخرجي فإني قد أقرضت ربي حائطي هذا ، قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » كم من عذق مذلل( {[2359]} ) لأبي الدحداح في الجنة »( {[2360]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويقال فيه ابن الدحداحة( {[2361]} ) ، واستدعاء القرض في هذه الآية إنا هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه من شبه القرض بالعمل للثواب ، والله هو الغني الحميد ، لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض ، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء ، وقد ذهبت اليهود في مدة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التخليط على المؤمنين بظاهر الاستقراض وقالوا إلهكم محتاج يستقرض ، وهذا بين الفساد( {[2362]} ) ، وقوله { حسناً } معناه تطيب فيه النية ، ويشبه أيضاً أن تكون إشارة إلى كثرته وجودته ، واختلف القراء في تشديد العين وتخفيفها ورفع الفاء ونصبها وإسقاط الألف وإثباتها من قوله تعالى : { فيضاعفه } فقرأ ابن كثير " فيضعّفُه " برفع الفاء من غير ألف وتشديد العين في جميع القرآن وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه نصب الفاء في جميع القرآن ، ووافقه عاصم على نصب الفاء إلا أنه أثبت الألف في " فيضاعفه " في جميع القرآن ، وكان أبو عمرو لا يسقط الألف من ذلك كله إلا من سورة الأحزاب . قوله تعالى : { يضعف لها العذاب } [ الأحزاب : 30 ] ، فإنه بغير ألف كان يقرأه ، وقرأ حمزة والكسائي ونافع ذلك كله بالألف ورفع الفاء . فالرفع في الفاء يتخرج على وجهين : أحدهما العطف على ما في الصلة .

وهو يقرض ، والآخر أن يستأنف الفعل ويقطعه ، قال أبو علي : «والرفع في هذا الفعل أحسن » .

قال القاضي أبو محمد : لأن النصب إنما هو بالفاء في جواب الاستفهام ، وذلك إنما يترتب إذا كان الاستفهام عن نفس الفعل الأول ثم يجيء الثاني مخالفاً له . تقول : أتقرضني فأشكرك ، وها هنا إنما الاستفهام عن الذي يقرض لا عن الإقراض ، ولكن تحمل قراءة ابن عامر وعاصم في النصب على المعنى ، لأنه لم يستفهم عن فاعل الإقراض إلا من أجل الإقراض ، فكأن الكلام أيقرض أحد الله فيضاعفه له ، ونظير هذا في الحمل على المعنى قراءة من قرأ { من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم } [ الأعراف : 186 ] بجزم { نذرهم }( {[2363]} ) ، لما كان معنى قوله { فلا هادي له } [ الأعراف : 186 ] فلا يهد وهذه الأضعاف الكثيرة هي إلى السبعمائة التي رويت ويعطيها مثال السنبلة( {[2364]} ) ، وقرأ ابن كثير { يبسط } بالسين ، ونافع بالصاد في المشهور عنه( {[2365]} ) ، وقال الحلواني عن قالون عن نافع : إنه لا يبالي كيف قرأ بسطة ويبسط بالسين أو بالصاد ، وروى أبو قرة عن نافع { يبسط } بالسين ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يسعر بسبب غلاء خيف على المدينة ، فقال : «إن الله هو الباسط القابض ، وإني لأرجوا أن ألقى الله ولا يتبعني أحد بمظلمة في نفس ولا مال »( {[2366]} ) .


[2358]:- صحابي جليل، قال أبو عمر بن عبد البر: لم أقف على اسمه ونسبه إلا أنه حليف الأنصار، فهو أنصاري بالحلف. وقال الحافظ بن حجر: إنه عاش إلى زمن معاوية رضي الله عنهما.
[2359]:- من ذلك قوله تعالى: [وذُلِّلت قطوفها تدليلا] وفي رواية: (كم من عذق رداح، ودار فياح، لأبي الدحداح).
[2360]:- روى ذلك البزار، وابن أبي حاتم، وابن جرير، من طريق حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود، ورواه الحافظ ابن مردويه، وابن جرير أيضا من حديث زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وروى الإمام القرطبي في تفسيره حديث ابن مسعود بإسناده الخاص.
[2361]:- جاء في "الإصابة" (4/60) – أن الذي يقال له: أبو الدحداحة – اسمه (ثابت) وثابت هذا جُرح في أحد فقيل: مات بها، وقيل: انتفضت فمات بعد ذلك بمدة وهو الراجح وأما صاحب الترجمة فعاش إلى زمن معاوية – وروى- فيما أخرجه أبو نعيم- أنه قال لمعاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت الدنيا همته حرّم الله عليه جواري...) ومعنى هذا أن أبا الدحداح المذكور هنا لا يقال له: أبو الدحداحة.
[2362]:- لما نزل قوله تعالى: [من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة] قال أبو الدحداح: إن الله كريم استقرض من ما أعطانا، وفي رواية: قال أبو الدحداح: يستقرضنا وهو غني، فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم – ليدخلكم الجنة)، وقالت اليهود: إن الله فقير ونحن أغنياء، ففهْمُ أبي الدحداح هو الفِقْه وهو الباطن المراد المقصود، وفهم اليهود لم يزد على مجرد القول العربي الظاهر، ثم حمل استقراض الرب الغني على استقراض العبد الفقير عافانا الله من ذلك. ومن هنا نعلم أن كل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار لله بالربوبية فذلك هو الباطن المراد الذي أنزل القرآن من أجله – وأما الفرقة الثالثة فقد شحت وبخلت فما أقرضت ولا تصدقت: [ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء].
[2363]:- من الآية (186) من سورة الأعراف، وقد قُرئ بالياء والنون مع الرفع، وبالياء لا غير مع الجزم.
[2364]:- أخرج البخاري ومسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه عز وجل – قال: (إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بيّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة) انتهى.
[2365]:- مقابلة ما رواه أبو قرة عن نافع من قراءته بالسين.
[2366]:- رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن جرير، وفي هذا الحديث النهي عن التسعير، وأجاز الإمام مالك وبعض الأئمة ذلك إذا ظهرت مصلحته، وكانت له فائدة مرجوة، وأجابوا عن هذا الحديث بأنه محمول على صورتين – الأولى: أن يسعر الثمن ويقال: لا تبيعوا إلا به ربحتم أو خسرتم، والثانية: التسعير على الجالب – فهاتان الصورتان لا يجوز التسعير فيهما، وذلك محل اتفاق.