فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) لما أمر سبحانه بالقتال والجهاد أمر بالإنفاق في ذلك ، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الصالح الذي يستحق به فاعله الثواب ، وأصل القرض انه إسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء ، يقال أقرض فلانا فلانا أي أعطاه ما يتجازاه ، وقال الزجاج : القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيء .

وقال الكسائي : القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيء ، وأصل الكلمة القطع ومنه المقراض .

واستدعاء القرض في الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه ، والله هو الغني الحميد ، شبه عطاء المؤمن ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه اعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء .

وقيل كنى عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام ، ففي الحديث الصحيح إخبار عن الله عز وجل " يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني ، قال يارب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي " وكذا فيما قبله أخرجه مسلم والبخاري وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به .

وقوله ( حسنا ) أي طيبة به نفسه من دون من ولا أذى ، وقيل محتسبا ، وقيل هو الانفاق من المال الحلال في وجوه البر ، وقيل هو الخالص لله تعالى ولا يكون فيه رياء ولا سمعة .

وقد اختلف في تقدير هذا التضعيف على أقوال ، وقيل لا يعلمه إلا الله وحده ، قاله السدي وهذا هو الأولى ، وإنما أبهم الله ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود ، وقيل إلى سبعمائة ضعف ، وقيل غير ذلك .

وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله إن الله ليريد منا القرض ؟ قال نعم ، قال : أرني يدك يا رسول الله فناوله يده قال : فاني قد أقرضت ربي حائطي وله فيه ستمائة نخلة{[242]} .

وقد أخرج هذه القصة جماعة من المحدثين .

وأخرج أحمد وابن المنذر من حديث أبي هريرة وفيه قال : والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة " {[243]} .

وأخرج ابن حبان في صحيحه والبيهقي وغيرهما عن ابن عمر قال لما نزلت ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ) إلى آخرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رب زد أمتي " فنزلت ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) قال رب زد أمتي ، فنزلت ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) .

وأخرج ابن المنذر عن سفيان قال لما نزلت ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رب زد أمتي ، فنزلت ( من ذا الذي يقرض الله ) قال رب زد أمتي ، فنزلت ( مثل الذين ينفقون أموالهم ) قال رب زد أمتي فنزلت ( إنما يوفى الصابرون ) وفي الباب أحاديث هذه أحسنها .

( والله يقبض ويبسط ) حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كيلا تبدل أحوالكم ، ولعل تأخير البسط عن القبض في الذكر للإيماء إلى أنه يعقبه في الوجود تسلية للفقراء ، هذا عام في كل شيء فهو القابض الباسط ، والقبض التقتير ، والبسط التوسيع ، وفيه وعيد بأن بخل من البسط يوشك أن يبدل بالقبض ، ولهذا قال ( وإليه ترجعون ) أي هو يجازيكم بما قدمتم عند الرجوع إليه ، فإن أنفقتم مما وسع به عليكم أحسن إليكم ، وإن بخلتم عاقبكم .

وعن قتادة يقبض الصدقة ويبسط قال يخلف ( وإليه ترجعون ) قال : من التراب وإلى التراب تعودون .

وعن ابن زيد قال : علم الله فيمن يقاتل في سبيل الله من لا يجد قوة وفيمن لا يقاتل في سبيل الله فندب هؤلاء إلى القرض فقال ( من ذا الذي يقرض الله ) قال : يبسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده ، ويقبض عن هذا هو يطيب نفسا بالخروج ويخلف له فقوه مما بيدك يكن لك الحظ .

وقيل المعنى أن الله يقبض بعض القلوب حتى لا تقدر على الانفاق في الطاعة وعمل الخير ويبسط بعض القلوب حتى تقدر على فعل الطاعات والإنفاق في البر .

وعن ابن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم مصرف القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك " أخرجه مسلم{[244]} .

وهذا الحديث من أحاديث الصفات التي يجب الإيمان بها وإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ، وبهذا قال سلف هذه الأمة وأئمتها .


[242]:رواه ابن ابي حاتم باسناد ضعيف،مجمع الزوائد 6/321 .
[243]:رواه احمد في المسند من طريق مبارك بن فضاله عن علي بن زيد بن جدعان عن ابي عثمان النهدي. والحديث حسن.
[244]:رواه مسلم/2645 عن عبد الله بن عمرو بن العاص.