الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} طيبة بها نفسه محتسبا. {فيضاعفه له} بها {أضعافا كثيرة}.

{والله يقبض ويبصط}: يقتر ويوسع. {وإليه ترجعون}؛ فيجزيكم بأعمالكم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

من هذا الذي ينفق في سبيل الله، فيعين مضعفا، أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله، ويعطي منهم مقترا؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه.

وإنما سماه الله تعالى ذكره "قرضا"، لأن معنى القرض: إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له، ليقضيه مثله إذا اقتضاه. فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة، سماه "قرضا"، إذ كان معنى القرض في لغة العرب ما وصفنا.

وإنما جعله تعالى ذكره "حسنا"، لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه، احتسابا منه. فهو لله طاعة، وللشياطين معصية. وليس ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه، ولكن ذلك كقول العرب: عندي لك قرض صدق، وقرض سوء، للأمر يأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته.

فقرض المرء: ما سلف من صالح عمله أو سيئه. وهذه الآية نظيرة الآية التي قال الله فيها تعالى ذكره: "مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ".

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، جاء ابن الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ مما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين: إحداهما بالعالية، والأخرى بالسافلة، وإني قد جعلت خيرهما صدقة! قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كم من عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة "!.

وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: "فيضاعفه" بالألف ورفعه، بمعنى: الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له نسق يضاعفُ على قوله: يقرضُ .

وقرأه آخرون بذلك المعنى: "فيضعِّفه"، غير أنهم قرؤوا بتشديد العين وإسقاط الألف.

وقرأه آخرون: "فيضاعفه له" بإثبات الألف في يضاعف ونصبه، بمعنى الاستفهام. فكأنهم تأولوا الكلام: من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له؟ فجعلوا قوله: "فيضاعفه" جوابا للاستفهام، وجعلوا: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" اسما. لأن "الذي" وصلته.

وأولى هذه القراءات عندنا بالصواب، قراءة من قرأ: (فيضاعفه له) بإثبات "الألف". ورفع" يضاعف". لأن في قوله: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" معنى الجزاء. والجزاء إذا دخل في جوابه "الفاء"، لم يكن جوابه ب" الفاء "لا رفعا. فلذلك كان الرفع في" يضاعفه "أولى بالصواب عندنا من النصب. وإنما اخترنا" الألف "في" يضاعف "من حذفها وتشديد" العين"، لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب.

"وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ": أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة، واتخذوه ربا دونه يعبدونه. وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم... حدثنا به محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا حجاج وحدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي قال، حدثنا حجاج وأبو ربيعة قالا حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد وقتادة، عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر فأسعر لنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله الباسط القابض الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال"..

يعني بذلك صلى الله عليه وسلم: أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره. فكذلك قوله تعالى ذكره:،" والله يقبض ويبسط"، يعني بقوله: "يقبض"، يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه ويعني بقوله: و" يبسط "يوسع ببسطة الرزق على من يشاء منهم.

وإنما أراد تعالى ذكره بقيله ذلك، حث عباده المؤمنين- الذين قد بسط عليهم من فضله، فوسع عليهم من رزقه- على تقوية ذوي الإقتار منهم بماله، ومعونته بالإنفاق عليه وحمولته على النهوض لقتال عدوه من المشركين في سبيله، فقال تعالى ذكره: من يقدم لنفسه ذخرا عندي بإعطائه ضعفاء المؤمنين وأهل الحاجة منهم ما يستعين به على القتال في سبيلي، فأضاعف له من ثوابي أضعافا كثيرة مما أعطاه وقواه به؟ فإني -أيها الموسع- الذي قبضت الرزق عمن ندبتك إلى معونته وإعطائه، لأبتليه بالصبر على ما ابتليته به والذي بسطت عليك لأمتحنك بعملك فيما بسطت عليك، فأنظر كيف طاعتك إياي فيه، فأجازي كل واحد منكما على قدر طاعتكما لي فيما ابتليتكما فيه وامتحنتكما به، من غنى وفاقة، وسعة وضيق، عند رجوعكما إلي في آخرتكما، ومصيركما إلي في معادكما.

"وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ": وإلى الله معادكم، أيها الناس، فاتقوا الله في أنفسكم أن تضيعوا فرائضه وتتعدوا حدوده، وأن يعمل من بسط عليه منكم من رزقه بغير ما أذن له بالعمل فيه ربه، وأن يحمل المقتر منكم- إذ قبض عن رزقه- إقتاره على معصيته، والتقدم على ما نهاه، فيستوجب بذلك عند مصيره إلى خالقه، ما لا قبل له به من أليم عقابه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} عامل الله تعالى عباده بلطفه وكرمه معاملة من لا حق له في أموالهم لا كمعاملة العباد بعضهم بعضا، وإن كان العبيد وأموالهم كلهم له حين طلب منهم الإقراض كبعضهم من بعض، ثم وعد لهم الثواب على ذلك، فقال: {فيضاعفه له أضعافا كثيرة} ثم لما سمع اليهود ذلك قالوا: إن إله محمد فقير؛ وهو قوله: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181]، ومرة قالوا لما رأوا الشدة على بعض الناس: إنما يفعل ذلك ببخله حين قالوا: {يد الله مغلولة} [المائدة: 64]، فرأوا المنع إما للبخل وإما للفقر، فأكذبهم الله في قلوبهم ذلك، فقال: {والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون}، قيل: {يقبض} أي يقتر، {ويبصط} أي يوسع وقيل: {يقبض} ما أعطى أي يأخذ {ويبصط} ويترك ما أعطى، ولا يأخذ منه شيئا...

{من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} الآية] في توجيه الآية إليه وجهان:

فمنهم من يوجهها إلى جميع المحاسن: يؤثرها، ويختارها لله، فله أضعاف ذلك في الموعود آجلا وعاجلا؛ فالآجل ما وعد، والعاجل ثناء الناس وجلالة القدر له في القلوب، متعارف ذلك للأخيار وسماه قرضا لوجهين:

الأول: بما هو اسم المعروف ليذكره عظم نعمه عليه أن قبله قول المعروف بالشكر له في ذلك، وإن كان ذلك حقا له عليه، والله أعلم.

والثاني: ليعرف الخلق كيفية الصحبة والمعاشرة بينهم: أن الله تعالى عامل عبده في ما هو له معاملة من يستحق الشكر منه بما يسدي إليه من النعم، ولله حقيقة ذلك. ليعقل الحكماء أن مثل ذلك في معاملة الإخوان وفي ما كان، يعمه في الحقيقة أوجب وأحق ليعظموا المعروفين بالمعروف بما أكرمهم الله تعالى بالأسماء الجليلة، ولا قوة إلا بالله.

ومنهم من يوجهها إلى الصدقات خاصة؛ سماها قرضا لوجوه:

أحدها: أن جعل معاملة الفقراء والتصدق عليهم معاملة الله تفضيلا لهم على نسب مقارضة المؤمنين إلى الله تعظيما لهم، فمثله الصدقة، ثم وعد فيه العوض لتصير الصدقة بمعنى الإقراض؛ إذ يرجع في عوضه، فيزول وجه الامتنان عن الفقير بما يأخذ منه البدل، وبالله التوفيق.

والثاني: سمى ذلك قرضا بما هو له على ما يزال الله تعالى، عود به عباده بالذي عرفوا به كرمه وجوده حتى سمى تسليم الذي له في الحقيقة قرضا كالتسليم إلى من لا حق له في الحقيقة. وعلى ذلك أمر الشراء بقوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة} [التوبة: 111] والله أعلم.

والثالث: أنه ذكرهم وجه القصد في الصدقات والموقع لها يكون ذلك تبينا لعظم منه الفقر عليه؛ إذ وصل به إلى الله؛ ذكره، وأجل محله عنده، فيصير عنده أحد الأعوان له والأنصار على عظيم الموعود وجليل القدر عند الله، فيحمده على ذلك، ويشكر له دون أن يمن عليه أو يؤذيه، والله أعلم...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

وقال أهل الإشارة: أمر الله تعالى بالصدقة على لفظ القرض إظهاراً لمحبّته لعباده المؤمنين، وذلك أنه إنما يستقرض من الأحبّة، ولذلك قال يحيى بن معاذ: عجبت ممن يبقى له مال ورب العرش يستقرضه، وقال بعضهم: هذا تلطف من الله تعالى في المواساة والإقراض لعباده...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

القرض الذي دعا الله إليه، قال ابن زيد: هو الجهاد، وقال: في البر من النفل. والقرض: هو قطع جزء من المال بالإعطاء على أن يرد بدل منه.

وقوله: {يقرض الله} مجاز في اللغة لأن حقيقته أن يستعمل في الحاجة، وفى هذا الموضع يستحيل ذلك، فلذلك كان مجازا... والقرض ما أعطيته لتكافأه، أو يرد بعينه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

سُمِّي القرض قرضاً لأنه يقطع من ماله شيئاً ليعطيه للمقترض، والمتصدِّق لما يقطع الصدقة من ماله سميت صدقته قرضاً، فالقرض القطع، ولكن هذه التسمية لحفظ قلوب الأحباب حيث خاطبك في باب الصدقة باسم القرض ولفظه. ويقال دلّت الآية على عِظَم رتبة الغَنِيِّ حيث سأل منه القرض، ولكن رتبة الفقير في هذا أعظم لأنه سأَل لأَجْله القَرضَ، وقد يسأل القرض من كل أحد ولكن لا يسأل لأجل كل أحد. وفي الخبر "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي على شعير أخذه لقوت عياله، أَبْصِرْ مِمَّن اقترض ولأجل مَنْ اقترض"...

{وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. يقبض الصدقة من الأغنياء قبض قبوله، ويبسط عليهم بسط خَلَفِه. ويقال يقبض الرزق أي يُضَيق، يبسط الرزق أي يوسِّع؛ يقبض على الفقراء ليمتحنَهم بالصبر، ويبسط على الأغنياء ليطالبهم بالشكر.

ويقال قال للأغنياء: إذا أنا قبضت الرزق على الفقراء فلا تذروهم، وإذا أنا بسطت عليكم فلا تروا ذلك لفضيلة لكم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{من ذا الذي يقرض الله} الآية، فدخل في ذلك المقاتل في سبيل الله فإنه يقرض رجاء الثواب، كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{والله يقبض ويبسط} يعني يقبض القلوب حتى لا تقدم على هذه الطاعة، ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} هذا على سبيل التأسيس والتقريب للناس بما يفهمونه والله هو الغني الحميد، شبه تعالى عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه بذل النفوس والأموال في الجنة بالبيع والشراء. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله، وكان ذلك مما يفضي إلى بذل النفوس والأموال في إعزاز دين الله، أثنى على من بذل شيئاً من ماله في طاعة الله، وكان هذا أقل حرجاً على المؤمنين، إذ ليس فيه إلاَّ بذل المال دون النفس، فأتى بهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة معنى الطلب.

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

صدر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب، وهو الاستفهام المتضمن لمعنى الطلب، وهو أبلغ في الطلب من صيغة الأمر. والمعنى: هل من أحد يبذل هذا القرض الحسن، فيجازى عليه أضعافا مضاعفة؟ وسمى ذلك الإنفاق قرضا حسنا حثا للنفوس، وبعثا لها على البذل. لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بد طوعت له نفسه بذله، وسهل عليه إخراجه. فإن علم أن المستقرض مليء وفي محسن، كان أبلغ في طيب فعله وسماحة نفسه... فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه، وينميه له ويُثمره حتى يصير أضعاف ما بذله كان بالقرض أسمح وأسمح...

فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجرا آخر من غير جنس القرض، فإن ذلك الأجر حظ عظيم، وعطاء كريم، فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل والشح، أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه، ولهذا كانت الصدقة برهانا لصاحبها. وهذه الأمور كلها تحت هذه الألفاظ التي تضمنتها الآية، فإنه سبحانه وتعالى سماه قرضا وأخبر أنه هو المقترض لا قرض حاجة، ولكن قرض إحسان إلى المقرض واستدعاء لمعاملته، وليعرف مقدار الربح، فهو الذي أعطاه ماله واستدعى منه معاملته به. ثم أخبر عما يرجع إليه بالقرض، وهو الأضعاف المضاعفة. ثم أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة، وهو الأجر الكريم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كانت النفقة التي هي من أعظم مقاصد السورة أوثق دعائم الجهاد وأقوى مصدق للإيمان ومحقق لمبايعة الملك الديان كرر الحث عليها على وجه أبلغ تشويقاً مما مضى فقال على هيئه الممتحن للصادق ممن أمره وحذره وأنذره: {من ذا الذي} منكم يا من كتب عليهم القتال والخروج عن الأنفس والأموال {يقرض الله} الذي تفرد بالعظمة، وهو من الإقراض أي إيقاع القرض ولذا قال: {قرضاً} وشبه سبحانه وتعالى العمل به لما يرجى عليه من الثواب فهو كالقرض الذي هو بذل المال للرجوع بمثله، وعبر به لدلالته على المحبة لأنه لا يقرضك إلا محب، ولأن أجره أكثر من أجر الصدقة {حسناً} أي جامعاً لطيب النفس وإخلاص النية وزكاء المال.

قال الحرالي: القرض الجزّ من الشيء والقطع منه، كأنه يقطع له من ماله قطعة ليقطع له من ثوابه أقطاعاً مضاعفة، والقرض بين الناس قرضاً بقرض مثلاً بمثل فمن ازداد فقد أربى ومن زاد من غير عقد ولا عهد فقد وفى، فالقرض مساواة والربا ازدياد، ووصف سبحانه وتعالى القرض الذي حرض عليه بالحسن لتكون المعاملة بذلة على وجه الإحسان الذي هو روح الدين وهو أن يعامل الله به كأنه يراه...

ولما كانت الأنفس مجبولة على الشحّ بما لديها إلا لفائدة رغبها بقوله مسبباً عن ذلك: {فيضاعفه} قال الحرالي: من المضاعفة مفاعلة من الضعف -بالكسر- وهي ثني الشيء بمثله مرة أو مرات، وأزال عنه ريب الاحتمال بقوله: {له} أي في الدنيا والآخرة. قال الحرالي: هذه المضاعفة أول إنبائها أن الزائد ضعف ليس كسراً من واحد المقرض ليخرج ذلك عن معنى وفاء القضاء فإن المقترض تارة يوفي على الواحد كسراً من وزنه. [و] "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقترض قرضاً إلا وفى عليه زيادة، وقال: خير الناس أحسنهم قضاء "فأنبأ تعالى أن اقتراضه ليس بهذه المثابة بل بما هو فوق ذلك لأنه يضعف القرض بمثله وأمثاله إلى ما يقال فيه الكثرة؛ وفي قوله: {أضعافاً} ما يفيد أن الحسنة بعشر، وفي قوله: {كثيرة} ما يفيد البلاغ إلى فوق العشر وإلى المائة كأنه المفسر في قوله بعد هذا {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} [البقرة: 261]، فأوصل تخصيص هذه الكثرة إلى المئين ثم فتح باب التضعيف إلى ما لا يناله علم العالمين في قوله: "والله يضاعف لمن يشاء" [البقرة: 261]...

ولما رغب سبحانه وتعالى في إقراضه أتبعه جملة حالية من ضمير يضاعف مرهبة مرغبة فقال: {والله} أي المحيط علماً وقدرة {يقبض} أي له هذه الصفة وهي إيقاع القبض والإقتار بمن يشاء وإن جلت أمواله. قال الحرالي: والقبض إكمال الأخذ، أصله القبض باليد كله، والقبض -بالمهملة- أخذ بأطراف الأصابع وهو جمع عن بسط فلذلك قوبل به {ويبصط} أي لمن يشاء وإن ضاقت حاله، والبسط توسعة المجتمع إلى حد غاية {وإليه ترجعون} حساً بالبعث ومعنى في جميع أموركم، فهو يجازيكم في الدارين على حسب ما يعلم من نياتكم.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

ولعل تأخيرَ البسط عن القبض في الذكر للإيماء إلى أنه يعقُبه في الوجود تسليةً للفقراء...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

وقد قال بعض العلماء إن هذا التعقيب يدل على أن البذل واجب يعاقب على تركه: أقول يريد عقاب الآخرة وأما عقاب الدنيا فهو أظهر لأنه مشاهد لأرباب البصائر الباحثين في شؤون الأمم، إذ لا يبحثون في حال أمة عزيزة إلا ويرون بذل أغنيائها المال، لنشر العلوم وإتقان الأعمال، وتعاون أفرادها على مصلحتها، وهي أسباب عزتها ورفعها، ولا يبحثون في حال أمة ذليلة مقهورة إلا ويرون أغنياءها ممسكين. وأفرادها غير متعاونين، فعلمنا بهذا أن قوله تعالى {والله يقبض ويبسط} الخ بيان لطريق المضاعفة ودليل عليه، وتذكير بالله وبتدبيره لخلقه وبمصير الخلق إليه، أي فهو يضاعف لهم في الدارين...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ولما كان القتال في سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذلك، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغب فيه، وسماه قرضا فقال: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} فينفق ما تيسر من أمواله في طرق الخيرات، خصوصا في الجهاد، والحسن هو الحلال المقصود به وجه الله تعالى، {فيضاعفه له أضعافا كثيرة} الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، بحسب حالة المنفق، ونيته ونفع نفقته والحاجة إليها.

ولما كان الإنسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى هذا الوهم بقوله: {والله يقبض ويبسط} أي: يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عمن يشاء، فالتصرف كله بيديه ومدار الأمور راجع إليه، فالإمساك لا يبسط الرزق، والإنفاق لا يقبضه، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملا موفرا مضاعفا، فلهذا قال: {وإليه ترجعون} فيجازيكم بأعمالكم... ففي هذه الآيات دليل على أن الأسباب لا تنفع مع القضاء والقدر، وخصوصا الأسباب التي تترك بها أوامر الله. وفيها: الآية العظيمة بإحياء الموتى أعيانا في هذه الدار. وفيها: الأمر بالقتال والنفقة في سبيل الله، وذكر الأسباب الداعية لذلك الحاثة عليه، من تسميته قرضا، ومضاعفته، وأن الله يقبض ويبسط وإليه ترجعون...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية. وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالبا بذكر الجهاد والقتال. وبخاصة في تلك الفترة حيث كان الجهاد تطوعا، والمجاهد ينفق على نفسه، وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد؛ فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق لتيسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله. وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق في صورة موحية دافعة: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة، والله يقبض ويبسط، وإليه ترجعون}.. وإذا كان الموت والحياة بيد الله، والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء، فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق. إنما هو قرض حسن لله، مضمون عنده، يضاعفه أضعافا كثيرة. يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة؛ ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا، ورضى وقربى من الله. ومرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله، لا إلى حرص وبخل، ولا إلى بذل وإنفاق: {والله يقبض ويبسط}.. والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف. فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله: {وإليه ترجعون}.. وإذن فلا فزع من الموت، ولا خوف من الفقر، ولا محيد عن الرجعة إلى الله. وإذن فليجاهد المؤمنون في سبيل الله، وليقدموا الأرواح والأموال؛ وليستيقنوا أن أنفاسهم معدودة، وأن أرزاقهم مقدرة، وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة. ومردهم بعد ذلك إلى الله..

ولا يفوتني بعد تقرير تلك الإيحاءات الإيمانية التربوية الكريمة التي تضمنتها الآيات.. أن ألم بذلك الجمال الفني في الأداء: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت؟}.. إن في التعبير استعراضا لهذه الألوف ولهذه الصفوف استعراضا ترسمه هاتان الكلمتان: {ألم تر؟}.. وأي تعبير آخر ما كان ليرسم أمام المخيلة هذا الاستعراض كما رسمته هاتان الكلمتان العاديتان في موضعهما المختار. ومن مشهد الألوف المؤلفة، الحذرة من الموت، المتلفتة من الذعر.. إلى مشهد الموت المطبق في لحظة؛ ومن خلال كلمة: {موتوا}.. كل هذا الحذر، وكل هذا التجمع، وكل هذه المحاولة.. كلها ذهبت هباء في كلمة واحدة: {موتوا}.. ليلقي ذلك في الحس عبث المحاولة، وضلالة المنهج؛ كما يلقي صرامة القضاء، وسرعة الفصل عند الله. {ثم أحياهم}.. هكذا بلا تفصيل للوسيلة.. إنها القدرة المالكة زمام الموت وزمام الحياة. المتصرفة في شؤون العباد، لا ترد لها إرادة ولا يكون إلا ما تشاء.. وهذا التعبير يلقي الظل المناسب على مشهد الموت ومشهد الحياة. ونحن في مشهد إماتة وإحياء. قبض للروح وإطلاق.. فلما جاء ذكر الرزق كان التعبير: {والله يقبض ويبسط}.. متناسقا في الحركة مع قبض الروح وإطلاقها في إيجاز كذلك واختصار.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

اعتراض بين جملة: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} [البقرة: 243] إلى آخرها، وجملة {ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل} [البقرة: 246] الآية، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر، لمناسبة الحث على القتال، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العُدَّة والمَؤُونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلاً في سبيل الله بإعطاء العُدَّة لمن لا عُدَّة له، والإنفاق على المعسرين من الجيش، وفيها تبيين لمضمون جملة: {واعلموا أن الله سميع عليم} [البقرة: 244] فكانت ذات ثلاثة أغراض.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

يبين الله سبحانه وتعالى أن الجهاد سبيل لحياة الأمم، والقعود عن الدفاع سبيل لفنائها، وبذهاب دولتها، وتقطع وحدتها، وفقد لكيانها المجتمع، وأمرها المؤتلف، وأنه لا سبيل لأن تعيد الجماعة قوتها، ودولتها إلا بالجهاد والاستعداد له، ففي الاستعداد للجهاد الحياة، وبالجهاد ترد الحياة. والجهاد في أدق معناه هو تعرض النفس للتلف ليبقى المجموع، فهو إيثار بالنفس، وبذل للمهج والأرواح، وتقدم للبأس من القادرين، بيد أن الجهاد لابد له من عدة وعتاد، وشوكة وسلاح، ولابد له من أن تكون الكلمة موحدة، والقوى مجتمعة بالتعاون بين الغني والفقير، فإذا كان الجهاد بذلا للأنفس والمهج في سبيل الحياة أعز فلابد فيه من بذل المال، فالجهاد بذل للنفس والنفيس معا، ولذا أردف الله سبحانه الأمر بالقتال بعد ضرب الأمثال، بالأمر بالبذل والعطاء، فقال عز من قائل: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} و عندي أن السياق حقا يجعل القرض الحسن في هذا المقام متجها أولا وبالذات نحو البذل لإعداد العدة وأخذ الأهبة، ليتحقق على الوجه الأكمل قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة...60} (الأنفال) ولكن ذلك لا يمنع الشمول، فإن الله سبحانه وتعالى يأتي بالعبارات السامية المحكمة الشاملة في معناها في مقام يستدعي ذكرها لوجود حال تدخل في العموم، فلما ذكر القتال ذكر معه وجوب البذل عامة كقاعدة شرعية وأصل من أصول الاجتماع الإسلامي الفاضل، ودخل في هذا العموم البذل في القتال على وجه الخصوص وخصوصيته جاءت من السياق القرآني السامي.

ولقد حث المولى الكريم عباده المؤمنين على البذل والعطاء لمعاونة المحتاجين، وعلى الإنفاق في مصالح الاجتماع، والإنفاق في الحروب بشكل خاص، وقد جاء النص الكريم متضمنا بعبارته وإشارته أبلغ ما يدل على التحريض على البذل، والدعوة إليه، وإنا نذكر قدرا مما وصلت إليه مداركنا.

و أول ما يدل على المبالغة في الحث على البذل في الخير التعبير بقوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} فقد تضمن ذلك التعبير الحث على البذل من عدة وجوه: منها:

التعبير بالاستفهام، فإنه للتنبيه وبعث الأذهان وحفز العقول على الالتفات، وبمقدار الوعي عند الاستماع تكون الإجابة، وبمقدار الحث على الانتباه يكون الطلب.

و منها: أنه جمع الإشارة والموصول في الاستفهام فقال: {من ذا الذي} وفي ذلك بيان لعلو شأن من يبذل، فإنه لا يستفهم {من ذا الذي} إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر، وكان موضع الاستفهام خطيرا وعظيما وكان المخاطب له شأن جليل إلى درجة أن يشار إليه، ويتحدث عنه، فالإشارة كناية عن أنه يشار إليه في كل أمر جليل، والموصول كناية عن أنه يتحدث عنه عند ذكر كل أمر جليل.

و من وجوه الحث على البذل في الجملة السامية: أن الله سبحانه وتعالى سماه قرضا، لأن فيه إشارة إلى أنه سيرد لصاحبه، وأنه ليس مالا يبذل من غير بدل يعود إليه، بل إن له بدلا أسمى منه، وعوضا أجل وأعظم، واعتبره سبحانه قرضا لله تعالى، وأي سمو تعلو إليه نفس الباذل عندما يحس بأن المقترض منه هو رب العالمين، الذي يملك كل شيء وهو خالق كل شيء؟ أي كلام يحرض على البذل أبلغ من أن يسمي فعله قرضا لله المنعم بالوجود، والمالك لكل موجود؟

ثم إن القرض لله تعالى قرض مضمون الوفاء، مؤكد الأداء.

ومن وجوه الحث على البذل في التعبير السامي: أن سماه سبحانه قرضا حسنا، فهو حسن في باعثه، وفي عطائه، وفي نتيجته وثمرته.

وقد ذكر سبحانه بدل القرض فقال: {فيضاعفه له أضعافا كثيرة}. و هذا هو الأمر الثاني الذي يدل على المبالغة في الحث على البذل والعطاء في سبيل الجهاد والنفع العام، فإذا كانت الجملة السابقة تدل على علو شأن الباذل الذي يعطي وعظم الباذل في سبيل الخير والعطاء، وشرف ذلك العمل لأنه عطاء لله العلي القدير مالك كل شيء، إذا كانت الجملة السامية التي سبقت تدل على ذلك، فإن هذه الجملة الكريمة تحرض على العطاء من ناحية العوض الذي يعوض عنه، فإنه ليس بقدره، بل هو أضعافه. و من هذا يتبين أن {يضاعف} في الآية الكريمة معناها يرد إلى الباذل المعطي المقرض لله بدلا ما أعطى أمثالا كثيرة، فمعنى أضعافا: أمثالا كثيرة. ولم يذكر سبحانه وتعالى العدد، وذلك يدل على الكثرة الكاثرة التي لا حد لها، ولا عدد يحصيها، وحسبك أن تعلم أن الذي يوفي بالقرض هو مالك السماوات والأرض. و إذا علم الباذل أن ذلك جزاء عطائه وإنفاقه، فلابد بالغ أقصى غايات الجود، باذل كل موجود، وليس بذاهب ما يكون في سبيل الخير، ولا ضائع ما يكون في سبيل النفع العام. و ما هذا الجزاء؟ أهو في الدنيا أم في الآخرة؟ لاشك أن ثمة جزاء في الآخرة وأن جزاءها هو الجزاء الأوفى، والغاية القصوى، والأمل المرجى لكل مؤمن، وإن فيها للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.

وإنه مع ذلك الجزاء الأوفى يوجد جزاء دنيوي، ومضاعفة لفعل الخير في هذه الحياة تبدو لكل من يفهم معاني الحياة، وإن هذا الجزاء الدنيوي هو العيش العزيز، والحياة الكريمة له ولقومه، ودفع الهلاك عن أمته، فإن بذل المال دفاعا عن الحوزة هو الحياة، وهو أقصى غاية الوجود بعد بذل النفس، ولذا اعتبر من لم ينفق قد ألقى بنفسه في الهلكة، كما قال تعالى: [وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة...195] (البقرة). وليس بذل المال للجهاد هو وحده الذي يكون فيه الجزاء الدنيوي ودفع الهلاك عن النفس، بل سد حاجة المعوزين وإعطاء المال للسائل والمحروم فيه عزة الأمة؛ لأنه لا عزة لأمة لا تدفع المتربة عن آحادها وتذل فقراءها، ولئن تململوا بحياتهم لكان التقاطع والتنابز، ومن وراء ذلك الخراب، وأن يكون بأس الأمة بينها شديدا، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.

هذا فوق أن البذل في سبيل الله والإنفاق في سبيل الخير والنفع العام والمصالح الإنسانية يلقي في النفس سعادة واطمئنانا لا يشعر بهما إلا الأبرار، وإن الله يبارك في رزق الذين ينفقون، فوق غنى النفس الذي تمتلئ به النفس، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس". فالبذل والعطاء في سبيل الخير يدفع ضرا، ويقي من شر، ويحمي الجماعة من الآفات، ويسعد النفس، ويبارك في رزق المعطي، ويكثر قوى الإنتاج في الأمة، فتقوى الأيدي كلها على العمل فيعم الخير، وتكثر الثمرة، ويكون الإنتاج الطيب الذي يعم ولا يخص، فمن أعطى قليلا يأخذ كثيرا في نفسه وقومه وأهله وعشيرته. و قد ذكر سبحانه أن الأرزاق كلها بيد الله، فعلى كل امرئ أن يعرف أن الغنى ليس بالعمل فقط، بل بتوفيق الله تعالى وتقديره وهو العزيز العليم،

ولذا قال تعالى: {والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون}. و هذا هو الطريق الثالث الذي اشتملت عليه الآية الكريمة في الحث على البذل والعطاء في سبيل الخير، فقد بين بهذا سبحانه أنه تعالى القابض الذي يقتر الرزق على من يشاء، ويبسط الرزق لمن يشاء، فعلى الغني أن يستشعر في نفسه أنه كان يجوز أن يخلقه الله فقيرا لا يستطيع إعطاء، فعليه أن يشكر النعمة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى إياه، وإن شكرها أن يبذلها في سبيل النفع العام، ثم ليعلم أن المآل إليه سبحانه وتعالى،ولذا قال تعالى: {و إليه ترجعون} أي إليه وحده ترجعون فيحاسبكم سبحانه وقد جردتم من كل قوة قاهرة، وكل سلطان ظاهر، ولم يكن معكم إلا عمل صالح. و تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {وإليه ترجعون} للدلالة على كمال سلطان الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، و أنه لا سلطان لأحد سواه، ولا مرجع إلا إليه، فالمعنى: إليه سبحانه وتعالى وحده ولا أحد غيره ترجعون، تعادون بالبعث في الآخرة، وترجعون إليه في الدنيا، فهو وحده فوق عباده يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويقبض ويبسط، ويفرق ويجمع، وكل ذلك بأسباب وضعها، وسنن أحكمها، فلا ينصر إلا من يعمل للنصر، ولا يخذل من أخذ الأهبة واستعد للأمر، ولا ينصر بعد أخذ الأسباب إلا أهل الحق: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز 40} (الحج).

قد يقول قائل: إن الحكمة الإلهية قد اقتضت أن يكون كل عمل له نتائجه وثمراته، فمن يعمل خيرا يجد ثمرة عمله، ومن يجد يجد نتائج جده، فالغنى والفقر ثمرتان للعمل والكسل، فمن عمل واتخذ الأسباب وسار فيها نال الثمرة، ومن كسل وأهمل ناله الفقر ولا يلومن إلا نفسه. وقد تكرر في القرآن أن الله القابض الباسط، وأنه الرزاق، وأنه يرزق من يشاء، فكيف يوفق القارئ بين ذلك السنن الحكيم، وبين ذلك القول الكريم؟

ونقول في الجواب عن ذلك: إن على كل مؤمن أن يعمل، وأن يجد ويجتهد، وعليه فوق ذلك أن يعلم أن الله هو الرزاق، وأنه فوق كل شيء، وأنه القابض الباسط، وأنه الرزاق ذو القوة المتين، ولكل موضعه، وإن المستقرئ لشئون الناس وأعمالهم في الحياة ونتائجها ينتهي به الاستقراء إلى أن الرزق لا يمكن أن يجيء ثمرة للعمل وحده، بل إنه يجيء مع العمل توفيق الله، ومصادفات قدرها العليم الخبير، اللطيف البصير، فاثنان يعملان عملا واحدا، فيلقيان البذر بعد الحرث، ومع البذر السماد، والأرض طيبة منتجة، والري متحد الزمان في كليهما، ولكن زرع أحدهما قد يبتلى بآفة تستمكن منه فتبيده أو تكاد، ولا تصيب زرع الآخر إلا قليلا، فيكون في سعة والآخر قد قتر الله عليه في الرزق، وقد تكون الثمرات متحدة في النتائج والمقدار، ولكن أحدهما سارع بالبيع، فصادف غلاء، والثاني أخر في البيع فصادف كسادا، وقد يبيع هذا لتاجر حسن الأداء ملئ، والثاني يبيع لآخر مثله، ولكنه قبل الأداء يصاب في تجارته، وهكذا فاتخاذ الأسباب أمر لابد منه، ولكن وراء الأسباب القدرة القاهرة التي هي فوق كل شيء، وهي قدرة الله تعالى، فاتحاد الأسباب لا يستدعي اتحاد المصادفات ولا اتحاد الفرص، واتحاد الفرص المهنية لا يوجب اتحاد الثمرات والنتائج، فقد تكون ثمة ملابسات لم تكن في الحسبان، وما كان يستطيع تقديرها إنسان، وإن تقدير الإنسان مهما يكن من قوة هو في دائرة القدرة الإنسانية، وهي محدودة الأفق، محدودة الغاية، و إن كان له سلطان على الأعمال فليس له سلطان على النتائج والأحوال، ومن هنا كان الواجب على المؤمن أن يعمل ثم يفوض أمره إلى الله، ويقول: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد 44} (غافر).

{والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون} وإذا كان الرزق بيد الله فعلى الغني أن يعلم أن ما بيده فيض من الله تعالى القدير، وإن كان فيضا من الكريم العليم فعليه أن يشكر لله بإنفاقه في الحلال دون الحرام، وفي إنفاقه على عيال الله، وهم الفقراء الذين اقتضت حكمته تعالى أن يحرمهم مما أعطاه، وفي سبيل النفع العام الذي يقيم دولة إسلامية فاضلة، بها يعتز دين الله، وبها تعلو كلمته، وبها يحق الله الحق ويبطل الباطل، وبها تعتز الفضيلة وتعلو الإنسانية، وعليه أن ينفق مال الله الذي أعطاه في سبيل نصرة دينه وإعلاء كلمته. ولقد سمى الله سبحانه وتعالى ذلك كله قرضا حسنا له، وهو سبحانه وتعالى الذي أعطى والذي وهب ورزق، سبحانك ربي تعاليت، وإنك كما قلت في كتابك المحكم: {فإن الله شاكر عليم 158} (البقرة)، ولقد قال رسولك الأمين: "الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله".

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

هذه دعوة إلى الإنفاق في سبيل اللّه، سواء في مواقع السلم أو في مواقع الحرب، فإنَّ كلّ واحد من هذه المواقع يحتاج إلى المال الذي ينفقه المؤمنون لبناء القوّة الذاتية للأمن، من خلال السيطرة على كلّ نقاط الضعف الذاتي... وقد أراد اللّه أن يوحي للإنسان بأنَّ ذلك لا يمثّل أي نوع من أنواع خسارة المال، كما قد يخيّل للبعض، عندما يفكرون بأنه لا يستتبع تعويضاً؛ {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا} بل هو نوع من القرض الحسن الذي يقرضه المؤمن للّه مالك السَّماوات والأرض، باعتبار أنَّ الجهات التي يصرف المال في سبيلها هي للّه مالك السَّماوات والأرض في ما يحبّه ويرضاه ويريده...

وقد وعد المنفقين بأن يعطيهم ثواب القرض الحسن، {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} ويردّ إليهم ما أنفقوا مضاعفاً أضعافاً كثيرة، فعليهم أن يراقبوه في حالة الإنفاق وعدمه، {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} لأنه الذي يقبض يده عندما يريد ويبسطها عندما يريد، في ما يعطي وما لا يعطي {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، وإليه يرجع النّاس كلّهم فيجدون لديه نتائج أعمالهم في ما يجدون من ثوابه وعقابه.