الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } الآية ، قال سفيان : " لمّا نزلت { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم " رب زد أُمتي " فنزلت { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ } الآية ، فقال : " زد أُمتي " فنزلت { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] " .

واختلف العلماء في معنى هذا القرض ، فقال الأخفش : قوله { يُقْرِضُ } ليس لحاجة بالله ولكن تقول العرب : لك عندي قرض صدق وقرض سوء لأمر يأتي فيه مسرّته أو مساءته .

وقال الزجاج : القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيّىء ، قال أُمية بن أبي الصلت :

لا تخلطنّ خبيثات بطيّبة *** واخلع ثيابك منها وأنج عريانا

كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا *** أو سيّئاً أو مديناً مثل ما دانا

وأنشد الكسائي :

تجازى القروض بأمثالها *** فبالخير خيراً وبالشرّ شرّا

وقال أيضاً : ما أسلفت من عمل صالح أو سيّىء .

ابن كيسان : القرض أن تعطي شيئاً ليرجع إليك مثله ويقضى شبهه ؛ فشبّه الله عمل المؤمنين لله على ما يرجون من ثوابه بالقرض ؛ لأنّهم إنما يعطون ما ينفقون ابتغاء ما عند الله عزّ وجلّ من جزيل الثواب ، فالقرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه ، قال لبيد :

وإذا جوزيت قرضاً فاجز به *** إنما يجزى الفتى ليس الجمل

قال بعض أهل المعاني : في الآية اختصار وإضمار ، مجازها : من ذا الذي يقرض عباد الله [ قرضاً ] كقوله { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] وقوله { فَلَمَّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] فأضافه سبحانه ههنا إلى نفسه للتفضيل وللاستعطاف ، كما في الحديث : " إن الله تعالى يقول لعبده : استطعمتك فلم تطعمني ، واستسقيتك فلم تسقني ، واستكسيتك فلم تكسني ، فيقول العبد : وكيف ذلك يا سيدي ؟ يقول : مرّ بك فلان الجائع ، وفلان العاري فلم [ تعطف ] عليه من فضلك ، فلأمنعنّك اليوم من فضلي كما منعته " .

وقال أهل الإشارة : أمر الله تعالى بالصدقة على لفظ القرض إظهاراً لمحبّته لعباده المؤمنين ، وذلك أنه إنما يستقرض من الأحبّة ، ولذلك قال يحيى بن معاذ : عجبت ممن يبقى له مال ورب العرش يستقرضه ، وقال بعضهم : هذا [ تلطف ] من الله تعالى في المواساة والإقراض لعباده .

أبوالقاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت على باب الجنة مكتوباً : والقرض بثمانية عشر ، والصدقة بعشر فقلت : يا جبرئيل ما بال القرض أعظم أجراً ؟ قال : لأن صاحب القرض لا يأتيك إلاّ محتاجاً ، وربّما وقعت الصدقة في غير أهلها " .

أبو سلمة عن أبي هريرة وابن عباس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أقرض أخاه المسلم فله بكل درهم وزن أُحد وثبير وطور سيناء حسنات " .

فمعنى الآية : مَنْ هذا الذي ( من ) استفهام ومحلّه رفع بالإبتداء و( الذي ) خبره ( يقرض الله ) ينفق في طاعة الله ، وأصل القرض القطع ، ومنه قرض الفأر الثوب وسُمّي الشعر قريضاً لأنّه يقطعه من كلامه ، والدَّين قرضاً لأنّه يقطعه من ماله . { قَرْضاً حَسَناً } قال علي بن الحسين الواقدي يعني محتسباً ، طيّبة به نفسه . ابن المبارك : هو أن يكون المال من الحلال . عمر بن عثمان الصدفي : هو أن لا يمنّ به ولا يؤذي . سهل بن عبد الله : هو أن لا يعتقد بقرضه عوضاً { فَيُضَاعِفَهُ } يزيده { لَهُ } واختلف القرّاء فيه ، فقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وأبو حاتم { فَيُضَاعِفَهُ } نصباً بالألف ، وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد والنصب وبالألف ، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر بالتشديد والرفع ، وقرأ الآخرون بالألف والتخفيف ورفع الفاء ، فمن رفع جعله نسقاً على قوله { يُقْرِضُ } ، وقيل : فهو يضاعفه ، ومَنْ نصبه جعله جواباً للإستفهام بالفاء ، وقيل : بإضمار أنْ والتشديد والتخفيف لغتان ، ودليل التشديد قوله { أَضْعَافاً كَثِيرَةً } لأنّ التشديد للتكثير .

قال الحسن والسدي : هذا التضعيف لا يعلمه إلاّ الله مثل قوله { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] وقال أبو هريرة : هذا في نفقة الجهاد ، قال : وكنّا نحسب ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره ألفي ألف . { وَاللَّهُ يَقْبِضُ } يعني يمسك الرزق عمّن يشاء ويقتر ويضيق عليه ، دليله قوله { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] أي يمسكونها عن النفقة في سبيل الله { وَيَبْسُطُ } أي يوسع الرزق على من يشاء ، نظيره قوله { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ } [ الشورى : 27 ] الآية ، والأصل في هذا قبض اليد عند البخل وبسطها عند البذل .

وقيل : هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ومن مدّ له في عمره فقد بسط له ، وقيل : والله يقبض الصدقة ويبسط بالخلف ، وروى اليزيدي عن عمرو قال : بالصاد في بعض الروايات ، وعن بعضهم كأنّه قال : هذا في القلوب ، لمّا أمرهم الله بالصدقة أخبرهم أنه لا يمكنهم ذلك إلاّ بتوفيقه ، والله يقبض ويبسط يعني يقبض على القلوب فيزويه كيلا ينبسط لخير ويبسط بعضها فيقدّم لنفسه خيراً . { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يعني وإلى الله تعودون فيحسن لكم بأعمالكم ، وقال قتادة : الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور أي من التراب خلقهم وإليه يعودون ، وعن ابن مسعود وأبي أمامة وزيد بن أسلم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا : نزلت { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } الآية ، فلمّا نزلت قال أبو الدحداح : " فداك أبي وأمي يا رسول الله ، إنّ الله يستقرض وهو غنيّ عن القرض ، قال : " نعم ، يريد أن يدخلكم الجنة " قال : فإنّي إن أقرضت ربي قرضاً تضمن لي الجنة ؟ قال : " نعم ، من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنّة " ، قال : فزوجي أم الدحداح معي ؟ قال : نعم قال ( وصبيان ) الدحداح معي ؟ قال : نعم ، قال : ناولني يدك فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال : إنّ لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية ، والله لا أملك غيرهما وجعلتهما قرضاً لله عزّ وجلّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إجعل إحداهما لله عزّ وجلّ والأخرى معيشة لك ولعيالك " قال : فاشهدك يا رسول الله أني جعلت غيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ستمائة نخلة ، قال : " يجزيك الله إذاً به بالجنة " .

فانطلق أبو الدحداح حتى أتى أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول :

*هداك ربي سُبُلَ الرشادِ * إلى سبيل الخير والسدادِ*

*قرضي من الحائط لي بالواد* فقد مضى قرضاً إلى التناد*

*أقرضته الله على اعتماد * بالطوع لا منّ ولا ارتداد*

*إلاّ رجاء الضعف في المعاد * فارتحلي بالنفس والأولاد*

*والبرّ لاشك فخير زاد * قدّمه المرؤ إلى المعاد*

قالت أم الدحداح : ربح بيعك ، بارك الله لك فيما اشتريت ، فأنشأ أبو الدحداح يقول :

*مثلك أجدى ما لديه ونصح * إن لك الحظ إذا الحق وضح*

*قد متّع الله عيالي ومنح * بالعجوة السوداء والزهو البلح*

*والعبد يسعى وله ما قد كدح * طول [ الليالي ] وعليه ما اجترح*

ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم كم من عذق رداح ، ودار فياح في الجنة لأبي الدحداح "