{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } الآية ، قال سفيان : " لمّا نزلت { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم " رب زد أُمتي " فنزلت { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ } الآية ، فقال : " زد أُمتي " فنزلت { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] " .
واختلف العلماء في معنى هذا القرض ، فقال الأخفش : قوله { يُقْرِضُ } ليس لحاجة بالله ولكن تقول العرب : لك عندي قرض صدق وقرض سوء لأمر يأتي فيه مسرّته أو مساءته .
وقال الزجاج : القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيّىء ، قال أُمية بن أبي الصلت :
لا تخلطنّ خبيثات بطيّبة *** واخلع ثيابك منها وأنج عريانا
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا *** أو سيّئاً أو مديناً مثل ما دانا
تجازى القروض بأمثالها *** فبالخير خيراً وبالشرّ شرّا
وقال أيضاً : ما أسلفت من عمل صالح أو سيّىء .
ابن كيسان : القرض أن تعطي شيئاً ليرجع إليك مثله ويقضى شبهه ؛ فشبّه الله عمل المؤمنين لله على ما يرجون من ثوابه بالقرض ؛ لأنّهم إنما يعطون ما ينفقون ابتغاء ما عند الله عزّ وجلّ من جزيل الثواب ، فالقرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه ، قال لبيد :
وإذا جوزيت قرضاً فاجز به *** إنما يجزى الفتى ليس الجمل
قال بعض أهل المعاني : في الآية اختصار وإضمار ، مجازها : من ذا الذي يقرض عباد الله [ قرضاً ] كقوله { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] وقوله { فَلَمَّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] فأضافه سبحانه ههنا إلى نفسه للتفضيل وللاستعطاف ، كما في الحديث : " إن الله تعالى يقول لعبده : استطعمتك فلم تطعمني ، واستسقيتك فلم تسقني ، واستكسيتك فلم تكسني ، فيقول العبد : وكيف ذلك يا سيدي ؟ يقول : مرّ بك فلان الجائع ، وفلان العاري فلم [ تعطف ] عليه من فضلك ، فلأمنعنّك اليوم من فضلي كما منعته " .
وقال أهل الإشارة : أمر الله تعالى بالصدقة على لفظ القرض إظهاراً لمحبّته لعباده المؤمنين ، وذلك أنه إنما يستقرض من الأحبّة ، ولذلك قال يحيى بن معاذ : عجبت ممن يبقى له مال ورب العرش يستقرضه ، وقال بعضهم : هذا [ تلطف ] من الله تعالى في المواساة والإقراض لعباده .
أبوالقاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت على باب الجنة مكتوباً : والقرض بثمانية عشر ، والصدقة بعشر فقلت : يا جبرئيل ما بال القرض أعظم أجراً ؟ قال : لأن صاحب القرض لا يأتيك إلاّ محتاجاً ، وربّما وقعت الصدقة في غير أهلها " .
أبو سلمة عن أبي هريرة وابن عباس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أقرض أخاه المسلم فله بكل درهم وزن أُحد وثبير وطور سيناء حسنات " .
فمعنى الآية : مَنْ هذا الذي ( من ) استفهام ومحلّه رفع بالإبتداء و( الذي ) خبره ( يقرض الله ) ينفق في طاعة الله ، وأصل القرض القطع ، ومنه قرض الفأر الثوب وسُمّي الشعر قريضاً لأنّه يقطعه من كلامه ، والدَّين قرضاً لأنّه يقطعه من ماله . { قَرْضاً حَسَناً } قال علي بن الحسين الواقدي يعني محتسباً ، طيّبة به نفسه . ابن المبارك : هو أن يكون المال من الحلال . عمر بن عثمان الصدفي : هو أن لا يمنّ به ولا يؤذي . سهل بن عبد الله : هو أن لا يعتقد بقرضه عوضاً { فَيُضَاعِفَهُ } يزيده { لَهُ } واختلف القرّاء فيه ، فقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وأبو حاتم { فَيُضَاعِفَهُ } نصباً بالألف ، وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد والنصب وبالألف ، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر بالتشديد والرفع ، وقرأ الآخرون بالألف والتخفيف ورفع الفاء ، فمن رفع جعله نسقاً على قوله { يُقْرِضُ } ، وقيل : فهو يضاعفه ، ومَنْ نصبه جعله جواباً للإستفهام بالفاء ، وقيل : بإضمار أنْ والتشديد والتخفيف لغتان ، ودليل التشديد قوله { أَضْعَافاً كَثِيرَةً } لأنّ التشديد للتكثير .
قال الحسن والسدي : هذا التضعيف لا يعلمه إلاّ الله مثل قوله { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] وقال أبو هريرة : هذا في نفقة الجهاد ، قال : وكنّا نحسب ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره ألفي ألف . { وَاللَّهُ يَقْبِضُ } يعني يمسك الرزق عمّن يشاء ويقتر ويضيق عليه ، دليله قوله { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] أي يمسكونها عن النفقة في سبيل الله { وَيَبْسُطُ } أي يوسع الرزق على من يشاء ، نظيره قوله { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ } [ الشورى : 27 ] الآية ، والأصل في هذا قبض اليد عند البخل وبسطها عند البذل .
وقيل : هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ومن مدّ له في عمره فقد بسط له ، وقيل : والله يقبض الصدقة ويبسط بالخلف ، وروى اليزيدي عن عمرو قال : بالصاد في بعض الروايات ، وعن بعضهم كأنّه قال : هذا في القلوب ، لمّا أمرهم الله بالصدقة أخبرهم أنه لا يمكنهم ذلك إلاّ بتوفيقه ، والله يقبض ويبسط يعني يقبض على القلوب فيزويه كيلا ينبسط لخير ويبسط بعضها فيقدّم لنفسه خيراً . { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يعني وإلى الله تعودون فيحسن لكم بأعمالكم ، وقال قتادة : الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور أي من التراب خلقهم وإليه يعودون ، وعن ابن مسعود وأبي أمامة وزيد بن أسلم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا : نزلت { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } الآية ، فلمّا نزلت قال أبو الدحداح : " فداك أبي وأمي يا رسول الله ، إنّ الله يستقرض وهو غنيّ عن القرض ، قال : " نعم ، يريد أن يدخلكم الجنة " قال : فإنّي إن أقرضت ربي قرضاً تضمن لي الجنة ؟ قال : " نعم ، من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنّة " ، قال : فزوجي أم الدحداح معي ؟ قال : نعم قال ( وصبيان ) الدحداح معي ؟ قال : نعم ، قال : ناولني يدك فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال : إنّ لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية ، والله لا أملك غيرهما وجعلتهما قرضاً لله عزّ وجلّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إجعل إحداهما لله عزّ وجلّ والأخرى معيشة لك ولعيالك " قال : فاشهدك يا رسول الله أني جعلت غيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ستمائة نخلة ، قال : " يجزيك الله إذاً به بالجنة " .
فانطلق أبو الدحداح حتى أتى أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول :
*هداك ربي سُبُلَ الرشادِ * إلى سبيل الخير والسدادِ*
*قرضي من الحائط لي بالواد* فقد مضى قرضاً إلى التناد*
*أقرضته الله على اعتماد * بالطوع لا منّ ولا ارتداد*
*إلاّ رجاء الضعف في المعاد * فارتحلي بالنفس والأولاد*
*والبرّ لاشك فخير زاد * قدّمه المرؤ إلى المعاد*
قالت أم الدحداح : ربح بيعك ، بارك الله لك فيما اشتريت ، فأنشأ أبو الدحداح يقول :
*مثلك أجدى ما لديه ونصح * إن لك الحظ إذا الحق وضح*
*قد متّع الله عيالي ومنح * بالعجوة السوداء والزهو البلح*
*والعبد يسعى وله ما قد كدح * طول [ الليالي ] وعليه ما اجترح*
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم كم من عذق رداح ، ودار فياح في الجنة لأبي الدحداح "
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.