الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

ثم قال تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله . . . } [ البقرة :245 ] الآية ، فدخل في ذلك المقاتلُ في سبيل اللَّه ، فإِنه يقرض ، رَجَاء ثوابِ اللَّهِ كما فعل عثمانُ في جَيْش العُسْرة ، ويروى أنَّ هذه الآية ، لَمَّا نزلَتْ ( قال أبو الدَّحْدَاحِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوَ إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنَّا القَرْضَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ ، قَالَ : فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُهُ حَائِطِي ، لِحَائِطٍ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ الحَائِطَ ، وَفِيهِ أُمُّ الدَّحْدَاحِ ، فَقَالَ : اخرجي ، فَإِنِّي قَدّ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي هَذَا ، قَالَ : فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُذَلَّلٍ لأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الجَنَّةِ ) " . واستدعاء القَرْض ، في هذه الآية وغيرها ، إنما هو تأنيسٌ وتقريبٌ للإفهام ، { واللَّه هو الغنيُّ الحميدُ } .

قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه » وكَنَى اللَّه عزَّ وجلَّ عن الفقيرِ بنَفْسه العليَّة ترغيباً في الصَّدَقة ، كما كنى عن المريضِ ، والجائِعِ ، والعاطشِ بنفسه المقدَّسة ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ : يَا ابْنَ آدَمَ ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي ، قَالَ : يَا رَبِّ ، كَيْفَ أَعُودُكَ ، وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ ؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدتَّهُ ، لَوَجَدتَّنِي عِنْدَهُ ، يَا ابْنَ آدَمَ ، استطعمتك ، فَلَمْ تُطْعِمْنِي ، قَالَ : يَا رَبِّ ، كَيْفَ أُطْعِمُكَ ، وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ ؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ استطعمك عَبْدِي فُلاَنٌ ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ ، لَوَجَدتَّ ذَلِكَ عِنْدِي ، يَا ابْنَ آدَمَ ، استسقيتك ، فَلَمْ تَسْقِنِي ، قَالَ : يَا رَبِّ ، كَيْفَ أَسْقِيكَ ، وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ ؟ قَالَ : استسقاك عَبْدِي فُلاَنٌ ، فَلَمْ تَسْقِهِ ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَه ، وَجَدتَّ ذَلِكَ عِنْدِي ) ، انتهى . واللفظ لصحيح مسلم ، قال ابنُ العَرَبِيِّ : وهذا كلُّه خرَجَ مَخْرَجَ التشريفِ لمَنْ كُنِيَ عنه ، وترغيباً لمن خوطِبَ ، انتهى .

وقوله : { حَسَنًا }[ البقرة :245 ] .

معناه : تَطِيبُ فيه النية ، ويشبه أيضاً أنْ تكون إِشارة إِلى كثرته وجَوْدته .

وهذه الأضعاف الكثيرةُ إِلى السَّبْعِمِائَةِ التي رُوِيَتْ ، ويعطيها مثالُ السُّنْبُلة .

( ت ) والحقُّ الذي لا شَكَّ فيه وجوبُ الإِيمان بما ذكر المولى سبحانه ، ولا سبيل إِلى التحديد ، إِلاَّ أنْ يثبتَ في ذلك حديثٌ صحيحٌ ، فيصار إِليه ، وقد بيَّن ذلك صلى الله عليه وسلم فيما خرَّجه مُسْلِم والبُخاريُّ ، انظره عند قوله تعالى : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ]

قال : ( ع ) رُوِيَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُسَعِّر بِسَبَبِ غَلاَءٍ خِيفَ عَلَى المَدِينَةِ ، فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ البَاسِطُ القَابِضُ ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ ، وَلاَ يَتْبَعْنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ فِي نَفْسٍ ، وَلاَ مَالٍ ) . قال صاحب «سِلاحِ المؤمن » عند شَرْحه لاسمه تعالَى «القَابِضِ البَاسِطِ » : قال بعْضُ العلماءِ : يجبُ أن يُقْرَنَ بيْنَ هذَيْن الاسمين ، ولا يفصل بينهما ، ليكون أنبأَ عن القُدْرة ، وأدلَّ على الحكمة ، كقوله تعالى : { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ }[ البقرة :245 ] وإِذا قلْتَ : «القَابِض » مفرداً ، فكأنَّك قَصَرْتَ بالصفة على المنع والحرْمان ، وإِذا جمعْتَ أَثْبَتَّ الصفتين ، وكذلك القولُ في الخافضِ والرافعِ ، والمُعِزِّ والمُذِلِّ ، انتهى . وما ذكره عن بعض العلماءِ هو كلامُ الإِمام الفَخْر في شرحه لأسماء اللَّه الحسنى ، ولفظه : القابضُ والباسطُ : الأحسنُ في هذين الاِسمَيْن أنْ يقْرَنَ أحدهما في الذِّكْر بالآخر ، ليكون ذلك أدلَّ على القدرة والحكمةِ ، ولهذا السببِ قال اللَّه تعالى : { والله يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ } وإذا ذكرت القابضَ منْفرداً عن البَاسِطِ ، كنْتَ قد وصفته بالمَنْع والحرمانِ ، وذلك غير جائز ، وقوله : المُعِزُّ المُذِلّ ، وقد عرفْتَ أنه يجبُ في أَمثالِ هذَيْن ذكْرُ كل واحد منهما مع الآخر ، انتهى .