معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّـٰٓئِمِينَ وَٱلصَّـٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّـٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّـٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا} (35)

قوله عز وجل :{ إن المسلمين والمسلمات } الآية . وذلك " أن أزواج النبي قلن : يا رسول الله إن الله ذكر الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير ، فما فينا خير نذكر به ، إنا نخاف أن لا يقبل منا طاعةً ، فأنزل الله هذه الآية . قال مقاتل : قالت أم سلمة بنت أبي أمية وأنيسة بنت كعب الأنصارية للنبي صلى الله عليه وسلم : ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه ، نخشى أن لا يكون فيهن خير ؟ فنزلت هذه الآية . وروي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن ؟ قلن : لا . فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار ، قال : ومم ذاك ؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال ، فأنزل الله هذه الآية : { إن المسلمين والمسلمات } { والمؤمنين والمؤمنات والقانتين } المطيعين ، { والقانتات والصادقين } في إيمانهم وفيما ساءهم وسرهم ، { والصادقات والصابرين } على ما أمر الله به ، { والصابرات والخاشعين } المتواضعين ، { والخاشعات } وقيل : أراد به الخشوع في الصلاة ، ومن الخشوع أن لا يلتفت ، { والمتصدقين } مما رزقهم الله ، { والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم } عما لا يحل ، { والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قد سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات " . قال عطاء بن أبي رباح : من فوض أمره إلى الله عز وجل فهو داخل في قوله : { إن المسلمين والمسلمات } ومن أقر بأن الله ربه ومحمداً رسوله ، ولم يخالف قلبه لسانه ، فهو داخل في قوله : { والمؤمنين والمؤمنات } ومن أطاع الله في الفرض ، والرسول في السنة : فهو داخل في قوله : { والقانتين والقانتات } ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله : { والصادقين والصادقات } ومن صبر على الطاعة ، وعن المعصية ، وعلى الرزية : فهو داخل في قوله : { والصابرين والصابرات } ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله : { والخاشعين والخاشعات } ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله : { والمتصدقين والمتصدقات } ومن صام في كل شهر أيام البيض : الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر ، فهو داخل في قوله : { والصائمين والصائمات } ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله : { والحافظين فروجهم والحافظات } ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله : { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } { أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّـٰٓئِمِينَ وَٱلصَّـٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّـٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّـٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا} (35)

{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }

لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وعقابهن [ لو قدر عدم الامتثال ]{[3]}  وأنه ليس مثلهن أحد من النساء ، ذكر بقية النساء غيرهن .

ولما كان حكمهن والرجال واحدًا ، جعل الحكم مشتركًا ، فقال : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } وهذا في الشرائع الظاهرة ، إذا كانوا قائمين بها . { وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وهذا في الأمور الباطنة ، من عقائد القلب وأعماله .

{ وَالْقَانِتِينَ } أي : المطيعين للّه ولرسوله { وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ } في مقالهم وفعالهم { وَالصَّادِقَاتِ } { وَالصَّابِرِينَ } على الشدائد والمصائب { وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ } في جميع أحوالهم ، خصوصًا في عباداتهم ، خصوصًا في صلواتهم ، { وَالْخَاشِعَاتِ } { وَالْمُتَصَدِّقِينَ } فرضًا ونفلاً { وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } شمل ذلك ، الفرض والنفل . { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ } عن الزنا ومقدماته ، { وَالْحَافِظَاتِ } { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ [ كَثِيرًا } أي : ] {[4]}  في أكثر الأوقات ، خصوصًا أوقات الأوراد المقيدة ، كالصباح والمساء ، وأدبار الصلوات المكتوبات { وَالذَّاكِرَاتِ }

{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ } أي : لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة ، والمناقب الجليلة ، التي هي ، ما بين اعتقادات ، وأعمال قلوب ، وأعمال جوارح ، وأقوال لسان ، ونفع متعد وقاصر ، وما بين أفعال الخير ، وترك الشر ، الذي من قام بهن ، فقد قام بالدين كله ، ظاهره وباطنه ، بالإسلام والإيمان والإحسان .

فجازاهم على عملهم { بِالْمَغْفِرَةً } لذنوبهم ، لأن الحسنات يذهبن السيئات . { وَأَجْرًا عَظِيمًا } لا يقدر قدره ، إلا الذي أعطاه ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، نسأل اللّه أن يجعلنا منهم .


[3]:- في ب: بتمييز.
[4]:- في ب: وأنزله.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّـٰٓئِمِينَ وَٱلصَّـٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّـٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّـٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا} (35)

قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عثمان بن حكيم ، حدثنا{[23447]} عبد الرحمن بن شيبة ، سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما لنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يذكر الرجال ؟ قالت{[23448]} : فلم يَرعني منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر ، قالت ، وأنا أسَرّح شعري ، فلففت شعري ، ثم خرجت إلى حُجْرة من حُجَر بيتي ، فجعلت سمعي عند الجريد ، فإذا هو يقول عند المنبر : " يا أيها الناس ، إن الله يقول : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات " إلى آخر الآية .

وهكذا رواه النسائي وابن جرير ، من حديث عبد الواحد بن زياد ، به مثله{[23449]} .

طريق أخرى عنها : قال النسائي أيضا : حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا سُوَيْد ، أخبرنا عبد الله بن شَريك ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله ، ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن ، والنساء لا يذكرن ؟ فأنزل الله { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }{[23450]} .

وقد رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن أبي معاوية ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة : أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، حدثه عن أم سلمة ، رضي الله عنها ، قالت : قلت : يا رسول الله ، أيذكر الرجال في كل شيء ولا نذكر ؟ فأنزل الله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية{[23451]}

طريق أخرى : قال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، يذكر الرجال ولا نذكر ؟ فأنزل الله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية .

حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب قال : حدثنا سَيَّار بن مظاهر العَنزي{[23452]} حدثنا أبو كُدَيْنة يحيى بن المهلَّب ، عن قابوس بن أبي ظِبْيَان ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ؟ فأنزل الله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية{[23453]} .

وحدثنا بشر{[23454]} حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد{[23455]} ؛ عن قتادة قال : دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلن : قد ذَكَركُنّ الله في القرآن ، ولم نُذكَر بشيء ، أما فينا ما يذكر ؟ فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية{[23456]} .

فقوله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } دليل على أن الإيمان غير الإسلام ، وهو أخص منه ، لقوله{[23457]} تعالى : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] . وفي الصحيحين : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " . فيسلبه{[23458]} الإيمان ، ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين ، فدل على أنه أخص منه كما قررناه في أول شرح البخاري .

[ وقوله ]{[23459]} : { وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ } القنوت : هو الطاعة في سكون ، { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [ الزمر : 9 ] ، وقال تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } [ الروم : 26 ] ، { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] ، { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } [ البقرة : 238 ] . فالإسلام بعده مرتبة{[23460]} يرتقي إليها ، ثم القنوت ناشئ عنهما .

{ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ } : هذا في الأقوال ، فإن الصدق خصلة محمودة ؛ ولهذا كان بعض الصحابة لم تُجَرّب عليه كِذْبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام{[23461]} ، وهو علامة على الإيمان ، كما أن الكذب أمارة على النفاق ، ومَنْ صدق نجا ، " عليكم بالصدق ؛ فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة . وإياكم والكذب ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار . ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، ولا يزال الرجل يكذب ويتَحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " {[23462]} . والأحاديث فيه كثيرة جدا .

{ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ } : هذه سَجِيّة الأثبات ، وهي الصبر على المصائب ، والعلم بأن المقدور كائن لا محالة ، وَتَلَقّي ذلك بالصبر والثبات ، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى ، أي : أصعبه في أول وهلة ، ثم ما بعده أسهل منه ، وهو صدق السجية وثباتها .

{ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ } الخشوع {[23463]} : السكون والطمأنينة ، والتؤدة والوقار والتواضع . والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته ، [ كما في الحديث ]{[23464]} : " اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .

{ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } : الصدقة : هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء ، الذين لا كَسْبَ لهم ولا كاسب ، يعطون من فضول الأموال{[23465]} طاعة لله ، وإحسانا إلى خلقه ، وقد ثبت في الصحيحين : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " فذكر منهم : " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " {[23466]} . وفي الحديث الآخر : " والصدقة تطفئ الخطيئة ، كما يطفئ الماء النار " {[23467]} .

[ وفي الترمذي عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء " .

وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ، ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه ، فلا يرى إلا ما قدَّم ، وينظر أشأم منه ، فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه . فاتقوا النار ولو بشق تمرة " .

وفي حديث أبي ذر أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينجي العبد من النار ؟ قال : " الإيمان بالله " . قلت : يا نبي الله ، مع الإيمان عمل ؟ قال : " ترضخ مما خوَّلك الله " ، أو " ترضخ مما رزقك الله " ؛ ولهذا لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد قال في خطبته : " يا معشر النساء تصدَّقْنَ ولو من حليكن ، فإني رأيتكن أكثر أهل النار " . وكأنه حثهن ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار ، وقال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : ذكر لي أن الأعمال تتباهى ، فتقول الصدقة : أنا أفضلكم .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثل البخيل والمتصدق ، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد ، أو جنتان من حديد . قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما ، فجعل المتصدق ، كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه ، حتى تغشى أنامله ، وتعفو أثره ، وجعل البخيل كلما همَّ بصدقة قلصت ، وأخذت كل حلقة مكانها . قال أبو هريرة : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه هكذا في جيبه . فلو رأيته يوسعها ولا يتسع . وقد قال تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ التغابن : 16 ] فجود الرجل يحببه إلى أضداده ، وبخله يبغضه إلى أولاده . كما قيل :

وَيُظْهر عيبَ المرء في الناس بخلُه *** وتستره عنهم جميعا سخاؤه

تَغَطَّ بأثواب السخاء فإنني *** أرى كل عيب والسخاء غطاؤه ]{[23468]}

والأحاديث في الحث عليها كثيرة جدا ، له موضع بذاته .

{ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } : في الحديث الذي رواه ابن ماجه : " والصوم زكاة البدن " أي : تزكيه وتطهره وتنقيه من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا .

قال{[23469]} سعيد بن جبير : من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر ، دخل في قوله : { وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } .

ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب ، مَنْ استطاع منكم الباء فليتزوج ، فإنه أغَضُّ للبصر ، وأحْصَن للفرج ، ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء " {[23470]} - ناسب أن يذكر بعده : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } أي : عن المحارم والمآثم إلا عن المباح ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [ المؤمنون : 5 - 7 ] .

وقوله : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ } قال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا محمد بن جابر ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغَرِّ أبي مسلم{[23471]} ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل ، فصليا ركعتين ، كتبا{[23472]} تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات " .

وقد رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث الأعمش ، [ عن علي بن الأقمر ]{[23473]} ، عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله{[23474]} .

وقال{[23475]} الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدْري ، رضي الله عنه ، أنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " .

قال : قلت : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : " لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل منه " {[23476]} .

وقال{[23477]} الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة ، فأتى على جُمْدان فقال : " هذا جُمْدان ، سيروا فقد سبق المُفَرّدون " . قالوا : وما المُفَرّدون{[23478]} ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا{[23479]} " . ثم قال : " اللهم اغفر للمحلقين " . قالوا : والمقصرين ؟ قال : " اللهم ، اغفر للمحلقين " . قالوا : والمقصرين ؟ قال : " والمقصرين " .

تفرد به من هذا الوجه ، ورواه مسلم دون آخره{[23480]} .

وقال{[23481]} الإمام أحمد : حدثنا حُجَيْن بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن زياد بن أبي زياد - مولى عبد الله بن عَيَّاش{[23482]} بن أبي ربيعة - أنه بلغه عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله " . وقال معاذ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة ، ومن أن تلقوا عدوكم غدا فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم " ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : " ذكر الله عز وجل " {[23483]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا زَبَّان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهَنيّ ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن رجلا سأله فقال : أي المجاهدين أعظم أجرًا يا رسول الله ؟ فقال : " أكثرهم{[23484]} لله ذكرًا " . قال : فأي الصائمين أكثر أجرًا ؟ قال : " أكثرهم لله ذكرا " . ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة ، كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثرهم لله ذكرا " . فقال أبو بكر لعمر ، رضي الله عنهما : ذهب الذاكرون بكل خير . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أجل " {[23485]} .

وسنذكر بقية الأحاديث الواردة في كثرة الذكر عند قوله تعالى في هذه السورة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا } الآية [ الأحزاب : 41 ، 42 ] ، إن شاء الله تعالى .

وقوله : { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } أي : هيأ لهم {[23486]} منه لذنوبهم مغفرة وأجرا عظيما وهو الجنة .


[23447]:- في ت: "وروى الإمام احمد بإسناده عن".
[23448]:- في ف: "قال".
[23449]:- المسند (6/305) والنسائي في السنن الكبرى برقم (1405) وتفسير الطبري (22/9).
[23450]:- النسائي في السنن الكبرى برقم (1404).
[23451]:- تفسير الطبري (22/8).
[23452]:- في ف ، أ: "سنان بن مظاهر العمري".
[23453]:- تفسير الطبري (22/8).
[23454]:- في ف ، أ: "بشير"
[23455]:- في ف ، أ: "سعد".
[23456]:- تفسير الطبري (22/8).
[23457]:- في أ: "كقوله".
[23458]:- في ت ، ف ، أ: "فسلبه".
[23459]:- زيادة من ت ، أ.
[23460]:- في ت: "قربة".
[23461]:- في ت ، ف: "جاهلية ولا إسلام".
[23462]:- في ت ، ف ، أ: "أتى بعجز الحديث وأخر صدره".
[23463]:- في ت ، ف ، أ: "أي".
[23464]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[23465]:- في أ: "الأعمال".
[23466]:- صحيح البخاري برقم (1423) وصحيح مسلم برقم (1031).
[23467]:- رواه الترمذي في السنن برقم (614) من حديث كعب بن عجرة ، رضي الله عنه ، وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" ورواه أحمد في المسند 3/321 من حديث جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، ورواه الترمذي في السنن برقم (2616) وابن ماجه في السنن برقم (3973) من حديث معاذ ، رضي الله عنه.
[23468]:- زيادة من ت.
[23469]:- في أ: "كما قال".
[23470]:- صحيح البخاري برقم (5066) وصحيح مسلم برقم (1400).
[23471]:- في ت: "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
[23472]:- في ت ، أ: "كانا".
[23473]:- زيادة من ت ، ف ، وسنن أبي داود وابن ماجه.
[23474]:- سنن أبي داود برقم (1309) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11406) وسنن ابن ماجه برقم (1335).
[23475]:- في ت: "وروى".
[23476]:- المسند (3/75) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
[23477]:- في ت: "وروى".
[23478]:- في ف، أ: "وما المفردون يا رسول الله ؟"
[23479]:- في ف، أ: "الذاكرون الله كثيرا والذاكرات".
[23480]:- المسند (2/411) وصحيح مسلم برقم (1302) وإنما رواه مسلم دون أوله، والله اعلم.
[23481]:- في ت: "وروى".
[23482]:- في ف ، أ: "عباس".
[23483]:- المسند (5/239).
[23484]:- في أ: "أكثرهم".
[23485]:- المسند (3/438) وقال الهيثمي في المجمع (10/74): "وفيه زبان بن فائد وهو ضعيف ، وقد وثق ، وكذلك ابن لهيعة ، وبقية رجاله ثقات".
[23486]:- في ت ، ف: "أعد لهم".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّـٰٓئِمِينَ وَٱلصَّـٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّـٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّـٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا} (35)

وقوله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } الآية روي عن أم سلمة أنها قالت : إن سبب هذه الآية أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله يذكر الله تعالى الرجال في كتابه في كل شيء ولا يذكرنا ، فنزلت الآية في ذلك{[9512]} .

وروى قتادة أن نساء من الأنصار دخلن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن لهن : ذكركن الله في القرآن ولم يذكر سائر النساء بشيء فنزلت الآية في ذلك{[9513]} ، وروي عن ابن عباس أن نساء النبي قلن ما له تعالى يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ، فنزلت الآية في ذلك{[9514]} .

وبدأ تعالى بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح ، ثم ذكر الإيمان تخصيصاً وتنبيهاً على أنه عظم الإسلام ودعامته ، و «القانت » : العابد المطيع ، و «الصادق » معناه : فيما عوهد عليه أن يفي به ويكمله ، و «الصابر » : عن الشهوات وعلى الطاعات في المكره والمنشط ، و «الخاشع » : الخائف لله المستكين لربوبيته الوقور ، و «المتصدق » : بالفرض والنفل ، وقيل هي في الفرض خاصة ، والأول أمدح ، و «الصائم » كذلك : في الفرض والنفل ، و «حفظ الفرج » هو : من الزنا وشبهه وتدخل مع ذلك الصيانة من جميع ما يؤدي إلى الزنا أو هو في طريقه ، وفي قوله : { الحافظات } حذف ضمير يدل عليه المتقدم والحافظاُتها ، وفي { الذاكرات } أيضاً مثله ، و «المغفرة » هي ستر الله ذنوبهم والصفح عنها ، و «الأجر العظيم » الجنة .


[9512]:أخرجه أحمد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والطبراني، عن أم سلمة رضي الله عنها.(الدر المنثور).
[9513]:أخرجه ابن جرير عن قتادة رضي الله عنه، وأخرج مثله ابن سعد عن عكرمة عن قتادة من وجه آخر.(الدر المنثور).
[9514]:أخرجه ابن جرير، والطبراني، وابن مردويه بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما.(الدر المنثور).