{ قل الله أعلم بما لبثوا } روي عن علي أنه قال : عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاث مائة شمسية ، والله تعالى ذكر ثلاث مائة قمرية ، والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين ، فيكون في ثلاث مائة تسع سنين ، فلذلك قال : { وازدادوا تسعاً } . { له غيب السماوات والأرض } ، فالغيب ما يغيب عن إدراك ، والله عز وجل لا يغيب عن إدراكه شيء . { أبصر به وأسمع } أي : ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه لكل مسموع ! أي : لا يغيب عن سمعه وبصره شيء . { ما لهم } أي : ما لأهل السماوات والأرض ، { من دونه } أي من دون الله ، { من ولي } ناصر ، { ولا يشرك في حكمه أحداً } ، قرأ ابن عامر و يعقوب : { ولا تشرك } بالتاء على المخاطبة والنهي ، وقرأ الآخرون بالياء ، أي : لا يشرك الله في حكمه أحداً . وقيل : { الحكم } هنا علم الغيب ، أي : لا يشرك في علم غيبه أحداً .
لما نهاه الله عن استفتاء أهل الكتاب ، في شأن أهل الكهف ، لعدم علمهم بذلك ، وكان الله عالم الغيب والشهادة ، العالم بكل شيء ، أخبره بمدة لبثهم ، وأن علم ذلك عنده وحده ، فإنه من غيب السماوات والأرض ، وغيبها مختص به ، فما أخبر به عنها على ألسنة رسله ، فهو الحق اليقين ، الذي لا يشك فيه ، وما لا يطلع رسله عليه ، فإن أحدا من الخلق ، لا يعلمه .
وقوله : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } تعجب من كمال سمعه وبصره ، وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات ، بعد ما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات . ثم أخبر عن انفراده بالولاية العامة والخاصة ، فهو الولي الذي يتولى تدبير جميع الكون ، الولي لعباده المؤمنين ، يخرجهم من الظلمات إلى النور وييسرهم لليسرى ، ويجنبهم العسرى ، ولهذا قال : { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ } أي : هو الذي تولى أصحاب الكهف ، بلطفه وكرمه ، ولم يكلهم إلى أحد من الخلق .
{ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } وهذا يشمل الحكم الكوني القدري ، والحكم الشرعي الديني ، فإنه الحاكم في خلقه ، قضاء وقدرا ، وخلقا وتدبيرا ، والحاكم فيهم ، بأمره ونهيه ، وثوابه وعقابه .
وقوله : { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } أي : إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك [ علم ]{[18105]} في ذلك وتوقيف{[18106]} من الله ، عز وجل{[18107]} فلا تتقدم فيه بشيء ، بل قل في مثل هذا : { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : لا يعلم ذلك إلا هو أو من أطلعه الله عليه من خَلْقه ، وهذا الذي قلناه ، عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد ، وغير واحد من السلف والخلف .
وقوله : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي : إنه لبصير بهم سميع لهم .
قال ابن جرير : وذلك في معنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل : ما أبصره وأسمعه ، وتأويل الكلام : ما أبصر الله لكل موجود ، وأسمعه لكل مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء .
ثم روي عن قتادة في قوله : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } فلا أحد أبصر{[18108]} من الله ولا أسمع .
وقال ابن زيد : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } يرى أعمالهم ، ويسمع ذلك منهم سميعًا بصيرًا .
وقوله : { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } أي : أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر ، الذي لا معقب لحكمه ، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير ، تعالى وتقدس .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً * قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله وَلَبَثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا فقال بعضهم : ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن أهل الكتاب أنهم يقولون ذلك كذلك ، واستشهدوا على صحة قولهم ذلك بقوله : قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا وقالوا : لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم في الكهف ، لم يكن لقوله قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا وجه مفهوم ، وقد أعلم الله خلقه مبلغ لبثهم فيه وقدره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا هذا قول أهل الكتاب ، فردّه الله عليهم فقال : قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السّمَواتِ والأرْضِ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ قال : في حرف ابن مسعود : «وَقالُوا وَلَبِثُوا » يعني أنه قال الناس ، ألا ترى أنه قال : قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب عن مطر الورّاق ، في قول الله : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ قال : إنما هو شيء قالته اليهود ، فردّه الله عليهم وقال : قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا .
وقال آخرون : بل ذلك خبر من الله عن مبلغ ما لبثوا في كهفهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا قال : عدد ما لبثوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه ، وزاد فيه قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : ولَبَثُوا في كْهفِهْم ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا قال : وتسع سنين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق بنحوه .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : ثني الأجلح ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : نزلت هذه الاَية وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ فقالوا : أياما أو أشهرا أو سنين ؟ فأنزل الله : سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلَبِثُوا في كَهْفِهِمْ قال : بين جبلين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله عزّ ذكره : ولبث أصحاب الكهف في كهفهم رقودا إلى أن بعثهم الله ، ليتساءلوا بينهم ، وإلى أن أعثر عليهم من أعثر ، ثلاث مئة سنين وتسع سنين ، وذلك أن الله بذلك أخبر في كتابه . وأما الذي ذُكر عن ابن مسعود أنه قرأ «وَقالُوا : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِم » وقول من قال : ذلك من قول أهل الكتاب ، وقد ردّ الله ذلك عليهم ، فإن معناه في ذلك : إن شاء الله كان أن أهل الكتاب قالوا فيما ذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاث مئة سنين وتسع سنين ، فردّ الله ذلك عليهم ، وأخبر نبيه أن ذلك قدر لبثهم في الكهف من لدن أوَوا إليه أن بعثهم ليتساءلوا بينهم ثم قال جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم ، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلى يومهم هذا ، لا يعلم بذلك غير الله ، وغير من أعلمه الله ذلك .
فإن قال قائل : وما يدلّ على أن ذلك كذلك ؟ قيل : الدالّ على ذلك أنه جلّ ثناؤه ابتدأ الخبر عن قدر لبثهم في كهفهم ابتداء ، فقال : وَلِبثُوا في كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مئَةٍ سنينَ وَازْدَادُوا تسْعا ولم يضع دليلاً على أن ذلك خبر منه عن قول قوم قالوه ، وغير جائز أن يضاف خبره عن شيء إلى أنه خبر عن غيره بغير برهان ، لأن ذلك لو جاز جاز في كلّ أخباره ، وإذا جاز ذلك في أخباره جاز في أخبار غيره أن يضاف إليه أنها أخباره ، وذلك قلب أعيان الحقائق وما لا يخيل فساده .
فإن ظنّ ظانّ أن قوله : قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا دليل على أن قوله : وَلِبثُوا فِي كَهْفِهِمْ خبر منه عن قوم قالوه ، فإن ذلك كان يجب أن يكون كذلك لو كان لا يحتمل من التأويل غيره فأما وهو محتمل ما قلنا من أن يكون معناه : قل الله أعلم بما لبثوا إلى يوم أنزلنا هذه السورة ، وما أشبه ذلك من المعاني فغير واجب أن يكون ذلك دليلاً على أن قوله : وَلِبِثُوا في كَهْفِهِمْ خبر من الله عن قوم قالوه ، وإذا لم يكن دليلاً على ذلك ، ولم يأت خبر بأن قوله : وَلِبِثُوا في كَهْفِهِمْ خَبر من الله عن قوم قالوه ، ولا قامت بصحة ذلك حجة يجب التسليم لها ، صحّ ما قلنا ، وفسَد ما خالفه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفين ثَلاثِ مِئَةٍ سِنِينَ بتنوين : ثلاث مئةٍ ، بمعنى : ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مئة . وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة : «ثَلاثَ مِئَةِ سِنِينَ » بإضافة ثلاث مئة إلى السنين ، غير منوّن .
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراة من قرأه : ثلاثَ مِئَةٍ بالتنوين سِنِينَ ، وذلك أن العرب إنما تضيف المئة إلى ما يفسرها إذا جاء تفسيرها بلفظ الواحد ، وذلك كقولهم ثلاث مئة درهم ، وعندي مئة دينار ، لأن المئة والألف عدد كثير ، والعرب لا تفسر ذلك إلا بما كان بمعناه في كثرة العدد ، والواحد يؤدّي عن الجنس ، وليس ذلك للقليل من العدد ، وإن كانت العرب ربما وضعت الجمع القليل موضع الكثير ، وليس ذلك بالكثير . وأما إذا جاء تفسيرها بلفظ الجمع ، فإنها تنوّن ، فتقول : عندي ألفٌ دراهمُ ، وعندي مئةٌ دنانير ، على ما قد وصفت .
وقوله : لَهُ غَيْبُ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول تعالى ذكره : لله علم غيب السموات والأرض ، لا يعزب عنه علم شيء منه ، ولا يخفى عليه شيء ، يقول : فسلموا له علم مبلغ ما لبثت الفتية في الكهف إلى يومكم هذا ، فإن ذلك لا يعلمه سوى الذي يعلم غيب السموات والأرض ، وليس ذلك إلا الله الواحد القهار .
وقوله : أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ يقول : أبصر بالله وأسمع ، وذلك بمعنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل : ما أبصره وأسمعه .
وتأويل الكلام : ما أبصر الله لكلّ موجود ، وأسمعه لكلّ مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع ، تبارك وتعالى .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ قال : يرى أعمالهم ، ويسمع ذلك منهم سميعا بصيرا .
وقوله : ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ يقول جلّ ثناؤه : ما لخلقه دون ربهم الذي خلقهم وليّ ، يلي أمرهم وتدبيرهم ، وصرفهم فيما هم فيه مصرفون . وَلا يُشْرِكُ فِي حُكمِهِ أحَدا يقول : ولا يجعل الله في قضائه ، وحكمه في خلقه أحدا سواه شريكا ، بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم ، وتدبيرهم وتصريفهم فيما شاء وأحبّ .
{ قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض } له ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما ، فلا خلق يخفى عليه علما . { أبصر به وأسمع } ذكر بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عما عليه إدراك السامعين والمبصرين ، إذ لا يحجبه شيء ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف وصغير وكبير وخفي وجلي ، والهاء تعود إلى الله ومحله الرفع على الفاعلية والباء مزيدة عند سيبويه وكان أصله أبصر أي صار ذا بصر ، ثم نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء ، فبرز الضمير لعدم لياق الصيغة له أو لزيادة الباء كما في قوله تعالى { وكفى به } والنصب على المفعولية عند الأخفش والفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد والباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية ومعدية إن كانت للصيرورة . { ما لهم } الضمير لأهل السماوات والأرض . { من دونه من وليّ } من يتولى أمورهم . { ولا يشرك في حكمه } في قضائه . { أحدا } منهم ولا يجعل له فيه مدخلا . وقرأ ابن عامر وقالون عن يعقوب بالتاء والجزم على نهي كل أحد عن الإشراك .
إن كان قوله تعالى : { ولبثوا في كهفهم } [ الكهف : 25 ] إخباراً مِن الله عن مدة لبثهم يكون قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } قطعاً للمماراة في مدة لبثهم المختلف فيها بين أهل الكتاب ، أي الله أعلم منكم بمدة لبثهم .
وإن كان قوله : { ولبثوا } حكاية عن قول أهل الكتاب في مدة لبثهم كان قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } تفويضاً إلى الله في علم ذلك كقوله : { قل ربي أعلم بعدتهم } [ الكهف : 22 ] .
وغيبُ السماوات والأرض ما غاب عِلمه عن الناس من موجودات السماوات والأرض وأحوالهم . واللام في { له } للملك . وتقديم الخبر المجرور لإفادة الاختصاص ، أي لله لا لغيره ، رداً على الذين يزعمون علم خبر أهل الكهف ونحوهم .
و { أبصر به وأسمع } صيغتا تعجيب من عموم علمه تعالى بالمغيبات من المسموعات والمبصرات ، وهو العلم الذي لا يشاركه فيه أحد .
وضمير الجمع في قوله : { ما لهم من دونه من ولي } يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم . وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول ( من ) الزائدة على النكرة المنفية .
وكذلك قوله : { ولا يشرك في حكمه أحداً } هو ردّ على زعمهم بأنّ الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه .
وقرأ الجمهور { ولا يشرك } برفع { يشرك } وبياء الغيبة . والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { قل الله أعلم } . وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجَزْم و { يشرك } على أن ( لا ) ناهية . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته ، أو الخطاب لكل من يتلقاه .
وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها ، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 25]
اختلف أهل التأويل في معنى قوله "وَلَبَثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا "فقال بعضهم: ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن أهل الكتاب أنهم يقولون ذلك كذلك، واستشهدوا على صحة قولهم ذلك بقوله: "قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" وقالوا: لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم في الكهف، لم يكن لقوله "قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" وجه مفهوم، وقد أعلم الله خلقه مبلغ لبثهم فيه وقدره... عن قتادة، قوله: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا"، هذا قول أهل الكتاب، فردّه الله عليهم فقال: "قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السّمَواتِ والأرْضِ"...
وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله عن مبلغ ما لبثوا في كهفهم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله عزّ ذكره: ولبث أصحاب الكهف في كهفهم رقودا إلى أن بعثهم الله، ليتساءلوا بينهم، وإلى أن أعثر عليهم من أعثر، ثلاث مئة سنين وتسع سنين، وذلك أن الله بذلك أخبر في كتابه. وأما الذي ذُكر عن ابن مسعود أنه قرأ «وَقالُوا: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِم» وقول من قال ذلك من قول أهل الكتاب، وقد ردّ الله ذلك عليهم، فإن معناه في ذلك إن شاء الله؛ كان أن أهل الكتاب قالوا فيما ذُكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاث مئة سنين وتسع سنين، فردّ الله ذلك عليهم، وأخبر نبيه أن ذلك قدر لبثهم في الكهف من لدن أووا إليه إلى أن بعثهم ليتساءلوا بينهم، ثم قال جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلى يومهم هذا، لا يعلم بذلك غير الله، وغير من أعلمه الله ذلك.
فإن قال قائل: وما يدلّ على أن ذلك كذلك؟ قيل: الدالّ على ذلك أنه جلّ ثناؤه ابتدأ الخبر عن قدر لبثهم في كهفهم ابتداء، فقال: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا" ولم يضع دليلا على أن ذلك خبر منه عن قول قوم قالوه، وغير جائز أن يضاف خبره عن شيء إلى أنه خبر عن غيره بغير برهان، لأن ذلك لو جاز جاز في كل أخباره، وإذا جاز ذلك في أخباره جاز في أخبار غيره أن يضاف إليه أنها أخباره، وذلك قلب أعيان الحقائق وما لا يخيل فساده.
فإن ظنّ ظانّ أن قوله: "قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" دليل على أن قوله: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ" خبر منه عن قوم قالوه، فإن ذلك كان يجب أن يكون كذلك لو كان لا يحتمل من التأويل غيره، فأما وهو محتمل ما قلنا من أن يكون معناه: قل الله أعلم بما لبثوا إلى يوم أنزلنا هذه السورة، وما أشبه ذلك من المعاني فغير واجب أن يكون ذلك دليلا على أن قوله: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ" خبر من الله عن قوم قالوه، وإذا لم يكن دليلا على ذلك، ولم يأت خبر بأن قوله: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) خبر من الله عن قوم قالوه، ولا قامت بصحة ذلك حجة يجب التسليم لها، صحّ ما قلنا، وفسد ما خالفه...
وقوله: "لَهُ غَيْبُ السّمَوَاتِ والأرْضِ" يقول تعالى ذكره: لله علم غيب السموات والأرض، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يخفى عليه شيء، يقول: فسلموا له علم مبلغ ما لبثت الفتية في الكهف إلى يومكم هذا، فإن ذلك لا يعلمه سوى الذي يعلم غيب السموات والأرض، وليس ذلك إلا الله الواحد القهار.
وقوله: "أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ" يقول: أبصر بالله وأسمع، وذلك بمعنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه.
وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكلّ موجود، وأسمعه لكلّ مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء...
وقوله: "ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ" يقول جلّ ثناؤه: ما لخلقه دون ربهم الذي خلقهم وليّ، يلي أمرهم وتدبيرهم، وصرفهم فيما هم فيه مصرفون.
"وَلا يُشْرِكُ فِي حُكمِهِ أحَدا" يقول: ولا يجعل الله في قضائه، وحكمه في خلقه أحدا سواه شريكا، بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم، وتدبيرهم وتصريفهم فيما شاء وأحبّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قل الله أعلم بم لبثوا له غيب السماوات والأرض} هو ما ذكرنا أنه جعل علم مدة لبثهم إلى الله تعالى.
{له غيب السماوات والأرض} يحتمل وجوها ثلاثة:
أحدها: له علم ما غاب عن أهل السماوات وأهل الأرض كقوله: {عالم الغيب والشهادة} (الأنعام: 73).
والثاني: له علم ما غَيَّبَ، وأَسَرَّ أهل السماوات والأرض بعضهم من بعض.
والثالث: له علم غيب ما شاهد أهل السماوات و أهل الأرض، لأن في (ما) شاهدوه من الأشياء، وعاينوها، غيبا وسرية لم يعلموه من نحو الشمس شاهدوها، وعرفوا أنها شمس، ولكن لم يعلموا ما فيها من المعنى الذي به صلاح الأشياء ومنافعها، وكذلك القمر. وإنما شاهدوا هذه الأشياء، ولكن لم يعرفوا المعنى الذي به، صارت نافعة للأشياء. وكذلك السمع والبصر والعقل ونحوها من الحواس عرفوا هذه الحواس على ظواهرها، ولكن لا يعرفون المعنى الذي يستمعون، ويبصرون، ويفهمون، فيقول: له علم ما غاب عنكم من هذه الأشياء التي شاهدتموها، والله أعلم.
{أبصر به وأسمع} هذا كلام يتكلم عن النهاية والغاية والبلاغ من الوصف. ويقال: أكرم به من فلان إذا كان بلغ الكرم به غايته. وكذلك يقال: أحسن به من فلان إذا بلغ في الحسن غايته. ونحوه. فعلى ذلك قوله: {أبصر به وأسمع} هو وصف له على النهاية كما يقال: ما أعلمه، وما أبصره، وما أكرمه، وما أحسنه في العلم، إنه يعلم ما غاب عن الخلق وما شاهدوا و {أبصر به} من الأفعال التي يفعلون و {أسمع} به من الأقوال التي يَتَفَوَّهُونَ، أي يعلم ما غاب عنهم مما لم يفعلوا، ولم يقولوا: فالذي قالوه، وفعلوه أحق أن يعلم. يحذرهم عز و جل عن أفعالهم، والله الموفق.
يحتمل: ولا يشرك في ألوهيته أحدا.
ويحتمل: {ولا يشرك في حكمه أحدا} أي الحكم له، ليس لأحد دونه حكم، إنما عليهم طلب حكم الله في ما يحكمون. أو لا يشرك في تقديره وتدبيره الذي يدبر في خلقه أحدا.
ويحتمل {ولا يشرك في} قسمته التي يَقْسِمُ بين الخلق أحدا {ولا يشرك في حكمه} أي في ما جاءت به الرسل، ودعت الخلق إليه {أحدا}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السموات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها ومن غيرها وأنه هو وحده العالم به، وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجماً وأكثفها جرماً، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر.
{مَّا لَهُم} الضمير لأهل السموات والأرض {مِن وَلِي} من متول لأمورهم.
{وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ} في قضائه {أَحَدًا} منهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فقال على طريق الجواب لسؤال من يقول: فإن قال أحد غير هذا فما يقال له؟ {قل الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {أعلم} منكم {بما لبثوا} ثم علل ذلك بقوله تعالى: {له} أي وحده {غيب السماوات والأرض} يعلمه كله على ما هو عليه، ولا ينسى شيئاً من الماضي ولا يعزب عنه شيء من الحاضر، ولا يعجز عن شيء من الآتي، فلا ريب فيما يخبر به.
ولما كان السمع والبصر مناطي العلم، وكان متصفاً منهما بما لا يعلمه حق علمه غيره، عجب من ذلك بقوله تعالى: {أبصر به وأسمع} ولما كان القائم بشيء قد يقوم غيره مقامه إما بقهر أو شرك، نفى ذلك فانسد باب العلم عن غيره إلا من جهته فقال تعالى: {ما لهم} أي لهؤلاء السائلين ولا المسؤولين الراجمين بالغيب في أصحاب الكهف {من دونه} وأعرق بقوله تعالى: {من ولي} يجيرهم منه أو يخبرهم بغير ما أخبر به {ولا يشرك} أي الله {في حكمه أحداً} فيفعل شيئاً بغير أمره أو يخبر بشيء من غير طريقه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهذا هو فصل الخطاب في أمرهم، يقرره عالم غيب السماوات والأرض. ما أبصره، وما أسمعه! سبحانه. فلا جدال بعد هذا ولا مراء. ويعقب على القصة بإعلان الوحدانية الظاهرة الأثر في سير القصة وأحداثها: (ما لهم من دونه من ولي. ولا يشرك في حكمه أحدا)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وضمير الجمع في قوله: {ما لهم من دونه من ولي} يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم. وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول (من) الزائدة على النكرة المنفية. وكذلك قوله: {ولا يشرك في حكمه أحداً} هو ردّ على زعمهم بأنّ الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه...
وقرأ الجمهور {ولا يشرك} برفع {يشرك} وبياء الغيبة. والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {قل الله أعلم}. وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجَزْم و {يشرك} على أن (لا) ناهية. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته، أو الخطاب لكل من يتلقاه. وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
قوله تعالى: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ}...
الوَلِيُّ: هو من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به. فالإيمان سببٌ يوالي به المؤمنين ربُّهم بالطاعة، ويُواليهم به الثوابَ والنصرَ والإعانةَ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ} فليس لغيره الولاية عليهم، بل الولاية له وحده، فكل ما في الكون محتاجٌ إلى ولايته وخاضعٌ له، لأنه الخالق للحياة كلها وللإنسان كله، وهو الذي يمدُّها ويمده بقابلية الاستمرار من خلال ما يفيض عليها وعليه من نعمه التي هي الشرط الأساسي للبقاء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي نهاية الآية يأتي قوله تعالى: (ولا يُشرك في حكمه أحداً). هذا الكلام هو في الحقيقة تأكيد على الولاية المطلقة للخالق جلَّ وعلا، إِذ ليسَ هُناك قدرة أُخرى لها حق الولاية المطلقة على العالمين، ولا يوجد شريك له تعالى في ولايته، يعني ليس ثمّة قدرة أُخرى غير الله لها حق الولاية في العالم، لا بالاستقلال ولا بالاشتراك...