قوله تعالى : { ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً } قرأ ابن عامر وأبو بكر ( عظماً ) ، فكسونا العظم بسكون الظاء على التوحيد فيهما ، وقرأ الآخرون بالجمع لأن الإنسان ذو عظام كثيرة . وقيل : بين كل خلقتين أربعون يوماً { فكسونا العظام لحماً } أي ألبسنا { ثم أنشأناه خلقاً آخر } اختلف المفسرون فيه ، فقال ابن عباس : ومجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو العالية : هو نفخ الروح فيه . وقال قتادة : نبات الأسنان والشعر . وروى ابن جريج عن مجاهد : أنه استواء الشباب . وعن الحسن قال : ذكراً أو أنثى . وروى العوفي عن ابن عباس : أن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتضاع ، إلى القعود إلى القيام ، إلى المشي إلى الفطام ، إلى أن يأكل ويشرب ، إلى أن يبلغ الحلم ، ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها . { فتبارك الله } أي : استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال . { أحسن الخالقين } المصورين والمقدرين . والخلق في اللغة : التقدير . وقال مجاهد : يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين ، يقال : رجل خالق أي : صانع . وقال ابن جريج : إنما جمع الخالقين لأن عيسى كان يخلق كما قال : { إني أخلق لكم من الطين } فأخبر الله عن نفسه بأنه أحسن الخالقين .
{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ } التي قد استقرت قبل { عَلَقَةً } أي : دما أحمر ، بعد مضي أربعين يوما من النطفة ، { فخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ } بعد أربعين يوما { مُضْغَةً } أي : قطعة لحم صغيرة ، بقدر ما يمضغ من صغرها .
{ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ } اللينة { عِظَامًا } صلبة ، قد تخللت اللحم ، بحسب حاجة البدن إليها ، { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } أي : جعلنا اللحم ، كسوة للعظام ، كما جعلنا العظام ، عمادا للحم ، وذلك في الأربعين الثالثة ، { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } نفخ فيه الروح ، فانتقل من كونه جمادا ، إلى أن صار حيوانا ، { فَتَبَارَكَ اللَّهُ } أي : تعالى وتعاظم وكثر خيره { أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } { الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } فخلقه كله حسن ، والإنسان من أحسن مخلوقاته ، بل هو أحسنها على الإطلاق ، كما قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } ولهذا كان خواصه أفضل المخلوقات وأكملها .
أي : ثم صَيَّرنا النطفة ، وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل - وهو ظهره - وترائب المرأة - وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى الثندوة - فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة . قال عكرمة : وهي دم .
{ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } : وهي قطعة كالبَضعة من اللحم ، لا شكل فيها ولا تخطيط ، { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } يعني : شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها .
وقرأ آخرون : { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا{[20490]} } .
قال ابن عباس : وهو عظم الصلب .
وفي الصحيح ، من حديث أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل جسد ابن آدم يبلى إلا عَجْبُ الذَّنَب ، منه خلق ومنه{[20491]} يركب " {[20492]} .
{ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } أي : وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه ، { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } أي : ثم نفخنا فيه الروح ، فتحرك وصار { خَلْقًا آخَرَ } ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا جعفر بن مُسافر ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا النضر - يعني : ابن كثير ، مولى بني هاشم - حدثنا زيد بن علي ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : إذا أتمت النطفة أربعة أشهر ، بُعِث إليها مَلك فنفخ فيها الروح في
الظلمات الثلاث ، فذلك قوله : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني : نفخنا فيه الروح{[20493]} .
ورُوي عن أبي سعيد الخدري أنه نَفْخُ الروح .
قال ابن عباس : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني به : الروح{[20494]} . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والحسن ، وأبو العالية ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي ، وابنُ زيد ، واختاره ابنُ جرير{[20495]} .
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني : ننقله من حال إلى حال ، إلى أن خرج طفلا ثم نشأ صغيرًا ، ثم احتلم ، ثم صار شابًّا ، ثم كهلا ثم شيخًا ، ثم هرما .
وعن قتادة ، والضحاك نحو ذلك . ولا منافاة ، فإنه من ابتداء{[20496]} نفخ الروح [ فيه ]{[20497]} شَرَع في هذه التنقلات والأحوال . والله أعلم .
قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق : " إن أحدكم ليُجمع خَلقُه في بطن أمه أربعين يومًا ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وهل هو شقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن الرجل{[20498]} ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها " .
أخرجاه من حديث سليمانَ بن مِهْرَان الأعمش{[20499]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن خَيْثَمَة قال : قال عبد الله{[20500]} - يعني : ابن مسعود - إن النطفة إذا وقعت في الرحم ، طارت في كل شعر وظفر ، فتمكث أربعين يوما ، ثم تتحدّر{[20501]} في الرحم فتكون علقة .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا حسين بن الحسن ، حدثنا أبو كُدَيْنة ، عن عطاء بن السائب ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله قال : مَرَّ يهوديّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه ، فقالت قريش : يا يهودي ، إن هذا يَزعمُ أنه نبي . فقال : لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي . قال : فجاءه حتى جلس ، فقال : يا محمد ، مِمَّ يخلق الإنسان ؟ فقال : " يا يهودي ، من كلٍّ
يُخْلَقُ ، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة ، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعَصَب ، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم " فقام اليهودي فقال : هكذا كان يقول من قبلك . {[20502]} وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو ، عن أبي الطُّفَيْل ، حُذَيْفَة بن أُسَيْد الغفاري قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يدخل المَلك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة ، فيقول : يا رب ، ماذا ؟ أشقي أم سعيد ؟ أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ، فيكتبان{[20503]} . فيقولان : ماذا ؟ أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله عز وجل ، فيكتبان ويُكْتَبُ عمله ، وأثره ، ومصيبته ، ورزقه ، ثم تطوى الصحيفة ، فلا يُزاد على ما فيها ولا ينقص " .
وقد رواه مسلم في صحيحه ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو - وهو ابن دينار - به{[20504]} نحوه . ومن طُرَق أخرَى ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة{[20505]} الغفاري بنحوه ، والله أعلم{[20506]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله وكّل بالرحم مَلكًا فيقول : أي رب ، نطفة . أيْ رب ، علقة{[20507]} أي رب ، مضغة . فإذا أراد الله خلقها قال : يا رب ، ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق والأجل ؟ " قال : " فذلك يكتب في بطن أمه " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به{[20508]} .
وقوله : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } يعني : حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال ، وشكل إلى شكل ، حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السَّوِيّ الكامل الخلق ، قال : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا علي بن زيد ، عن أنس ، قال : قال عمر - يعني : ابن الخطاب رضي الله عنه - : وافقت ربي ووافقني في أربع : نزلت هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } الآية ، قلت{[20509]} أنا : فتبارك الله أحسن الخالقين . فنزلت : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
وقال أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شَيْبَان ، عن جابر الجُعْفِي ، عن عامر الشعبي ، عن زيد بن ثابت الأنصاري قال : أملى عليَّ رسولُ الله هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } إلى قوله : { خَلْقًا آخَرَ } ، فقال معاذ : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول الله ؟ قال : " بها ختمت { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } {[20510]} .
جابر بن يزيد الجُعْفِي ضعيف جدًّا ، وفي خبره هذا نَكَارة شَديدة ، وذلك أن هذه السورة مكية ، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة ، وكذلك{[20511]} إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضًا ، فالله أعلم{[20512]} .
وقوله : ثُمّ خَلَقْنا النطْفَةَ عَلَقَةً يقول : ثم صيرنا النطفة التي جعلناها في قرار مكين علقة ، وهي القطعة من الدم . فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً يقول : فَجعلنا ذلك الدم مضغة ، وهي القطعة من اللحم . وقوله : فخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظاما يقول : فجعلنا تلك المضغة اللحم عظاما .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق سوى عاصم : فخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظاما على الجماع ، وكان عاصم وعبد الله يقرآن ذلك : «عَظْما » فِي الحرفين على التوحيد جميعا .
والقراءة التي نختار في ذلك الجماع ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله : فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْما يقول : فألبسنا العظام لحما . وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «ثُمّ خَلَقْنا النطْفَةَ عَظْما وعصبا فَكَسَوْنَاه لَحْما » . وقوله : ثُمّ أنْشأْناهُ خَلْقا آخَرَ يقول : ثم أنشأنا هذا الإنسان خلقا آخر . وهذه الهاء التي في : أنْشَأْناهُ عائدة على «الإنسان » في قوله : وَلَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ قد يجوز أن تكون من ذكر العظم والنطفة والمضغة ، جعل ذلك كله كالشيء الواحد ، فقيل : ثم أنشأنا ذلك خلقا آخر .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ فقال بعضهم : إنشاؤه إياه خلقا آخر : نفخه الروح فيه ، فيصير حينئذٍ إنسانا ، وكان قبل ذلك صورة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : نفخ الروح فيه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا هشيم عن الحجاج بن أرطأة عن عطاء ، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : الروح .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة ، في قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : نفخ الروح فيه .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : نفخ فيه الروح .
قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، بمثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : نفخ فيه الروح ، فهو الخلق الاَخر الذي ذكر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا يعني الروح تنفخ فيه بعد الخلق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : الروح الذي جعله فيه .
وقال آخرون : إنشاؤه خلقا آخر تصريفه إياه في الأحوال بعد الولادة : في الطفولة ، والكهولة ، والاغتذاء ، ونبات الشعر ، والسنّ ، ونحو ذلك من أحوال الأحياء في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ يقول : خرج من بطن أمه بعدما خلق ، فكان من بدء خلقه الاَخر أن استهلّ ، ثم كان من خلقه دُلّ على ثدي أمه ، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه ، إلى أن قعد ، إلى أن حبا ، إلى أن قام على رجليه ، إلى أن مشى ، إلى أن قُطِم ، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام ، إلى أن بلغ الحلم ، إلى أن بلغ أن يتقلّب في البلاد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : يقول بعضهم : هو نبات الشعر ، وبعضهم يقول : هو نفخ الروح .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قَتادة ، مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : يقال الخلق الاَخر بعد خروجه من بطن أمه بسنه وشعره .
وقال آخرون : بل عَنَى بإنشائه خلقا آخر : سوّى شبابه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ قال : حين استوى شبابه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد : حين استوى به الشباب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بذلك نفخ الروح فيه وذلك أنه بنفخ الروح فيه يتحوّل خلقا آخر إنسانا ، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفه الله أنه كان بها ، من نطفة وعلقة ومضغة وعظم وبنفخ الروح فيه ، يتحوّل عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية ، كما تحوّل أبوه آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانا وخلقا آخر غير الطين الذي خلق منه .
وقوله : فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه فتبارك الله أحسن الصانعين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ قال : يصنعون ويصنع الله ، والله خير الصانعين .
وقال آخرون : إنما قيل : فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ لأن عيسى ابن مريم كان يخلق ، فأخبر جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يخلق أحسن مما كان يخلق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، في قوله : فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ قال : عيسى ابن مريم يخلق .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد ، لأن العرب تسمي كل صانع خالقا ومنه قول زهير :
وَلأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْ *** ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمّ لا يَفْرِي
وَلأَنْتَ تَخْلُقُ ما فَريْتَ وَبَعْ *** ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمّ لا يَفْرِي
{ ثم خلقنا النطفة علقة } بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء . { فخلقنا العلقة مضغة } فصيرناها قطعة لحم . { فخلقنا المضغة عظاما } بأن صلبناها . { فكسونا العظام لحما } مما بقي من المضغة أو مما أنبتنا عليها مما يصل إليها ، واختلاف العواطف لتفاوت الاستحالات والجمع لاختلافها في الهيئة والصلابة ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر على التوحيد فيهما اكتفاء باسم الجنس عن الجمع ، وقرئ بإفراد أحدهما وجمع الآخر . { ثم أنشأناه خلقا آخر } وهو صورة البدن أو الروح أو القوى بنفخة فيه أو المجموع ، و { ثم } لما بين الخلقين من التفاوت ، واحتج به أبو حنيفة على أن من غصب بيضة أفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر . { فتبارك الله } فتعالى شأنه في قدرته وحكمته . { أحسن الخالقين } المقدرين تقديرا فحذف المميز لدلالة { الخالقين } عليه .