قوله تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً } أي : بالمعروف ، وهو البر والصلة والعشرة الجميلة ، { واتبع سبيل من أناب إلي } أي : دين من أقبل إلى طاعتي ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . قال عطاء عن ابن عباس : يريد أبا بكر ، وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، فقالوا له : قد صدقت هذا الرجل وآمنت به . قال : نعم ، هو صادق ، فآمنوا به ، ثم حملهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا ، فهؤلاء لهم سابقة الإسلام ، أسلموا بإرشاد أبي بكر . قال الله تعالى : { واتبع سبيل من أناب إلي } يعني أبا بكر ، { ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون } . وقيل : نزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقاص وأمه ، وقد مضت القصة . وقيل : الآية عامة في حق كافة الناس .
{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ } أي : اجتهد والداك { عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } ولا تظن أن هذا داخل في الإحسان إليهما ، لأن حق اللّه ، مقدم على حق كل أحد ، و " لا طاعة لمخلوق ، في معصية الخالق "
ولم يقل : " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما " بل قال : { فَلَا تُطِعْهُمَا } أي : بالشرك ، وأما برهما ، فاستمر عليه ، ولهذا قال : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } أي : صحبة إحسان إليهما بالمعروف ، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي ، فلا تتبعهما .
{ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } وهم المؤمنون باللّه ، وملائكته وكتبه ، ورسله ، المستسلمون لربهم ، المنيبون إليه .
واتباع سبيلهم ، أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى اللّه ، التي هي انجذاب دواعي القلب وإراداته إلى اللّه ، ثم يتبعها سعي البدن ، فيما يرضي اللّه ، ويقرب منه .
{ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } الطائع والعاصي ، والمنيب ، وغيره { فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فلا يخفى على اللّه من أعمالهم خافية .
وقوله : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } أي : إن حَرَصَا عليك كل الحرص على أن تتابعهما{[22955]} على دينهما ، فلا تقبل منهما ذلك ، ولا يمنعنَّك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفا ، أي : محسنًا إليهما ، { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } يعني : المؤمنين ، { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
قال الطبراني في كتاب العشرة : حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد ، حدثنا مسلمة بن علقمة ، عن داود بن أبي هند [ عن أبي عثمان النهدي ]{[22956]} : أن سعد بن مالك قال : أنزلت فيَّ هذه الآية : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } الآية ، وقال : كنت رجلا برًا بأمي ، فلما أسلمت قالت : يا سعد ، ما هذا الذي أراك قد أحدثت ؟ لَتَدَعَنّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت ، فَتُعَيَّر بي ، فيقال : " يا قاتل أمه " . فقلت : لا تفعلي يا أمَه ، فإني لا أدع ديني هذا لشيء . فمكثتْ يومًا وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت ، فمكثتْ يومًا [ آخر ]{[22957]} وليلة أخرى لا تأكل ، فأصبحتْ قد اشتد جهدها ، فلما رأيت ذلك قلت : يا أمه ، تعلمين والله لو كانت لكِ مائة نفس فخَرجت نَفْسا نَفْسًا ، ما تركت ديني هذا لشيء ، فإن شئت فكلي ، وإن شئت لا تأكلي . فأكلتْ{[22958]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىَ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإن جاهدك أيها الإنسان والداك على أن تشرك بي في عبادتك إياي معي غيري مما لا تعلم أنه لي شريك ، ولا شريك له تعالى ذكره علوّا كبيرا ، فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك بي ، وَصَاحِبْهُما فِي الدّنْيا مَعْرُوفا يقول : وصاحبهما في الدنيا بالطاعة لهما فيما لا تبعة عليك فيه فيما بينك وبين ربك ولا إثم . وقوله : وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليّ يقول : واسلك طريق من تاب من شركه ، ورجع إلى الإسلام ، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليّ : أي من أقبل إليّ .
وقوله : إليّ مَرْجِعُكُمْ فأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فإن إليّ مصيركم ومعادكم بعد مماتكم فأخبركم بجميع ما كنتم في الدنيا تعملون من خير وشرّ ، ثم أجازيكم على أعمالكم ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
فإن قال لنا قائل : ما وجه اعتراض هذا الكلام بين الخبر عن وصيتي لقمان ابنه ؟ قيل ذلك أيضا ، وإن كان خبرا من الله تعالى ذكره عن وصيته عباده به ، وأنه إنما أوصى به لقمان ابنه ، فكان معنى الكلام : وَإذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ : يا بُنَيّ لا تُشْرِكْ باللّهِ إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ولا تطع في الشرك به والديك وَصَاحِبْهُما فِي الدّنْيا مَعْرُوفا فإن الله وصّى بهما ، فاستؤنف الكلام على وجه الخبر من الله ، وفيه هذا المعنى ، فذلك وجه اعتراض ذلك بين الخبرين عن وصيته .
{ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم } باستحقاقه الإشراك تقليدا لهما ، وقيل أراد بنفي العلم به نفيه . { فلا تطعهما } في ذلك . { وصاحبهما في الدنيا معروفا } صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم . { واتبع } في الدين { سبيل من أناب إلي } بالتوحيد والإخلاص في الطاعة . { ثم إلي مرجعكم } مرجعك ومرجعهما . { فأنبئكم بما كنتم تعملون } بأن أجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما ، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال : وقد وصينا بمثل ما وصى به ، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يستحقاه في الإشراك فما ظنك بغيرهما . نزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثا لم تطعم فيها شيئا ، ولذلك قيل من أناب إليه أبو بكر رضي الله عنه فإنه أسلم بدعوته .