قوله تعالى : { فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } من مثل خلقكم حلائل . قيل : إنما قال : من أنفسكم لأنه خلق حواء من ضلع آدم . { ومن الأنعام أزواجاً } أصنافاً ذكوراً وإناثاً ، { يذرؤكم } يخلقكم ، { فيه } أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : على هذا الوجه من الخلقة . قال مجاهد : نسلاً بعد نسل من الناس والأنعام . وقيل : " في " ، بمعنى الباء ، أي : يذرؤكم به . وقيل : معناه يكثركم بالتزويج . { ليس كمثله شيء } مثل صلة ، أي : ليس هو كشيء ، فأدخل " المثل " للتوكيد ، كقوله : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } ( البقرة-137 ) ، وقيل : " الكاف " صلة ، مجازه : ليس مثله شيء . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس له نظير . { وهو السميع البصير }
{ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمته . { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } لتسكنوا إليها ، وتنتشر منكم الذرية ، ويحصل لكم من النفع ما يحصل .
{ وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا } أي : ومن جميع أصنافها نوعين ، ذكرا وأنثى ، لتبقى وتنمو لمنافعكم الكثيرة ، ولهذا عداها باللام الدالة على التعليل ، أي : جعل ذلك لأجلكم ، ولأجل النعمة عليكم ، ولهذا قال : { يذرؤكم فيه } أي : يبثكم ويكثركم ويكثر مواشيكم ، بسبب أن جعل لكم من أنفسكم ، وجعل لكم من الأنعام أزواجا .
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي : ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته ، لا في ذاته ، ولا في أسمائه ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، لأن أسماءه كلها حسنى ، وصفاته صفة{[776]} كمال وعظمة ، وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك ، فليس كمثله شيء ، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه . { وَهُوَ السَّمِيعُ } لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات . { الْبَصِيرُ } يرى دبيب النملة السوداء ، في الليلة الظلماء ، على الصخرة الصماء ، ويرى سريان القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جدا ، وسريان الماء في الأغصان الدقيقة .
وهذه الآية ونحوها ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، من إثبات الصفات ، ونفي مماثلة المخلوقات . وفيها رد على المشبهة في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وعلى المعطلة في قوله : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
وقوله : { فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خالقهما وما بينهما ، { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي : من جنسكم وشكلكم ، منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى ، { وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا } أي : وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج .
وقوله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : يخلقكم فيه ، أي : في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم {[25794]} فيه ذكورا وإناثا ، خلقا من بعد خلق ، وجيلا بعد جيل ، ونسلا بعد نسل ، من الناس والأنعام .
وقال البغوي رحمه الله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : في هذا الوجه من الخلقة .
قال مجاهد : ونسلا بعد نسل من الناس والأنعام .
وقيل : " في " بمعنى " الباء " ، أي : يذرؤكم به .
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي : ليس كخالق الأزواج كلها شيء ؛ لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
فَاطِرُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ
يقول تعالى ذكره : فَاطِرُ السّمَواتِ وَالأَرْضِ ، خالق السموات السبع والأرض . كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : فاطِرُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : خالق .
وقوله : جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً يقول تعالى ذكره : زوّجكم ربكم من أنفسكم أزواجاً . وإنما قال جلّ ثناؤه : مِنْ أنْفُسِكُمْ لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم ، فهو من الرجال . وَمِنَ الأنْعامِ أزْوَاجاً يقول جلّ ثناؤه : وجعل لكم من الأنعام أزواجاً من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ذكوراً وإناثاً ، ومن كل جنس من ذلك يَذْرَؤُكُم فِيهِ : يقول : يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم ، ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معنى ذلك : يخلقكم فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : نسل بعد نسل من الناس والأنعام .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : يَذْرَؤُكُمْ قال : يخلقكم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : نسلاً بعد نسل من الناس والأنعام .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، أنه قال في هذه الاَية : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : يخلقكم .
وقال آخرون : بل معناه : يعيشكم فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعام أزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يقول : يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : يعيشكم فيه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : عيش من الله يعيشكم فيه .
وهذان القولان وإن اختلفا في اللفظ من قائليهما فقد يحتمل توجيههما إلى معنى واحد ، وهو أن يكون القائل في معناه يعيشكم فيه ، أراد بقوله ذلك : يحييكم بعيشكم به كما يحيى من لم يخلق بتكوينه إياه ، ونفخه الروح فيه حتى يعيش حياً . وقد بيّنت معنى ذرء الله الخلق فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته .
وقوله : لَيْس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيه وجهان : أحدهما أن يكون معناه : ليس هو كشيء ، وأدخل المثل في الكلام توكيداً للكلام إذا اختلف اللفظ به وبالكاف ، وهما بمعنى واحد ، كما قيل :
*** ما إنْ نَدِيتُ بشَيْءٍ أنْتَ تَكْرَهُهُ ***
فأدخل على «ما » وهي حرف جحد «إن » وهي أيضاً حرف جحد ، لاختلاف اللفظ بهما ، وإن اتفق معناهما توكيداً للكلام ، وكما قال أوس بن حَجَر :
وَقَتْلَى كمِثْلِ جُذوعِ نّخيلْ *** تَغَشّاهُمْ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ
ومعنى ذلك : كجذوع النخيل ، وكما قال الاَخر :
سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذَا أبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ *** ما إنْ كمِثْلِهِمِ فِي النّاسِ مِنَ أحَدِ
والاَخر : أن يكون معناه : ليس مثل شيء ، وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام ، كقول الراجز :
*** وَصَالِياتِ كَكَما يُؤْثَفَيْنِ ***
فأدخل على الكاف كافاً توكيداً للتشبيه ، وكما قال الاَخر :
تَنْفِي الغَيادِيقُ عَلى الطّرِيقِ *** قَلّصَ عَنْ كَبَيْضَةٍ فِي نِيقِ
فأدخل الكاف مع «عن » ، وقد بيّنا هذا في موضع غير هذا المكان بشرح هو أبلغ من هذا الشرح ، فلذلك تجوّزنا في البيان عنه في هذا الموضع . وقوله : وَهُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول جلّ ثناؤه واصفاً نفسه بما هو به ، وهو يعني نفسه : السميع لما تنطق به من خلقه قول ، البصير لأعمالهم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولا يعزب عنه علم شيء منه ، وهو محيط بجميعه ، محصٍ صغيره وكبيره لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ من خير أو شرّ .
{ فاطر السموات والأرض } خبر آخر ل{ ذلكم } أو مبتدأ خبره . { جعل لكم } وقرئ بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى الله . { من أنفسكم } من جنسكم . { أزواجا } نساء . { ومن الأنعام أزواجا } أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا ، أو خلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وأناثا ، { يذرؤكم } يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس ، و{ الأنعام } على تغليب المخاطبين العقلاء . { فيه } في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد ، فإنه كالمنبع للبث والتكثير . { ليس كمثله شيء } أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه ، والمراد من مثله ذاته كما في قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى ، ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب ألا وفيهم الطيب الطاهر لذاته . ومن قال الكاف فيه زائدة لعله عني أنه يعطى معنى { ليس مثله } غير أنه آكد لما ذكرناه . وقيل " مثله " صفته أي ليس كصفته صفة . { وهو السميع البصير } لكل ما يسمع و يبصر .