قوله تعالى : { وضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنة } ، يعني : مكة ، كانت آمنة ، لا يهاج أهلها ولا يغار عليها ، { مطمئنةً } ، قارة بأهلها ، لا يحتاجون إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليه سائر العرب ، { يأتيها رزقها رغداً من كل مكان } ، يحمل إليها من البر والبحر ، نظيره : { يجبى إليه ثمرات كل شيء } [ القصص – 57 ] . { فكفرت بأنعم الله } ، جمع النعمة ، وقيل : جمع نعماء ، مثل بأساء وأبؤس ، { فأذاقها الله لباس الجوع } ، ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين ، وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة ، والجيف ، والكلاب الميتة ، والعهن ، وهو الوبر يعالج بالدم ، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ، ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : ما هذا ؟ ! هبك عاديت الرجال ، فما بال النساء والصبيان ؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون . وذكر اللباس ؛ لأن ما أصابهم من الهزال والشحوب وتغير مظاهرهم عما كانوا عليه من قبل كاللباس لهم ، { والخوف } ، يعني : بعوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كانت تطيف بهم . { بما كانوا يصنعون } .
{ 112 - 113 } { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } ،
وهذه القرية هي مكة المشرفة التي كانت آمنة مطمئنة لا يهاج فيها أحد ، وتحترمها الجاهلية الجهلاء حتى إن أحدهم يجد قاتل أبيه وأخيه ، فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم ، والنعرة العربية فحصل لها من الأمن التام ما لم يحصل لسواها ، وكذلك الرزق الواسع .
كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر ، ولكن يسر الله لها الرزق يأتيها من كل مكان .
هذا مثل أريد به أهل مكة ، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يُتخطَّف الناس من حولها ، ومن دخلها آمن لا يخاف ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا } [ القصص : 57 ]
وهكذا{[16712]} قال هاهنا : { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا } ، أي : هنيئها سهلا . { مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } ، أي : جحدت آلاء الله عليها ، وأعظم ذلك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ إبراهيم : 28 ، 29 ] . {[16713]} ولهذا بدَّلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما ، فقال : { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } ، أي : ألبسها وأذاقها{[16714]} الجوع بعد أن كان يُجبى إليهم ثمرات كل شيء ، ويأتيها رزقها رغدًا من كل مكان ، وذلك لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه ، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة{[16715]} أذهبت كل شيء لهم ، فأكلوا العِلْهِز - وهو : وبر البعير ، يجعل بدمه إذا نحروه .
وقوله : { وَالْخَوْفِ } ، وذلك بأنهم{[16716]} بُدِّلوا بأمنهم خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حين هاجروا إلى المدينة ، من سطوة سراياه وجُيوشه ، وجعلوا كل ما لهم في سَفَال ودمار ، حتى فتحها الله عليهم{[16717]} ، وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول الذي بعثه الله فيهم منهم ، وامتن به عليهم في قوله : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ آل عمران : 164 ] ، وقال تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولا [ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ] } [ الطلاق : 10 ، 11 ]{[16718]} الآية وقوله{[16719]} : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } إلى قوله{[16720]} : { وَلا تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 151 ، 152 ] .
وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم ، فخافوا بعد الأمن ، وجاعوا بعد الرغد ، بَدَّل{[16721]} الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا ، ورزقهم بعد العَيْلَة ، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم ، وسادتهم وقادتهم{[16722]} وأئمتهم .
وهذا{[16723]} الذي قلناه من أن هذا المثل مضروب لمكة ، قاله العوفي ، عن ابن عباس . وإليه ذهب مجاهد ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وحكاه مالك عن الزهري ، رحمهم الله .
وقال ابن جرير : حدثني ابن عبد الرحيم البَرْقي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نافع بن زيد ، حدثنا عبد الرحمن بن شُرَيْح ، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه ، أنه سمع مشْرَح بن هاعان يقول : سمعت سليم بن عتر{[16724]} يقول : صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وعثمان ، رضي الله عنه ، محصور بالمدينة ، فكانت تسأل عنه : ما فعل ؟ حتى رأت راكبين ، فأرسلت إليهما تسألهما ، فقالا : قتل . فقالت حفصة : والذي نفسي بيده ، إنها القرية التي قال الله : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } ، قال أبو شريح : وأخبرني عبيد الله بن المغيرة ، عمن حدثه : أنه كان يقول : إنها المدينة{[16725]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } .
يقول الله تعالى ذكره : ومثل الله مثلاً لمكّة التي سكانها أهل الشرك بالله هي القرية التي كانت آمنة مطمئنة . وكان أمنها أن العرب كانت تتعادى ويقتل بعضها بعضا ويَسْبِي بعضها بعضا ، وأهل مكة لا يُغار عليهم ولا يحارَبون في بلدهم ، فذلك كان أمنها . وقوله : { مُطْمَئِنّةً } ، يعني : قارّة بأهلها ، لا يحتاج أهلها إلى النّجْع كما كان سكان البوادي يحتاجون إليها . { يَأتِيها رِزْقُها رَغَدا } ، يقول : يأتي أهلها معايشهم واسعة كثيرة . وقوله : { مِنْ كُلّ مَكانٍ } ، يعني : من كلّ فجّ من فِجاج هذه القرية ومن كل ناحية فيها .
وبنحو الذي قلنا في أن القرية التي ذُكرت في هذا الموضع أريد بها مكة قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدا مِنْ كُلّ مَكانٍ } ، يعني : مكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنّةً } ، قال : مكة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنّةً } ، قال : ذُكر لنا أنها مكة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً } ، قال : هي مكة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنّةً . . . } إلى آخر الآية . قال : هذه مكة .
وقال آخرون : بل القرية التي ذكر الله في هذا الموضع مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : ثني عبد الرحمن بن شريح ، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرميّ ، حدث أنه سمع مِشْرَحَ بن عاهانَ ، يقول : سمعت سليم بن نمير يقول : صدرنا من الحجّ مع حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم وعثمان محصور بالمدينة فكانت تسأل عنه ما فعل ، حتى رأت راكبين ، فأرسلت إليهما تسألهما ، فقالا : قُتل فقالت حفصة : والذي نفسي بيده إنها القرية ، تعني : المدينة التي قال الله تعالى : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدا مِنْ كُلّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بأنْعُمِ اللّهِ } قرأها . قال أبو شريح : وأخبرني عبد الله بن المغيرة عمن حدثه ، أنه كان يقول : إنها المدينة . وقوله : { فَكَفَرَتْ بأنْعُمِ اللّهِ } ، يقول : فكفر أهل هذه القرية بأنعم الله التي أنعم عليها .
واختلف أهل العربية في واحد «الأَنْعُم » ، فقال بعض نحويّي البصرة : جمع النعمة على أنعم ، كما قال الله : { حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ } فزعم أنه جمع الشّدّة . وقال آخر منهم : الواحد نُعْم ، وقال : يقال : أيام طُعْم ونُعْم : أي : نعيم ، قال : فيجوز أن يكون معناها : فكفرت بنعيم الله لها . واستشهد على ذلك بقول الشاعر :
وعندي قُرُوضُ الخَيرِ والشّرّ كلّه *** فبُؤْسٌ لذي بُؤْسٍ ونُعْمٍ بأنْعُمِ
وكان بعض أهل الكوفة يقول : أنْعُم : جمع نعماء ، مثل بأساء وأبؤس ، وضرّاء وأَضُرّ فأما الأشدّ فإنه زعم أنه جمع شَدّ .
وقوله : { فأذَاقَها اللّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ } ، يقول تعالى ذكره : فأذاق الله أهل هذه القرية لباس الجوع ، وذلك جوع خالط أذاه أجسامهم ، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لمخالطته أجسامهم بمنزلة اللباس لها . وذلك أنهم سلط عليهم الجوع سنين متوالية بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أكلوا العِلْهِزَ والجِيَف . قال أبو جعفر : والعلهز : الوبر يعجن بالدم والقُراد يأكلونه . وأما الخوف فإن ذلك كان خوفهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت تطيف بهم . وقوله : { بِمَا كانُوا يَصْنَعُونَ } يقول : بما كانوا يصنعون من الكفر بأنعم الله ، ويجحدون آياته ، ويكذّبون رسوله . وقال : { بما كَانُوا يَصْنَعُونَ } ، وقد جرى الكلام من ابتداء الآية إلى هذا الموضع على وجه الخبر عن القرية ؛ لأن الخبر وإن كان جرى في الكلام عن القرية استغناء بذكرها عن ذكر أهلها لمعرفة السامعين بالمراد منها ، فإن المراد أهلها فلذلك قيل : { بِمَا كانُوا يَصْنَعُونَ } ، فردّ الخبر إلى أهل القرية ، وذلك نظير قوله : { فجاءَها بأْسُنا بَياتا أوْ هُمْ قائِلُونَ } ، ولم يقل قائلة ، وقد قال قبله : { فَجاءَها بأْسُنا } ؛ لأنه رجع بالخبر إلى الإخبار عن أهل القرية ، ونظائر ذلك في القرآن كثيرة .